غواية الفيس بوك

قد لا يَعدل غوايةَ فيس بوك ما لمواقع التواصل الاجتماعي الأخرى من غواية وإغراء. ومن أسباب غوايته أن صاحب الصفحة يملك زمام أمره، وهو ما لا يتيسر له في أي وطن آخر من أوطان عالم الإنترنيت. فالشخص يختار ما يكتب، وما يقرأ، وعلى من يعلّق، وممن يسرق. ويختار ما يشارك، وما يتجاهل. وهو من يختار مَن يصادق، ومن يفارق، ومن يقرّب، ومن يحظر. ويَعجب بما لم يقرأ! ويقرأ ولا يَعجب. ذلك أمر لا يجده المُبحر في المنتديات ولا في المواقع، حيث تسيّجه القوانين، وتلزمه القواعد. وشتّان بين أن يكون الفرد عضوا من بين ثُلّة، وأن يكون سيد نفسه، رئيسا لا مرؤوسا، أو هكذا يحدّث نفسه. يغري الفيس بوك بسرعة تواصله، ولغته الشفيفة. حيث نُهْزة الاقتصاص من الفصحى، وتعزيرِ الهمزة وتأديب المرفوع والمنصوب. لا يُضجر المنخرطَ انتظار، ولا طلبُ نشر، ولا موافقةُ لجنة محكّمة. كل ذلك يتيح للفرد انتفاشا وإحساسا أكثر بذاتٍ يمحقها واقع الشخص، حيث تتلاشى تحت ضربات الإقصاء والتهميش وعدم الاعتراف. هنا حرية القول والفعل التي تجعل من العالم الافتراضي يحتلّ مكان "حلم" فرويد، حيث يتحقق ما استعصى في دنيا الواقع. ولا عجب حينها أن يغدوَ الفيس بوك تصويرا رمزيا يخفي رغبات ومخاوف لاشعورية.

يمتاز الفيس بوك بلغة مخصوصة، مفرداتها إعجابٌ وتعليق ومشاركة وترويج ورسائل قصيرة وطلب صداقة ونَكْز. وكثير من مُواطني فيس بوك الجدد يجهلون أن عالمهم صغير جدا، لا يتسع إلا بكثرة الأصدقاء. وحين يكثر الأصدقاء تعسر المتابعة. ثمة تناسب عكسي بين عدد الأصدقاء والتواصل الإيجابي. إذ كلما زاد عدد الأصدقاء ضعف التواصل، وكلما قلّ الأصدقاء قوي ورسخ. لكن عدم التفطّن إلى أن عالم الفيس بوك لا معنى له دون أصدقاء وأتباع يجعل كثيرا من المنخرطين يدبّجون خطبا عصماء تتوجه إلى أمة مقدارها ألوف وملايين بالنصح والإرشاد، وليس لهم إلا صديق أو متابع واحد، قد يكون ابنَه أو زوجَه! وكثير من الوافدين يحمّلون لغة الفيس بوك ما لا تطيق، فليس للإعجاب عندهم غير معنى المعاجم اللغوية، فأنْ تعجب بشيء معنى ذلك أنه يسرّك، وواقع الحال أنك قد تعجب بما لا يسرّ. فلا يكون للإعجاب إلا معنى الاطلاع أو التفهّم أو المشاركة الوجدانية أو الشكر، فكأنك تقول للصديق: قد اطلعتُ على ما كتبتَ، أو: أعلنُ عن تضامني معك، أو: قد أدركتُ مرادك، أو: أشكرك على المعلومة. تلك أوصاف لغة أملاها إيقاع تواصل سريع، أريدَ له أن يلائم إيقاع حياة سريعة. أذكر أن صديقا ما إن أبلغ عن محاولة سرقة هاتفه المحمول وهو في الشارع، وكان لا يزال تحت وقع الصدمة، حتى تهاطل عليه الإعجاب من كل حدب وصوب. فليت شعري ما الذي أعجب الأصدقاء؟ أنْ يتعرض صديقهم للسرقة نكاية فيه؟! وإنما أعرَبوا عن تضامنهم وأسفِهم. ولا تدل "المشاركة" أو "الترويج" على الموافقة بالضرورة، فقد تشارك أصدقاءك ما لا يرضيك على سبيل الإبلاغ أو التشهير أو التحذير أو التنوير... إلخ. والإعجابُ والمشاركة كلاهما شريكان في جريمة الشّوَه النفسي، إذ يمهّدان سبيل البارانويا، ولذلك لا يَسلم أكثر المعجَبِ بهم من الهلوسة. فإنك تجد من مشاهير القنوات الفضائية من إذا عطس شمّته آلاف الأصدقاء. وتجد من أهل الفن من إذا ضحك ضحكت لضحكِه الملايين، ومن نجوم الرياضة من إذا قال سارت بقوله الرّكبان. ثم إنك تجد من أهل العلم والأدب والخبرة من يكتب فلا يُعجب، ويقول فلا يكون لقوله صدى. فاعلم -ثم اعجبْ أو لا تعجبْ- أن فنانة البوب "ريهانا" من أشهر مواطني فيس بوك، وأن لها أكثر من 70 مليون متابع ومعجب مفتون، وأنها باعت أكثر من 37 مليون ألبوم، وأنها تصنّف ضمن الفنانين الأكثر تأثيرا في جيلهم. ورُبّ إعجاب أورث عُجبا! على أن كثرة الأصدقاء والمتابعين قد لا تخلو من أثر بالغ، فقد توقظ النيام وتؤجّج الثورات، ولاسيما في دول العرب.

