إظهار المحاسن مقدم على اقتناص العيوب والنقائص

في فن النقد :

وقالت العرب نقد الصيرفي الدينار أو الدرهم ، أي بين الصحيح فيها من البهرج الزائف . يعني قال هذا دينار جيد صحيح ، وهذا دينار بهرج زائف .

قال الأعشى في قصيدة جميلة يحكي فيها قصة شرائه الخمر من حانوت الخمار ، في قلب الليل حيث اشترى باطية خمر بناقة أدماء ، واشترط عليه الخمار أن يدفع فوق الناقة تسعة دراهم ، فلما فعل جلس الخمار ، ينتقد الدراهم أي يتفحصها ، والشاعر في عجلة من أمره ، فيطمئن الشاعرُ الخمارَ : دراهمنا كلها جيد فلا تحبسنا بتنقادها ..

فقلت هذه هاتهـا .. بأدماء في حبل مقتادها

قال تزيدونني تسعة .. وليست بعدل لأندادها

دراهمنا كلها جيد .. فلا تحبســنّا بتنقادها

ولما رأيت الناس في هذا العصر مولعين بالنقد . ويجدونه طريقة أقرب لإثبات الذات ، ولفت الأنظار ، والتنبيه على المكانة ، وإرسال رسالة : إحم .. إحم .. نحن هنا ؛ فأردت أن أقول لبعض هؤلاء ، تستطيع أن تستمع بكل هذه الملذات النفسية ، وتشبع ما شئت من مشاعر النرجسية ، وعن طريق نفس الجسر ، ولكن بإشعال الضوء الأخضر ، مكان الضوء الأحمر .

في عالم النقد الفني والأدبي نوع منه يعتبر إظهار المحاسن هو الدور الفني الأساسي للناقد المكمل لدور الفنان . صحيح تقول العامة بنت الدار عوراء ، فلا يرون فيها حسنا ولا فتنة ، ولكن الناقد الحق هو من يستطيع أن يجلس على كتفي المبدع الأول أو المنشئ الأول ، ويدلدل رجليه أيضا ، كما كان يفعل هتافو المظاهرات ، ويقول هذا حسن وهذا جميل وهذا يحتاج إلى تعميق لأهميته ، وهذا يحتاج إلى تظليل ، وليس الكحْلُ كالكحَل . وربما يسطو الناقد على الفكرة من خلال النقد ، فيسخنها ويعيد تشكيلها بطريقة أجمل وأكمل ، كل هذا وصاحب الفكرة الأولى مغتبط مسرور . وإذا أردت أن أتمادى أقول بنقد مثل هذا يتحول صاحب الفكرة الأولى إلى لاعب الكرة الذي قام بتمرير الكرة إلى صاحبه ( الناقد ) فشاطها بعيدا ، وصفق الجميع للهداف الذي أحرز الهدف.

الحالة السائدة في عالم الضعضعة لا تبشر بالخير . فهم النقد على أنه الرفض والرمي بالخطأ والعيب ، والقبض على كل من يفتح فمه ، أو يحرك يده أو رجله ، متلبسا ، لا تقودنا إلى " محل"

جربوا أن تتدربوا على هذا فهو منهج جميل . وقد تدربنا عليه دهرا ، ورأينا نفعه ، وقيمته ، وأثره ، جربناه في نقد الشعر ، بل اشترطناه أحيانا .. وكنا نلح على أن نجد شيئا جميلا في كل قصيدة مهما كانت مهلهلة ، نجد فيها شيئا جميلا بصدق ، وليس بنفاق ، لندلف من خلال هذه المصطبة إلى ذكر الأمور الأخرى ..ومن الشعر إلى القصة والمسرحية والمقالة ...

إذا كان أحدنا يشطب إيديولوجيا على نجيب محفوظ مثلا فكيف سيستمع بإبداعه في اللص والكلاب ، أو في ثرثرة فوق النيل ، أو في " حضرة المحترم" التي ترصد هواجس الكثير بل الأكثر من الناس ..

أحببت أن ألفت النظر إلى أن أي إنسان يمكن أن يكون ناقدا ، ولطيفا ، وأن يشير إلى نفسه ، ويذكر بمكانته وذوقه وعلمه ، من غير أن يستعمل ألفاظ من نوع أخطأت ، وتجاوزت ، وأسأت ، وتماديت ..

وما فهمنا عليك شيء ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 909