وترجل الفارس عن صهوة جواده

komhg902.jpg 

من الصعب على النفس أن يرثي الأخ أخاه، الذى عايشه فى محطات عديدة وجمعت بينهما ذكريات مشتركة ، لكنها سنة الحياة ، لا خلود لأحد فى دار الفناء.

اليوم تودع الأمة العربية والإسلامية ، الطبيب الإنسان ، الداعية الصابر المحتسب ، الرجل الذى عرفته أوروبا ومدينة (Reus) بكريم خلقه وعلو همته . كان يحمل هم أمته ، لنقل الدعوة إلى أوروبا مع مجموعة من رفاق دربه، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

لقد انتهج فارسنا منهج الوسطية والاعتدال فى بلاد المهجر فكان نموذجاً للداعية المهموم بدعوته ، يجمّع ولايفرّق، هذا على الصعيد الدعوى، أما على الصعيد الاجتماعى فقد كان- يرحمه الله تعالى- مصلحاً بين إخوانه ومحباً لهم، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم.

وقد تشرفت بمقابلته، والتعرف عليه حينما كنت إماماً وخطيباً للمركز الإسلامى بمدينة بلنسيا بإسبانيا، كما زرته فى بيته والتقيته مرات عديدة. عرفته طبيباً يحمل سماعته الطبية بيده اليمنى ويضع يده الأخرى على جبين مريضه مواسياً ومخففا من آلامه والإبتسامة لاتفارق فاه ، ناطقاً بأعذب الكلمات ودعاء خالص وتمن بالشفاء. وبعد حياة حافلة بالبذل والعطاء لبى نداء ربه لتبدأ بعد موته ذكرى عطرة تتحدث عن نفسها من خلال أعماله الجليلة التي قدمها لأمته ودعوته فى بلاد الغربة.

إنه الدكتور “أحمد طريف الدباغ”، ابن “حلب الشهباء” فقد ولد فى حلب عام ١٩٤٨ م.

وسافر إلى إسبانيا فى عام ١٩٦٨م.

والتحق بكلية الطب في مدينة غرناطة .

حيث تجمع عددٌ طيبٌ من الطلاب العرب والمسلمين الذين وفدوا للدراسة في إسبانيا خلال هذه الفترة، نظراً للعلاقة الطيبة بين إسبانيا والبلاد العربية ، وعدم توافق النظام الإسبانى مع الكيان الصهيونى، حيث لم تكن هناك علاقات دبلوماسية بين مدريد والكيان الصهيونى. كانت نواة هذا التجمع الطيب، الأخوة الكرام، الداعية والمربي الشهيد “نزار أحمد الصباغ” والدكتور” بهيج ملا حويش” والدكتور “أحمد طريف الدباغ”- وأخرون- رحم الله الجميع. ويعتبر هذا التجمع، هو التجمع الأول للطلبة المسلمين هناك .

فقد نجح هؤلاء الشباب ، فى تأسيس اتحاد الطلبة المسلمين أولاً، تميهداً للبدء في تأسيس تجمعات أخرى في عدد من المدن الإسبانية الأخرى، خاصة فى العاصمة مدريد وبرشلونة وإشبيليا وفالنسيا، ومن ثم إنشاء المركز الإسلامي في إسبانيا والجمعية الإسلامية، وكان الدكتور طريف- يرحمه الله- من أوائل المشاركين، فى هذه المراكز والجمعيات.

وقد لاقت هذه المراكز والجمعيات قبولاً جيداً، في الأوساط الإسبانية وبين صفوف الطلبة القادمين من المشرق العربي، للدراسة فى الجامعات الإسبانية المختلفة.