وعلى كل حال فقد تفطن ابن الجوزي لسلوك الدهماء وإن لم يكن له حساب على الفيس بوك، وإن لم يفكر في أن يجعل لما يكتب كلمة سر:

يروْن العجيبَ كلام الغريبِ ؞؞؞ وقول القريب فلا يُعجبُ

وعُذرُهمُ عند تَوبيخهم ؞؞؞ مُغنيّة الحيّ ما تُطربُ

ويخطئ كثير من مواطني هذا العالم حين يحمّلون صداقة الفيس بوك ما لا تحتمل، فيقيسون صداقة الافتراض على صداقة الواقع، فيقترفون إثمَ قياس الغائب على الشاهد. وواقع الحال أن لصداقة الفيس بوك ثلاث ميزات رئيسة:

أولا: من الممكن أن تصادق من لا تعرف. ثانيا: من الممكن أن تُنشئ صداقة في دقيقة وتحلّها في الدقيقة الموالية. ثالثا: قد لا تُلزمك الصداقة أي شيء.

ولئن كان قِوام الصداقة أُلفة ومخالطة فإن الفيس بوك أبدع ضربا من الصداقة لا تكون المخالطة فيه إلا عن بُعد. وذلك إنجازٌ رفَع التناقض عن حدَّي القرب والبُعد، وأجاز ما لا يجوز. ولأن الفيس بوك سمع مقالة ابن المقفع: "مِن علامة الصديق أن يكون لصديقِ صديقِه صديقا"، فهو لا يفتأ يُعرّف الأصدقاء بعضهم ببعض، دائم الاقتراح والبدار. وإنك لتجده ساعيا إلى تأليف القلوب، وجمعِ الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا. وله في ذلك أجر ولا ريب، فإن معرفة الرجال كنز، ولاسيما من هم محل الاقتداء ومظنّة الخير. لكن الصداقة قد تصير وبالا حين تتقدّم صداقةُ المتعة وصداقةُ المنفعة صداقةَ الفضيلة، وحينها ينتحب أرسطو. وكأني به يقول: "الصديق من صدَقك لا من بادَلك الإعجاب". وقد يحدث أن يكون "المعلّقون" مزعجين، بيد أن الصامتين قد يصيرون أكثر إزعاجا. تماما مثلما أزعج غيرُ المبالين برنارد شو أكثر مما أزعجه منتقدو مسرحياته.

