الحمولة المعرفية المنقولة رقميا بين التحفيزعلى طلبها وغرورالتمكن منها

دخول البشرية عصر " الرقمنة " إذا جاز استعمال هذه الصيغة كما جازت بالنسبة لغيرها  نقل الحمولة المعرفية من الأوراق إلى بلورات الأجهزة الرقمية حواسيب وهواتف محمولة والتي صار بإمكان إنسان هذا العصر بواسطتها أن يحمل في جيب أو حقيبة حمولة معرفية ضخمة لو طلبها ورقيا لما استطاع إلى ذلك سبيلا .

وإذا  كان شطّار المعرفة قد أحسنوا استغلال الحمولة المعرفية المسوقة رقميا ، وحفّزهم ذلك على الاستزادة منها ، والذهاب أشواطا بعيدة في تحصيلها  وتطوير مستوياتهم فيها، فإن غيرهم قد قصرت هممهم عن ذلك، وركبوا غرورهم فخيّل إليهم أنهم قد تمكنوا من هذه الحمولة ولمّا يساوي تحصيلهم منها ما يناله مخيط من لجة محيط . وصاروا أيضا يخيل إليهم من غرورهم أن باعهم قد طال في المعارف وأن كعبهم قد علا فيها .

ومع إصابتهم نتفا أو نزرا قليلا  من  شتات المعارف في مجال من مجالاتها، يخيّل إليهم أنهم قد أحاطوا به علما، وأنهم قد بلغوا فيه الشأو البعيد ، وربما تجرءوا على أهل الاختصاص فيها  بزادهم الزهيد ،فجادلوهم أو انتقدوهم وربما خطّئوهم وتعقّبوا ما يخيّل إليهم أنه زلات أو عثرات . وإنهم ليجادلون بالقليل من المعارف  التي يحصلونها على عجل ودون تثبت عبر الرقمنة أهل الاختصاص ،فيرفعون ويخفضون  من شاءوا منهم . وقد يتلقون من المعارف ما هو مجرد توطئات بعدها ما لا يدرك إلا  بخرط القتاد، فيظنونها الغاية والمنتهى .

ومن آفة الاغترار بوهم حسن استعمال الرقمنة أن البعض  ممن يركبون غرورهم صاروا يجزمون قطعا بأن ما بحوزتهم من معارف  حصّلوها بواسطتها يغنيهم عن الاستزادة منها ، فنشأت عن ذلك شريحة من أشباه المتعلمين ينطبق عليهم المثل العربي القائل : " زبّب ولم يحصرم " وهو مثل يضرب لمن يستعجل ما لا يدرك في أوانه .

ودون  هؤلاء وهم الكثرة الكاثرة  ممن يركبون غرورهم شريحة الغافلين الذين يصرفون الوقت الثمين من أعمارهم فيما لا طائل من ورائه من العبث العابث مما صار تسويقه  رقميا ميسرا وفي المتناول . ولا يشاهد هؤلاء إلا وهم عاكفون على هواتفهم الخلوية في ظعنهم وإقامتهم، و في كل أحوالهم وقد استلبهم هذا العبث وصاروا يتفكهون به، ويتعاطونه فيما بينهم بنهم  ، ويستزيدون منهم بإدمان ، وقد صرفهم عن أوجب واجباتهم من عبادة أو دراسة أوشغل كل ما وراءه طائل .ولقد بلغ أمر استلابهم بالرقمنة حد الاستعاضة بها عن التواصل الحقيقي  فيما بينهم والذي حل محله التواصل عن بعد ، وهو تواصل بلا مشاعر ولا أحاسيس ، فصار التعبير عندهم  عن تلك الأحاسيس والمشاعر عن طريق استنساخ عبارات وصور مكرورة  أو "كلشيهات "يخترعها أحدهم ،فيأخذها عنه غيره ،ويسوقها تسويقا كما هو الشأن  على سبيل المثال بالنسبة لتحيات الصباح والمساء، والتهنئة بالمناسبات ، والعزاء ... دون ابداع أو اجتهاد في اختراع غيرها  ، وصار ذلك مما ينطبق عليه المثل القائل : " بضاعتنا ردت إلينا " وهو مثل يضرب لمن يعطي عطاء فيرد له على أساس أنه عطاء آخر .

وخلاصة القول أن الرقمنة التي كان من المفروض أن تذهب أشواطا بعيدة بالناس في تحصيل حمولة معرفية لا حدود لها، صارت بالكثير منهم نحو ترد مهول في غيابات الجهل  مع الغرور. وإذا قدر لهم أن ينتبهوا من غفلتهم، وهو أمر مستبعد أو بعيد المنال لحد الساعة، فستكون النتيجة كارثية  حيث  ستفنى أجيال صرفتها هذه الرقمنة  عن التحصيل الحقيقي للمعارف  كما كانت تحصلها أجيال سابقة لو أنه قدر لها استغلال الرقمنة حينئذ لكان لها من الشأن ما يزيد عن شأنها الذي يشهد عليه ما خلفته من علوم ومعارف بوسائل متواضعة  دون ما تتيحه اليوم  الرقمنة من تطور سريع  للمعارف والعلوم ، وما تراكمه منها .

و يستثنى من الكثرة الكاثرة التي لا تستفيد من الرقمنة قلة قليلة قد صارت على بعد مسافات ضوئية من  تلك الكثرة الكاثرة التي استلبتها الرقمنة، فجعلتها غاية في حد ذاتها وليست وسيلة لغايات أعظم وأجل . 

وسوم: العدد 906