وقد تميز المركز الإسلامي في إسبانيا ،بالحيوية والنشاط وعقد اللقاءات والندوات والمؤتمرات الطلابية التي كان يُدعى إليها عدد من العلماء والمفكرين ، من أمثال الأستاذ “محمد قطب” والشهيد – بإذن الله – “كمال السنانيري” و الأستاذ “محمد سعيد رمضان” والشيخ “صالح أبو رقيّق” والداعية زينب الغزالي من مصر، ومن اليمن القاضي “يحيى بن لطف الفسيل” والشيخ “عبد الرحمن العماد” والقاضي أحمد الحجري ومن باكستان الشيخ “إحسان إلهى ظهير” ، والأستاذ “عدنان سعد الدين” والشيخ “فتحي يكن” والشيخ “ناصر الدين الألباني” والشيخ “زهير الشاويش” من سورية ولبنان، ومن العراق ، الدكتور”عبد الرحمن الحجي” ومن المغرب الدكتور والسفير المهدي بن عبود، والبروفيسور “عبد السلام الهراس”.

ومما لاشك فيه ،فقد كانت هذه اللقاءات ذات أثركبير وفعال على منهجية العمل الدعوى في إسبانيا خاصة ، وأوروبا بوجه عام. وكان الدكتور “أحمد طريف الدباغ” – رحمه الله- مع ثلة طيبة مباركة من الشباب ،برعاية الداعية الشهيد “نزار أحمد الصباغ”هم المؤسسون لإستراتيجية طموحة، لنشر الإسلام وتوطينه في الغرب ، بشكل هاديء وحكيم بعيداً عن التعصب والتطرف، بالحكمة والموعظة الحسنة متبنين سياسة التعايش والإندماج فى بلاد المهجر، للحفاظ على هوية الأجيال التى نشأت فى بلاد الغربة.

وقد انخرط هؤلاء الشباب فى العمل السياسى ، فى إسبانيا. فقد انضوى الدكتور “طريف الدباغ” فى صفوف الحزب الإشتراكي الحاكم ، بينما انتسب الدكتور “بهيج ملا حويش”إلى حزب الوسط آنذاك ،فيما التحق عدد آخر من الشباب الآخرين بالحزب اليميني. وكان القصد من هذا التوجه السياسي المبكر لدى هؤلاء الشباب ،هو إيصال صورة ناصعة ، وغير مشوهة عن الإسلام إلى الأوساط السياسية الأوربية.

ولكن أعداء النجاح ، وأعداء الحرية ، من الدبلوماسيين العرب والفاشيين الأوربيين ، غاظهم هذا الإئتلاف الشبابي الناجح ،فسارعوا الى زرع بذور الشقاق والوقيعة بين صفوف الشباب المسلم لتشتيت جمعهم، وإلهائهم وإشغالهم بقضايا جانبية ، بعيدة كل البعد عن أهدافهم ومراميهم السامية.

وقاموا على إثر ذلك ، بإغتيال الداعية”نزار الصباغ”في برشلونة – يرحمه الله- فى عام ١٩٨١ . لكن هذه التصرفات الحمقاء، لم تفت في عضد الدكتور “طريف” وإخوانه، بل زادتهم إصراراً على المضي قدماً فى مشروعهم الدعوي السلمي.

وقد تُوجت جهودهم المباركة ، فى عام ١٩٨٤ بقيام الدكتور “بهيج ملا حويش” والدكتور”أحمد طريف الدباغ” وأخرين، بالإعداد والدعوة لعقد مؤتمر للمنظمات والإتحادات الطلابية الاسلامية في كل من أوروبا وأمريكا في مدريد، لإعتماد فكرة توطين الدعوة في أوروبا، وتبنى فكرة أن يكون المسلمون في أوروبا وأمريكا مواطنين شركاء، وليسوا مهاجرين كما يريد ويخطط أصحاب النزعات العنصرية المتطرفة في أوروبا ، كما هو مشاهد اليوم . وتلا ذلك إنجاز عظيم على مستوى أوروبا حيث تم الإعتراف الرسمي في البرلمان الإسبان بالدين الإسلامي .

رحم الله الدكتور” أحمد طريف الدباغ” وأسكنه فسيح جناته وجعل مأواه الفردوس الأعلى من الجنة.

(( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي )).

وسوم: العدد 902