نبحث عن الصديق طلبا للكمال، ذلك أن النقص هو ما يجعل الإنسان يبحث عن الخير لدى الغير، لكن شرط ألا يكون النقص مطلقا. ذلك ما يقرّره أفلاطون، إذ الصداقة عنده محبة متبادلة بين الأنا والغير قوامها حالة وجودية بين الكمال المطلق والنقص المطلق. لكن ماذا نشترط في الصديق؟ جواب أفلاطون أن نجد عنده ما نحتاجه من الكمال. فلحظة الفرح نبحث عنه لنزداد فرحا، ولحظة الحزن نبحث عنه للمواساة. وذلك دليل عدم اتصاف الإنسان بالكمال لأن الكامل يستغني بذاته، ولا حاجة له لا إلى مواساة وقت الحزن، ولا إلى مشاركة وقت الفرح. لكن، هل بوُسع الفيس بوك أن يفِيَ بشرط المحبة؟ هل يَقدر أن يقيم الألفة والتعاطف على بُعد الديار واختلاف الألسن وتنوّع المشارب وتباين الأحوال وتعدّد الأهواء؟ رّب أخ لم تلده أمك، فما بال أقوام من المتشككين؟

لكن هذا العالم ليس ناديَ صداقة ومحفلَ أصدقاء وحسب، وإنما هو مجمع الأعداء والمتنافسين أيضا، ففيه تَصدق مقولة كوجيف عن الذات التي تسعى دائما إلى حيازة اعتراف الآخر دون أن تعترف له بأي شيء.

وفي الفيس بوك يجتمع ما لا يجتمع، وتتلاشى الفوارق، وتختلط المقامات، وتكثر الألقاب، ولمن شاء أن يدعي ما شاء، وينتحل صفة من شاء، ويَشيع التمدّح والصّلف والغرور، حتى يصير بِوُسع الجاهل أن يجادل العالِم، ويردّ المتعلم قولَ الخبير، ويدعي الفقير الغنى، ويتواضع الكبير، ويتكبّر الصغير. ويتجمّل الدّميم، وترفع الشّوهاء صورة ملكة جمال، وتستر ذات الجمال جمالَها بستر الحياء. وفي عالم الغَرر هذا يصير ذو الشنب "هيفاء"، ويغدو "سعيد" "سعيدة"، وبلا عقيقة جديدة، تصبح "مبروكة" "كاترين". هنا مجمع الهُزَأة والجاد، وصاحب الرسالة وطالب التسلية، وناشد التعرف لذاته، وباغي الصداقة لفائدة يُقدّرها. في الفيس بوك تزول الحدود بين السياسة والفكر والاجتماع والاقتصاد والتسلية، ويتلاشى التقسيم المدرسي والاصطلاح الأكاديمي، ويغدو المجال مفتوحا للإعلان والإشهار والبيع والشراء، وعرض الخدمات والسلع. ثم ما يلبث أن يصير موقع التواصل الاجتماعي موقعا للتواصل السياسي والفكري والاقتصادي. وفضاءً لتعميم الشخصي، فهو عند بعض المنخرطين فرصة لتعميم أدقّ التفاصيل. وكثير من الأصدقاء يَعرف غرف البيت وأركانه كما يعرفُه صاحبُه، فهذه صورة المطبخ، وتلك صورة غرفة الضيافة، بل يعرف الأبناءَ وأمَّهم والجيران، ومناسبات العائلة وأين حلّ الصديق وإلى أين ارتحل. فلكل جلسة صورة، ولكل وقفة صورة، ولكل لباس صورة، وبقدر تعدد الأمكنة واختلاف الأزمنة وتجدد الحوادث تكون الصور والأخبار. حتى إنه من غواية الفيس بوك أن من لم يجد حادثا يستحق الذكر أخبر الأصدقاء أن زوجته نسيت أن تضع السكر في قهوة المساء، أو أن منبّه الصباح لم يرنّ. ولذلك يتبارى الأصدقاء في الضرب على الحروف في هيستيريا جماعية، وحتى المصابون بالأغرافيا منهم تنحلّ عُقدتهم! لكن بعض الأذكياء يُحسن جعل المسألة الخاصة مسألة عامة، فيغدو الحدث العادي مدخل تأمل، وانفتاحا على الممكن، ومتَّسعا لرحابة الخيال.

