إننا نختنق

هناك أبيات شعرية تعلق في ذهن المرء من دون سبب، فيجد نفسه مردداً وهو يشعر بالأسى:

«ما الذي يكتبه الشاعرُ في الأرضِ الخرابْ

آهِ يا عصرَ الكلابْ».

أذكر أنني قرأت هذه القصيدة التي كتبها معين بسيسو في جريدة «السفير» صبيحة دخول ما سمي «قوات الردع العربية» إلى بيروت. وكان هذا الدخول بداية زمن الخراب العربي بصيغته اللبنانية.

يومها لم تكن الأرض خراباً، كنا في بداية الخراب بعد سنتين قاسيتين من الحرب الأهلية التي كان مقدراً لها أن تنتهي مع دخول القوات العربية. لكن سرعان ما تحولت تلك القوات إلى قوات سورية، ودخلنا في دوامة جديدة من الوصاية والتبعية والحروب الوحشية.

كنا على أبواب الخراب الذي اكتمل الآن، وهو ليس خراباً لبنانياً فقط، بل هو خراب عربي شامل، يمتد من المحيط إلى الخليج، حيث ترتفع رايات إسرائيل من أول العرب إلى آخرهم.

علامات هذا الخراب لا تُحصى، وليست في حاجة إلى برهان. فحين تعيش الخراب لا تعود معنياً بالبرهنة على وجوده.

ماذا أقول أمام فتى رأيته غارقاً في حاوية نفايات في بيروت وهو يلحس ما تبقى في علبة لبنة مرمية.

لا أستطيع أن أصف هذا الفتى، فالكلام يخنقني، أحسست بالعجز عن رؤية عينيه الغارقتين في العتمة. وحين لا ترى العينين، فأنت لا ترى.

هل أقول إن تلك اللحظة جعلتني جزءاً من الخراب الذي أعيش في وسطه؟ هل أقول إن العينين المعتمتين لم تكونا عينيّ الفتى بل كانتا عينيَّ اللتين صارتا عاجزتين عن الرؤية؟

لقد اكتشفنا وسط هذا الخراب الموحش أننا لا نرى، وحين حاولنا أن نرى وارتفع صوت الحرية في كل أقطار العرب، حاولوا إطفاء عيوننا. الرصاص المطاطي الذي فقأ عيون شباب انتفاضة تشرين في لبنان لم يكن مجرد مصادفة، بل كان تعبيراً عن قرار الاستبداد العربي، بأشكاله المتعددة الرأس، بدفع شعوب هذه القارة العربية إلى العتمة واليأس وإغراقها في الخرابين، المادي والروحي.

الخراب المادي وصل إلى ذروته مع هذا التفكك الشامل والبؤس والإفقار والتهجير والقتل والتدمير.

خراب صنعته أنظمة استبدادية هي أشبه باحتلالات خارجية، وصل انحطاطها إلى حد استدعاء قوات خارجية من أجل قمع شعوبها وتفكيك مجتمعاتها، وتحويل العالم العربي إلى ملعب للقوى الإقليمية والدولية.

أما الخراب الروحي الذي صنعه فساد اللغة وإفسادها وتحويل الكلمات إلى أكياس فارغة من المعنى، فإنه يتخذ اليوم شكلاً متوحشاً له عنوانان: الخواء والتطبيع/التتبيع.

يقدم لبنان بسبب طبيعة نظامه شبه الفيدرالي نموذجاً صارخاً للخواء. فالطبقة الحاكمة بكل مكوناتها تتكلم لغة خرساء. لبنان في الهاوية، وحكامه مهانون من الشعب اللبناني ومن دول العالم قاطبة، لكنهم لا يبالون، بل يتابعون الكلام عن حقوق الطوائف وعن الممانعة وهم يعرفون أن لا أحد يستمع إليهم، لأن كلامهم بلا دلالات، بل مجرد حشو للّامعنى باللامعنى. رهانهم الوحيد هو أنهم أوصلوا الناس إلى كعب الإذلال والفقر. ولعل أداء إدارة الجامعة الأمريكية في بيروت التي استعانت بقوى الشرطة ومكافحة الشغب لمنع الطلاب من دخول جامعتهم، يقدم نموذجاً صارخاً لهذا الخواء. أما الكلام الوحيد الذي قيل فهو أن الطلاب ليسوا طلاباً! وجرى تعميم هذه الكذبة التي لم يصدقها مطلقوها على إعلام صار رهينة البنوك. كأن النوادي العلمانية التي تقود هذا التحرك من أجل إيقاف مجزرة الأقساط المدولرة لم تفز منذ أيام قليلة في الانتخابات الطالبية.

