الشورى والديمقراطية

عزالدين مصطفى جلولي

هي المَثُلات إذن التي قد خلت في القرون السابقة تعيدها الأيام، في زمان كثر فيه المنجمون بأفول الدين من حياة الشعوب، وتحول العلمانية والديمقراطية إلى دين أبدي، مثله في نظرهم النموذج الأمريكي «الرائع» كأبهى ما ابتكر العقل الإنساني على ظهر البسيطة؛ هي الديمقراطية إذن هشة، ولا تعدم أن تتحول في أوج عظمتها إلى ديمقراطية جمهوريات الموز، لطالما عيّر الشمال بها الجنوب، هي إذن أنظمة الحريات وحقوق الإنسان وحكم المؤسسات ودولة القانون، تسخر بها الأقدار، فتدنس هياكلها بتفنن شعوب استظلت بظلها الوارف مئات السنين.

معبد الديمقراطية يدنس، وأي ديمقراطية؟ إنها الأمريكية التي تثنى بها الخناصر عند العد لتلقين الحقوق والعلوم السياسية، في أكاديميات التعليم العالي.. وممن؟ من جماعات أمريكية رضعت لبن الزيف طويلا ومجته بصلف في لحظة مواجهة فاصلة، شُدِه فيها العقل الغربي ومن والاه من عقول صنعها على يده، ثم زرعها في بقاع الدنيا قاطبة. مشاهد، نقلت على المباشر، طفحت بتحقير عظمة أمريكية بدت كأنها أوراق تتناثرها رياح الخريف، عظمة لطالما ألهمت العالم ضلالا غذته «بروباغندا» مستخفة بالإنسانية. إنها أحداث مرت في لمح البصر أيقظت النائمين من رقدة العدم، فاستفاقوا على دجل السمفونيات المنومة للبشرية، أن أمريكا ولا شيء بعدها غير نهاية التاريخ.

حقا، الأيام سجال، يوم لك ويوم عليك. فكم سخرت منا أمريكا ورمتنا بالوهن، واستعظمت علينا أن نقاد بالديمقراطية، فهي أوسع مقاسا من أن نرتديها، وهي بنت أثينا، لا تليق إلا بالعالم الممتد غربا. ولا شيء يصلح لنا، نحن البدو الرعاع، غير الفناء أو الاستبداد الذي حمته وتحالفت معه، لعله يوطن لها قدما تستبيح به بيضتنا، فتهلك حرثنا ونسلنا.

ما ينقم «الرعاع» إذ داسوا على كبرياء الولايات المتحدة وعفروا أنفها في قلب واشنطن، غير تضليل وأنانية، وجشع ليبرالي متوحش، وكيد لوبيات باسم الصندوق والدستور. ومن وصفهم بالرعاع مخطئ، لأنهم نتاج حضارة ويحملون أيديولوجيا أنجبها فكر ليبيرالي متطرف، ومن يوسوس إليهم رئيس انتخبه الشعب الأمريكي باقتراع غير مرضي عنه، لكنه ديمقراطي؛ وتلكم هي الحلقة المفرغة، وذلكم هو مقتل الحضارة الغربية، كشف عنه الزاحفون على معبد الديمقراطية أمام العالم بأسره، غير آبهين بالعار الذي لحقهم كأعظم دولة في العالم.

مسار الأحداث في السنوات الأربع الماضية كانت تعري وجه أمريكا الحقيقي أمام العالم على مهل، والعربدة في «الكونغرس» مثلت أوج التأزم في حبكة تلك الرواية، ومن ساق الحوادث إلى هذه النهاية الدرامية وقبيل مغادرة ترامب الرئاسة بأيام معدودات، كان عليما بما يفعل قديرا على ما يريد، وما علينا إلا قراءة الرسالة ظاهرا وعمقا، لا كما قرأها زعماء العالم نفاقا وصدقا، ولا كما عالجها الإعلام المعلمن في بقاع الدنيا غربا وشرقا.

استغربت من الكيفية التي تناول فيها الإعلام تلك الوقائع، منشغلا بوصفها وتكرارها عن الغوص في دلالاتها العميقة، وقد بدت للمشاهد حوادث ذات إبداع ورهبة، وذات إلهام وعبرة، وما قرأ المحللون فيها، وهم ترسانة من المثقفين والسياسيين، أكثر مما يقرؤه المعلقون على المباريات الرياضية. لم يقرؤوا غير لو كان كذا لكان كذا، في حالة كذا يكون كذا، ستسير الحوادث على نحو كذا… من دون أن تظفر برأي يغور بعيدا في التاريخ، ليجلو قصص أمم غابرة فعل الله بها الأفاعيل إذ هي عصته، أو تسمع قولا من قلب إنسان لم تمسخ فطرته باسم العلم، لماذا تقع أمم منيعة في مآزق كهذه مهلكة؟ وهل يجد المؤمنون بالله في ما يرون ما يفسر هذه المزالق القاصمة؟ «وكم من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها غافلون». يندر أن تعثر على مواقف كهذه تشوه الديمقراطية في المخيال الشعبي، ولو أراد إخراجها أوسع الناس خيالا ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وإمعانا من الأقدار في حفر الذاكرة الجماعية بهذا التنكيل كي لا تنساه أبد الدهر، انتخب لها ممثلين بارعين، لبسوا سرابيل وحوش، وتوشموا بكل ما هو مرهب مخيف، والولايات المتحدة هي أكثر من لاحق شعوب الأرض بفزاعة الإرهاب، ووسم المسلمين بكل لقب يشين. ثم ها هي الأيام بها تستدير، ويخرج من أصلابها من هو أكثر إرهابا وأسوأ ذكرا «ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون».

الشورى نظام سياسي تعضد السياسة فيه الأخلاق، وما نقم الناقمون على «الكونغرس» غير ذلك، وأنى لهم بالبديل ولا أحد منا عرّفهم على الترياق الشافي لأدوائهم المزمنة.

وسوم: العدد 912