وقد يكون أكثر ما يستجلب القرفَ انتشار الدعاوى وكثرة الأدعياء. فقد تكتشف أن صديقك "الشنفرى" بينه وبين الشعر ما بين السماء والأرض، وأن صديقك المحلل النفسي كهربائي، وأن خبيرَ التنمية البشرية مرافق سياحي، والمهندسَ تاجر دواجن. وقد تجد صورة لمواطن من جزيرة بالميرا يعتلي رأس أبي الهول، ثم تراه يُبلغ تحياته لأصدقائه من أماكن سياحته عبر العالم من داخل غرفته الضيقة ضيق القبر، ولا شيء يُعجز محترفي الفوتوشوب. تساءلت مرة إن كان هذا السائح يملك "البُراق" حتى يكون اليوم في باريس وغدا في أرخبيل تواموتو! وذات فيس بوك وجدتُني بزيّ جنرال في صورة كبيرة بأحد شوارع دمشق وسط دمار هائل، مرفقة بابتسامة الصديق. ومن صور الادّعاء أن ترى مناضلا في مسيرة حاشدة من مسيرات الربيع العربي وبلدُه لم يشهد ربيعا ولا خريفا. أو تراه يلقي حجارة على الشرطة وقد كانت متوجهة إلى بِركة ماء قبل أن يفعل المحترفون فعلَهم. فلا تعجب إذا ألفيتَ بقّال الحيّ يلقي محاضرة بأكسفورد! تلك أشياء تهون، لكن المزعج حقا أن تصادف الجاهل يجادل العالم ولا يعتريه الخجل. ولقد رأيتُ السوقة والرّعاع يردّون قول فلكيّ عربي صرّح بأنه في سنة ميلادية معلومة سيحجّ المسلمون مرتين ويعيّدون ثلاثة أعياد في السنة نفسها. بل لم يتورع بعضهم عن نسبته إلى الجهل والشعوذة وادعاء العلم بالغيب، والقولُ مؤسَّس على حقيقة بسيطة لا تزيد على التنبّه لما بين السنة الهجرية والسنة الميلادية من فرق في عدد الأيام. ولقد وجدتُ الجهَلة أصنافا، هذا يقول: "لعن الله الحشيش!"، وآخر يقول: "خالفْ تُعرف!". ولقد كان يكلّف الجاهلَ علمُ ذلك طلبا، وفهمُه جهدا، والردُّ عليه تأليفا بل حُمقا، لولا أنه زمن الفيس بوك! ولئن كان لردود الجهلة من فضل فهو أنها أقنعتني بجدوى كتاب جيمس تريفيل "لماذا العلم؟".

ربما كانت غواية الفيس بوك في أن كل إنسان يجد فيه بُغيته، فيعمل فيه على شاكلته. ففيه غواية الكتابة، وغواية النشر، وغواية الإعجاب، وكثرة الأصدقاء، وغواية الحرية، والنصب والاحتيال، وغواية البيع والشراء، وسرعة التواصل، والهرب من الواقع، وحيازة الاعتراف، وإثبات الذات. ولذلك يتراءى الفيس بوك عيادة للبوح عند المقموعين والمنبوذين، وهو محلّ اختمار أفكار لم تنضج بعد عند محترفي الكتابة، ولا يلبث هؤلاء أن يلمّوا شتات خواطرهم المدونة على عجل. وهو مكانُ لقاء الأحبة والأعداء، هؤلاء يلتقون لمعارك متجددة، وأولئك لبث الأشواق والحنين. وآخرون يلتقون لتبادل الشتم والسّباب، وذلك نوع من التواصل الاجتماعي عجيب، حيث لا يكون التواصل إلا لأجل التقاطع، ولا يُرام الوصل إلا ابتغاء القطيعة. وبعضٌ آخر يتنافسون أيّهم أكثر وقاحة وأبعدهم عن الحياء. ولا يخلو المكان من أهل الحكمة والرشاد.

ذلكم هو الفيس بوك، وهو بما فيه ينضح. ولئن كان سَنن هذه الغواية أن تبدأ وصْلا وبوْحا، فإنها ما تلبث أن تصير هوسا بلا وجهة ولا غاية. لكنْ، إذا كان الفيس بوك لا يخلو من مكامن الغَرر فأي شيء لم يخالط صفوَه الكدر؟

وسوم: العدد 895