أما الكلام عن القضاء ومكافحة الفساد والتحقيق الجنائي وتشكيل الحكومة، فقد صار ممللاً ومكرراً إلى درجة أننا لم نعد نستطيع متابعته.

في المقابل، يأتي التطبيع/التتبيع الذي تقوده اليوم بإصرار غريب دولة الإمارات، ومعها دول ودويلات أخرى، معلناً دخول العالم العربي في الانحطاط الشامل.

دور دويلات النفط المتعاظم ليس ناجماً عن قوتها، فهي في أكثريتها ليست دولاً بل مجرد شركات مملوكة من الأسر الحاكمة. وهي تتصرف بهذا الشكل الفج والوقح لأنها شبه خالية. فمواطنوها لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة من سكانها، لذا تتطبع في حفلة تنكرية مثيرة لم يشهد لها تاريخ العرب، قديمه وحديثه، مثيلاً.

كل هذا لا يجعل منها خطراً أو ظاهرة تستحق الالتفات، لولا لعبتها الجهمنية في الثقافة والإعلام.

الإعلام العربي مصادر من زمان، أما تدجين الثقافة فقد اقتضى بذل جهود كبيرة: معارض كتب، وجوائز أدبية، وندوات ثقافية، ومتاحف دولية، وجامعات غربية، ومهرجانات سينمائية، ومعارض فنية، وإلى آخره…

حتى أن شركة طيران الإمارات إياها، التي صارت المروّج الأول للاحتلال الإسرائيلي، سوف تقيم مهرجاناً للآداب في شباط – فبراير 2021. الأدب العربي ينظم مهرجانه الطيران الذي روّج للهيكل الثاني، والذي صارت العبرية إحدى لغاته الرسمية!

هنا يكمن الخطر، وهنا يكمن التحدي.

لم يسبق أن امتُهنت الثقافة كما تُمتهن اليوم، وأهينت الفكرة العربية بهذا الشكل الفج والغبي والوقح.

يعتقدون أن الثقافة سلعة يمكن شراؤها، وأن تطبيعهم سوف يفرض تطبيعاً عربياً شاملاً على المستويين الثقافي والاقتصادي.

لكنهم لا يعرفون، فناطحات السحاب حجبت عنهم رؤية الشمس، فدفنوا رؤوسهم في الرمل الإسرائيلي عله يحميهم.

ولن يحميهم.

يكفي أن نرى المأتم الشعبي المهيب الذي أقيم لمخرج «التغريبة الفلسطينية» حاتم علي، العائد إلى دمشقه محمولاً على حب الناس. فأغلق المدينة في وجه المستبدين، ولم يرتفع في تشييعه سوى صوت المغني يصدح بقصيدة «الفدائي» لشاعر فلسطين إبراهيم طوقان، التي افتتح بها المخرج الراحل مسلسله الشهير:

«لا تسل عن سلامته روحه فوق راحتِه

بدّلته همومه كفناً من وسادتِه

صامتٌ لو تكلما لفظَ النارَ والدما

قلْ لمن عابَ صمته خُلق الحزمُ أبكما

هو بالباب واقفُ والردى منه خائفُ

فاهدئي يا عواصف خجلاً من جراءَته».

طلب الشاعر من العواصف أن تخجل فخجلت، أما هؤلاء فلا يخجلون.

وسوم: العدد 910