لا داعي للهروب فالمكان محاصر!

ghjk899.jpg

لماذا لا يرد القوم في القاهرة على ما أذاعته «سي إن إن»؟! فليست القناة المذكورة محطة تلفزيونية من محطات «بئر السلم»، حتى يمكن تجاهل ما أذاعته، إلا إذا كان الصمت هو علامة التسليم بصحة ما قالته، وهو خطير في كل المعايير!

فالقناة الأمريكية أذاعت خبر تورط بنك مصري في تحويل عشرة ملايين دولار، دولاراً ينطح أخيه، للمساهمة في حملة دونالد ترامب المرشح للانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016، وقالت القناة إن القضية أثيرت من قبل، ولم يقدم مسؤولو البنك ما يؤكد صحة كلامهم، وهو النفي بطبيعة الحال، وقد أثير الموضوع من جديد بمناسبة الانتخابات الرئاسية الحالية، ومن الطبيعي أن يشهر كل مرشح أسلحته، وأنصار ترامب أعادوا من جديد إثارة الإيميلات الخاصة بالمنافسة السابقة هيلاري كلينتون، بعد اختراق بريدها الإلكتروني، ومنذ اللحظة الأولى للتسريبات هذه المرة تلقفها الذباب الإلكتروني للإنقلاب العسكري في مصر، والسير بها في اتجاه أنها تكشف أن ثورة يناير مؤامرة أمريكية، وأن تولى الإخوان الحكم هو جزء من هذا المؤامرة، ولم يكن شيء من هذا قد حدث، بل إن السياق العام لهذه الإيميلات المسربة يؤكد أن الثورة فاجأت القوم، وأن الاتصالات التي تمت بيهم وبين الإخوان وغيرهم من القوى التي شاركت في الثورة، حدث مثلها مع أعضاء المجلس العسكري، الذين لم يحموا الثورة، فأين العمالة إذن؟!

ويأتي تحويل مسار رسائل كلينتون في وقت يتحرش فيه الجنرال الحاكم لمصر بثورة يناير، والتي يعتبرها شماعة يعلق عليها كل فشله، وأنها وراء بناء سد النهضة، مع أنه هو الذي كان يحكم البلاد عندما بدأ البناء، وأنه من أعطى موافقة مصر على ذلك بدون قيد أو شرط، مما سهل تقديم القروض والمساعدات لأثيوبيا للبناء، ولم يكن لثورة يناير هنا من خطأ سوى لولاها لكان من يرأس مصر الآن هو جمال مبارك، وكان غاية ما يشغل عبد الفتاح السيسي أن يرفع السيد الرئيس معاشات العسكريين، ليمكنه أن يجابه بالزيادة تكاليف المعيشة المرتفعة!

فلولا ثورة يناير لم يكن السيسي أصبح رئيسا للدولة، ولما أمكن له أن يوقع على اتفاقية المبادئ هذه من وراء ظهر الشعب المصري، طائعاً مختاراً، وذلك في سبيل تعزيز شرعيته خارجياً، افريقياً واسرائيلياً، وهي الشرعية التي ضن بها على الشعب المصري، فذهب يتحرش بثورته، ويرى أن هذه الثورة كشفت ظهر مصر وعرت كتفها.

مبارك والإرتجال

وموقف السيسي من ثورة يناير في التغير المناخي، ففي الشتاء يشيد بها، ثم يهاجمها في باقي فصول السنة، وقد عرض برنامج «المسائية» على «الجزيرة مباشر»، فيديو يجمع هذه المواقف المتناقضة في المواسم المختلفة، وانتبه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح في مداخلته مع البرنامج إلى أنه عندما يشيد بها يقرأ من ورق مكتوب له، بينما يكون مرتجلاً عندما يهاجمها. وهو أمر يذكرنا بالرئيس مبارك في بداية عهده، عندما كان يعتقد أنه «خفيف الظل»، ويمكن أن يكون مسلياً كالسادات إذا ارتجل!

وبينما كان خطابه المكتوب مبشراً بوضع اقتصادي مستقر، ومستقبل مزدهر رغم التحديات، بدا لم يفهم شيئاً مما يقول، ولهذا ارتجل وقد نسف الخطاب المكتوب نسفاً وقال إنه لن يضحك على الشعب، وهو يلمح إلى البشرى التي كان قد زفها السيسي وهو يطالب بانتظار عام الرخاء، وتحول الأمر إلى مبرر للسخرية منه، فعام الرخاء لم يأت أبداً.

