أطوار الغواية مسرحية في رواية

 safi911.jpg

tawar911.jpg

عن دار البيروني/ عمان/ الأردن 2019، صدرت رواية "أطوار الغواية" للكاتب مازن سعادة، تقع الرواية في 385 صفحة من القطع المتوسط، موزعة على 45 فصلاً.

حتى لو كان من الصعب علي، أن أعزل معرفتي الطويلة بمازن، التي امتدت من أواخر سبعينيات القرن الماضي، فإنني أجد مازن في الرواية كما هو، بخبرته الطويلة سياسياً وثقافياً وفنياً، وبقوة عزيمته، وبنقده الحاد حتى لنفسه، ولمن حوله، فهو يتناول كل شيء بالنقد، ويذهب في طرح القضايا إلى أعمق مما نفكر فيه، وهو الذي ابتعد بقراءاته في الفلسفات، والحياة، والمجتمع، بحيث أجد نفسي أمام قامة فنية، حتى وإن اختلفت معها أحياناً، وأجده يتمترس حول رؤى أعمق من كثير من الكتاب والفنانين، فهو يبحث عن ذاته في ذاته وفي ذوات الآخرين، ليس فقط هؤلاء الذين نعيش بينهم، وإنما أبعد من ذلك. أكاد أجزم بأن مازن العصامي، الذي لم ترق له وظيفة مكتبية، صنع نفسه بنفسه، ليظل مختلفاً، اختلاف لا تملك إلا أن تحترمه، وتحاول التعرف إليه من جديد كل مرة. مازن يناقش الآخرين ليس باعتباره نداً لأحد، بل أبعد من ذلك، فهو ليس مثقفاَ معرفياَ فقط، بل هو منسجم مع ذاته، بقدر ما تسمح له ذاته، متجاوزاً ذاتي على الأقل في العلاقة بين الحياة الاجتماعية والكتابة الفنية. مازن لم تتسع له كوبر، ولا رام الله، ولم تتسع له الأحزاب القائمة، فمزق أغلفتها، وعاش كما يريد "هنا" وخارج "هنا".

أستطيع القول، من قراءتي للرواية، أنني أمام كاتب روائي مميز، يمتلك ثقافة واسعة في حقول المعرفة، وفي التكنيك الروائي، فالرواية مثل مازن متشابكة، معقدة، رغم بساطتها، صنعها الكاتب طبقات فوق طبقات، ورغم أن لب الرواية هي مسرحية عكف "يوسف الجابر" على كتابتها، ومتابعة تدريباتها، وأعلاناتها، إلا أن أحداث الرواية، وما دار حول صناعة المسرح، والبدء من الصفر، بما في ذلك الممثلون أنفسهم، الذين لم يخبروا هذا النوع من الفن، أبقت على روح الرواية. قرأت عن رواية داخل رواية سابقاً، وأحداث حول نشر في رواية، واليوم أقرأ مسرحية في رواية. الممثلون هم الناس العاديون، والكاتب المسرحي هو فنان تشكيلي، والمسرح جديد، لكن مازن يخبر كل ذلك بنفسه المتعدد والمتجذر في رؤى أبعد من الأحداث. بقي أن أضيف، أن الحدث نفسه يتم تناوله من أكثر من شخصية، بتعدد أصواتها، ونفسيتها، ولغتها، بصدق، وبعمق أكثر مما قرأناه في صفحات سابقة. هذه المهارة يمتلكها مثل مازن، ليس مدحاً، وإنما وصفاً.

هناك زوايا كثيرة ممكن مناقشتها في الرواية، ومقولات كثيرة أيضاً، فلا يمكن لي شخصياً، وأنا لست بناقد أن أكتب عن كل هذه، فهل أكتب عن: دور الفن في المجتمع؟ موقف السلطات من الفنون"؟ أنا المتغيرة؟ أيام الأسبوع الجديدة؟ الأشكال الهندسية (مثلث، مربع، دائرة) وتدوير الزوايا؟ نهايات التسوية؟ "جوهر الصراع"؟ رام الله كمركز سياسي وتحولاتها؟ العلاقات الإنسانية الممتدة المتشابكة؟ ...الخ، فلا بد أن أتناول زاوية منه، فدعني أكتب عن نهاية شخصية يوسف الجابر.

