جَنةُ البُلهاء وجحيمُ العُقلاء

كنا نجلس على حافة المدينة وأمامنا البحر.

سألتني ع. عن معنى كل هذا. «أسقطنا حكومة مافيا النهب والمحاصصة في الشارع منذ سنة. واليوم يعود الحريري ومعه المحاصصة إياها وسط صمتنا ولا مبالاتنا، بل وشعور البعض بالارتياح لأنه يريد الخلاص، حتى ولو كان يعرف أن لا خلاص على أيدي عصابة اللصوص الحاكمة. ما معنى هذا»؟

هذا يعني أن «الانتفاصة اللبنانية تراجعتْ وتعبتْ»، قلت.

«لماذا لا تقول إنها انهزمتْ»، قالت. «وهذا يعني أنهم انتصروا».

أردت أن أقول لها إن هزيمتنا لا تعني انتصارهم، فهم في الحفرة ولن يخرجوا منها. كما أن كلمة انهزمنا ليست دقيقة، الكلمة الملائمة هي انكسرنا، وتعبير الانكسار يعود إلى الموج، فالموجة تنكسر على الشاطئ أو بفعل ارتطامها بالصخور أو بكاسر الموج، لكننا لا نستطيع أن نقول إن الموجة انهزمت. فالموجة جزء من تموّج البحر، وهي تتجدد لحظة انكسارها. والشعوب المقهورة هكذا، قد تنكسر لكن موجها لا ينهزم.

أما المافيا الحاكمة فلا قدرة لها على احتمال ما تستطيعه الأمواج، فانكسارها يعني هزيمتها.

أعجبتها فكرة التمييز بين الهزيمة والانكسار، لكنها قالت مبتسمة: «نحن العرب شاطرون في التلاعب بالكلام، نظن أن الكلمات تستطيع ترميم واقع لا يمكن ترميمه».

قلت لها إن ما تُطلق عليه اسم الشطارة انتهى من زمان، فالكلام مات في الأفواه، وصارت الأنظمة العربية تشبه جثثاً تعلك جثث الكلمات، لذلك لجأتُ إلى لغة البحر كي أستطيع أن أعبّر.

أردت أن أضرب لها مثلاً على ما أقول فوجدت أمثلة لا تحصى. تجنبت بالطبع اللجوء إلى القاموس السياسي اللبناني السائد، لأن ابتذاله وانحطاطه يصم الآذان، فسألتها عن رأيها في الخطاب الذي يسوّقه حكام الخليح لتبرير لجوئهم إلى إسرائيل التي لا يخفي قادتها احتقارها لهم.

لكن ماذا أقول لشابة لبنانية عاشت انفجار المرفأ الذي ترك بصماته المؤلمة على روحها وجسدها.

«هل تشعرين أنك مهزومة»، سألتها.

«أشعر بالأحرى بالقرف»، وقالت إن مشكلتها ليست في الكسور والجروح التي أصيبت بها، فجروح الجسد تندمل، أما جروح الروح…

كيف أصف جروج الروح، هل رأى أحد منكم أيتها السيدات والسادة روحاً تنزف ألماً؟ تعالوا إلى بيروت، وسترون في مرايا عيون الناس أرواحهم تتدثر ببياض العيون وتنزف بصمت.

«الهزيمة شاملة، ألا ترى دمشق والقدس وعمان والقاهرة وصنعاء وأبوظبي والخرطوم؟ ألا ترى كيف تمزقت أرواح الأمكنة، ألا ترى الخوف»؟ قالت ع.

قلت أراها وأرى أيضاً باريس المضرّجة بالرأس المقطوع وبخطاب فقد كل مرجعية أخلاقية. أخاف عدمية العاجزين الذين حوّلوا العقائد الدينية إلى خرقة ممزقة. كما أخاف خطاب رُهاب الإسلام الذي صار مطية للشعبوية العنصرية.

«هل رأيت تلك اليافطة التي رفعها متظاهرون في فلسطين المحتلة تجمعوا أمام حاجز قلنديا بانتظار أن يأذن لهم جيش الاحتلال بالعبور معلنين أن «فتح باريس هو الرد»، باريس وليس القدس أو حيفا أو الخليل أو نابلس».

قلت رأيتها.

«هذه ليست موجة انكسرت، إنها عاصفة تهبّ علينا من كل مكان وتبتلعنا. أنت تتكلم عن أمواج البحار وتنسى أن هناك مداً وجزراً، نحن يا عزيزي في الجزر ولسنا أمام انكسار ظرفي لموجة».

كدت اقتنع برأيها، لولا أن الإقامة في الحروب اللبنانية علمتني الصبر والانتظار، وأعادتني إلى الدرس البليغ الذي قدّمه ابن المقفع حين ميّز بين لبّ الجوزة وقشرتها. فكي تصل إلى اللبّ عليك أن تكسر الجوزة. قلتُ إن جوزة السلطة انكسرت، ولا مجال لترميمها، وما نراه ليس سوى شظايا القشور التي قد تعمي العيون لفترة، لكنها لا تستطيع حجب عَفَن اللُبّ.

ابتسمت ع. قبل أن تقول بأنني ألجأ إلى الأدب كي أعزّي نفسي.

قالت وقلت، حدثتها عن الأعماق التي يأخذنا إليها الأدب والفن، فأجابتني عن دمار الثقافة العربية وارتهانها لبائعي الكاز، أخبرتها عن سحر البيان، فأجابتني عن عبث التبيين الذي يحجب بدل أن يكشف.

قلت معك حق، وسمعتها تجيب وأنت أيضاً قد تكون محقاً.

أين الحق؟

هل صارت كورونا هي حقيقتنا الراهنة، وهل تحولت إلى رمز لعبثية هذا الزمن العنصري الديني الأجوف؟

تعالي نعود إلى لبنان، لنقرأ معاً لبّ العفن، الذي يقول إننا أمام موجة انكسرت ولسنا أمام النهاية.

انظري إلى «انتصار» مافيا السلطة الأجوف.

جاءتهم فرصة لا تتكرر من أجل ترميم نظامهم، وبدل أن يأخذوها لأنها الوسيلة الوحيدة لإنقاذهم من مصيرهم الأسود، لبطوها بالأحذية الطائفية التي لا يستطيعون خلعها ولو لستة أشهر.

بهدلوا فكرة حكومة «المهمة» التي اقترحها إيمانويل ماكرون كحبل نجاة لهم، وأعادوا الحريري إلى السلطة بصعوبة، وبدلاً من تشكيل حكومة محاصصة خفية برزت العُظامية العونية الباسيلية لتلعب آخر أدوارها التدميرية.

وغداً قد تتشكل الحكومة وقد يتعرقل التشكيل، لكن سيّان، فلقد قررت المافيا أنها لن تتوقف عن النهب، ولو كان ثمن ذلك تدمير ما تبقى من لبنان.

انتهت اللعبة. جشع السياسيين وحمقهم وبلاهتهم تقود البلاد إلى خرابها، وتطرد التفكير العقلاني من الحلبة السياسية لمصلحة غيبية طائفية عمياء.

ذئاب لا تشبع، وتفاهة بلا حدود.

صار لبنان جنة البلهاء وجحيم العقلاء.

سقط النظام متأثراً بعفنه، وانقلب السحر على الساحر. ولن يستطيع نبيه برّي بصفته النجم الأخير في هذا السيرك، إنقاذه.

نجمتهم خبتْ يا صديقتي، وعلينا أن ننتظر، فكاسر الموج الطائفي يتعفن من الداخل.

وسوم: العدد 901