وقال مبارك وهو يرتجل إن هذه السنة سوداء والسنة المقبلة أكثر سواداً، وإذ كان يلقي خطابه في البرلمان، فقد ذهبت الكاميرا إلى النواب الذين اندفعوا يصفقون له ويضحكون نفاقاً على خفة الدم المفتقدة، فشاهدنا المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة وهو يشير له بأن يعود للخطاب المكتوب!

من التقاليد البرلمانية أن رأس الدولة هو من يفتتح أعمال البرلمان في كل عام، بعد الإجازة السنوية، وهو إجراء حافظ عليه السادات ومبارك، والأول أسرف في إلقاء الخطب أمام النواب، في حين آن الأخير كان يفعلها في كل عام فقط وفي حدود هذه الضرورة البرلمانية، بيد أن السيسي لم يحافظ على هذا التقليد، ربما ينتظر إلى حين انتقال مبنى البرلمان للعاصمة الإدارية الجديدة، حيث يمكنه هناك أن يطمئن على أمنه، ويدفع عنه الهواجس المقلقة.

وربما وجد الذباب الإلكتروني في إيميلات هيلاري كلينتون وتحويل مسارها إلى ما يمثل إساءة للثورة باعتبارها مخططا أمريكيا، مناسبة للتغطية على ما أذاعته قناة «سي إن إن»، من أن بنكاً مصرياً قام بتحويل عشرة ملايين دولار للمساهمة في تمويل حملة ترامب، فكانت تسريبات كلينتون بمثابة قنبلة الغاز التي تستهدف ستر العورات، وصرف الأنظار بعيداً عما أذاعته القناة الأمريكية، وهو ليس جديداً، بحسب ما أذاعته، لكن المثير حقاً القول إن المسؤولين في البنك المصري لم يقدموا المستندات التي تثبت صحة نفيهم للقيام بذلك.

لا يعنيني الجانب الأمريكي في الموضوع، فالمحكمة العليا استبعدت القضية، وهي محكمة ليست بعيدة عن السياسة، ومن الواضح أنها لم تجرؤ على دحض هذا الاتهام أو نفيه، وهناك من الشبهات التي تحيط بفوز ترامب لم يتم نفيها، وظني أن هذا قد يكون موضوعا لتحقيقات طويلة إذا لم يفز ترامب في هذه الانتخابات، وليس هذا موضوعنا!

مصر الفقيرة!

فالذي يعنينا هنا أنه على الرغم من هذا الإعلان من قبل فضائية بحجم القناة المذكورة، فإن أهل الحكم في مصر تصرفوا على أنهم ليسوا هنا، وأن على قلوبهم أكنة، وفي آذانهم وقراً، فلم يردوا على هذا الكلام، وهو صمت ليس علامة الرضى، فلسنا في مقام الحصول على موافقة صاحبة الصون والعفاف على المتقدم لخطبتها، ولكنه علامة التسليم بصحة ما أذيع، والذي لم تعلنه صحيفة صفراء، أو قناة «الفراعين»!

ولو أراد القضاء الأمريكي التحقق لفعل، فلا يمكن تحويل دولار واحد من بلد إلى بلد، بدون أن يعلم بذلك «الراعي الأمريكي»، لكن من الواضح أن هناك تواطؤا أمريكيا مع ترامب لا يعنينا، فما يهمنا هو أن هذا حدث في وقت كان فيه السيسي لا يمل من الحديث عن فقر البلد، وأنها شبه دولة، وشعاره «مافيش»، ولو كنت أستطيع «أديك لأديتك»، ولو كان «ينفع أتباع اتباع»، وفي هذا الوقت يتم تقديم رشوة لحملة ترامب قدرها عشرة ملايين دولار، ندرك تماماً أنه لا يمكن التوصل إلى فقدها بالاطلاع على الموازنة العامة للدولة، فمصر في عهد السيسي تدار كمحلات البقالة زمان، وقبل عصر «السوبر ماركت»، حيث الإدارة بواسطة «النوتة الزفرة»، والتي يقيد فيها صاحب المحل عملياته، أما كونها «زفرة» فمن كثرة الاستعمال في محل فقير.

قبل ساعات من كتابة هذه السطور قال وزير المالية المصري، إن السيسي وجه إلى تخصيص مبلغ من المال في الموازنة الجديدة لمواجهة كورونا لن يعلن عن قيمته، وهو أسلوب جديد في إدارة الدول، عندما تهبط الدولة لتكون في حجم محل بقالة.

لا داع للهروب، فالمكان محاصر، ولا بد من الرد على «سي إن إن»، وإلا فالصمت ليس له سوى معنى واحد، وهو أنه تم دفع عشرة ملايين دولار من لحم الحمى رشوة للعاهل الأمريكي!

من الطبيعي أن يعجب ترامب بديكتاتوره المفضل وأن يمتدح حذاءه.

وسوم: العدد 899