يوسف الجابر، لم يرجع إلى فلسطين "عشان أحط كمامة" (ص355)، و "المجهول معلوم" (ص382)، و "إن لم تكن ذيبا، بتاكلك الكلاب" (ص331). يوسف الجابر، لم يستطع العيش بين أقاربه (عائلة أخيه) على تراث وتربة أبويه، فوجد رام الله متنفساً، وكان ربما مقتلاً، ف "الفن بوابة الكفر" (ص 56) حين تكون أنت كما هي، الأنا المتغيرة مع تغيرات الحياة وأطوارها، وبالذات أطوار الغواية "أنا لست أنا، وأنت لست أنت، وأخي ليس أخي" (ص66).

أكان يوسف ذئباً؟ فلماذا أكلته الكلاب؟ أي كلاب هي التي أكلته.

سكن يوسف سطح (روف)، بناية قديمة في رام الله (الأرملة الشابة ص131)، وحاول استغلال موهبته في الرسم، ليتحول إلى الكتابة، كتابة المسرحية، مسرحية "أطوار الغواية"، والغواية متعددة، ليس فقط الجنسية رغم وجودها بكثرة، وإنما غواية أن تكون فناناً، وأن تكون فناناً كاتباً، وأن تكون فاعلاً، وليس مراقباً، وأن تحاول الاندماج في رام الله، البلدة في أطوار تطورها، وغواية السهر والشرب، وغواية الأرض والحديقة، والورود بألوانها وأشكالها المختلفة، وغواية مراقبة الساحل، والمطاعم والمقاهي، إنها غوايات رام الله، التي وقع فيها، وربما أرادها، على عكس الكثيرين من أهلها ربما.

لقد قرر يوسف منذ البداية أن يسكن طابقاً أرضياً، ليستغل ترابها، ويصنع عالمه، عالم القرية التي حنّ إليها، فلم يجدها في نفسه، أو ربما لفظته خارجها، فحاول أن يصنع من "الروف" ما يوازي ذلك الحلم القديم، فكانت غوايات جديدة من الجيران، وصاحب البناية، وجورج "المطعمجي" المثقف الفاعل، والصحفية النرويجية، ، التي أرادت أن تدرس تغيرات ما بعد أوسلو، لكن يوسف كان يود الإجابة على سؤال: لماذا أوسلو؟ أوسلو التي لا تنتمي إلى دول الشرق، ولا دول الغرب التي خبرت الشرق بطرق مختلفة، إنها أوسلو البعيدة، الباردة، صيف شتاء، حيث عقدت المحادثات الأولى في مبنى، مغطى بالتراب، وتنبت عليه الأعشاب، كأنه جزء من الأرض، ملتصق فيها، إنه السقف الحديقة.

كانت كتابته للمسرحية، ومراقبة تدريباتها، والتدخل أحياناً في أمور الإخراج، ونقده للواقع بعد أوسلو، وما قبله، وجشع المستثمرين الجدد، وأصحاب الأملاك القديمة في رام الله، فرصة للتدخلات الخارجية، الصحفية، والمحلية الأمنية، بحيث أصبح مطلوباً لكل الذين حوله، من عشيقاته إلى أجهزة الأمن.

مرة واحدة ودون أن يدري، دخل غرفته (روفه)، ودون أن يطل على حديقته المصطنعة، وبعد أن ألصق إعلانا أنه غير موجود، تأتي الجرافات، وتزيل المبنى عن بكرة أبيه، لتحل مكانها "ناطحة سحاب". لم يدر هو بما جرى، ولم يدر غيره، لكن آثار دماء كانت بين الركام.

هل تحققت أمنية يوسف بالعيش مع التراب وبينه أخيرا؟ هل تحققت بموته؟ أم أن روحه ظلت فوق الركام، تحت "ناطحات السحاب"، لنذكرها، ونذكره كلما راجعنا الاتفاقات، وكلما مررنا من أمام تراث قديم، يحفظ هوية المكان؟

شكرا مازن على غواية الرواية، وغواية القراءة الممتعة، وما زالت الغواية تشدنا نحو المجهول، فلم تعرض المسرحية، لكن للرواية مكان للعرض المستمر.

"حقا عاد. حقاً عاد" (ص76)، ليس الشباب فقط، وإنما مازن الذي ما زال شاباً

وسوم: العدد 911