مقدمة الطبعة الثانية لكتابي " المفصل في السيرة النبوية "

علي بن نايف الشحود

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

فإن الأمم قاطبة تهتم بتاريخها ، وتعنى بأخبار قادتها وزعمائها ، وهي ترى في ذلك تدعيما لأصالتها ، وحفاظا على تاريخها .. ولا عجب أن يهتم المسلمون بتاريخهم ، إذ لا بد أن تعرف الأجيال اللاحقة ما خلفته القرون السابقة من أخبار الهداة المهتدين .

أما سيرة النبي ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ وحياته ، ومعرفة أحواله في الحرب والسلم ، فتلك مسألة لم يقتصر الاهتمام بها على المسلمين وحدهم ، بل شملت غير المسلمين ، ممن أعجبتهم سيرته وإن لم يؤمنوا به ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ ، أو كانت دراستهم للسيرة بداية خير لهم ..  إن معرفة ودراسة سيرة النبي ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ أمر من الأهمية بمكان ، ولقد كان السلف يقدرون لهذه السيرة قدرها ، وكانوا يحفظونها كما يحفظون السورة من القرآن ، ويتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم ، فكان علي بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ يقول: " كنا نُعلَّم مغازي النبي ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ كما نعلم السورة من القرآن ". .

وكان الزهري يقول : " علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة " .

وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ يقول : " كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا " ، ويقول : " يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها ".

ولا شك أن العلماء ـ قديما وحديثا ـ اهتموا بسيرة النبي ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ لأنه بهديه ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ تستقيم الحياة ، ويتضح الطريق ، فقد قال الله ـ عز وجل ـ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) ..

ومن أسباب الاهتمام بدراسة السيرة النبوية : تقوية الإيمان واليقين في قلوب المسلمين ، وأنه مهما تكالبت عليهم الأمور ، ومهما قوي الشيطان وجنده فإن لهم في رسول الله ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ أسوة حسنة وإن لهم في الصحابة الكرام المثل العملي ..

فعن خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال : ( شكونا إلى رسول الله ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟!، ألا تدعو لنا ؟! ، فقال ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه لكنكم تستعجلون )(البخاري) .

كما أن السيرة النبوية تفيد الوقوف على كثير من الأحكام الفقهية ، وتوضح للمسلم حياة الرسول - (صلى الله عليه وسلم) -، بدقائقها وتفاصيلها ، منذ ولادته وحتى موته ، مرورا بطفولته وشبابه ودعوته ، وجهاده وصبره وانتصاره على عدوه ، وتظهر بوضوح أنه كان زوجًا وأبًا ، وقائدًا ومحاربًا ، ومربيًا وداعية ، وزاهدًا وقاضيًا ، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته فيها ..

فالداعية يجد له في سيرة رسول الله - (صلى الله عليه وسلم) - أساليب الدعوة ومراحلها ، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة منها ، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله - (صلى الله عليه وسلم) - من أجل إعلاء كلمة الله،وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات ، وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن ..

ويجد المربي في سيرته ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ دروسًا نبوية في التربية من خلال مواقفه مع أصحابه الذين رباهم ، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا ، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس ، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها ..

ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى ، لأنها من العلوم الهامة لتفسير القرآن الكريم ، ففيها أسباب النزول لكثير من الآيات فتعينهم على فهمها ، والاستنباط منها ، ومعايشة أحداثها ، فيستخرجون أحكامها الشرعية ، وأصول السياسة الشرعية ، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة ، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم .. فهناك سور بأكملها تتكلم عن غزوة مثل سورة الأنفال التي تتكلم عن غزوة بدر ، وسورة التوبة التي تتكلم عن غزوة تبوك ، وسورة الحشر التي تتكلم عن جلاء بني النضير، وهناك آيات كثيرة في سورة آل عمران تتحدث عن غزوة أحد، وحتى تُفهم هذه الآيات جيدا لا بد من دراسة السيرة النبوية ..

ومن خلال سيرته ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ تُعرف منزلته وشرفه وعصمته ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ من الناس ، وكيف نزلت الملائكة تقاتل معه يوم بدر ويوم الأحزاب ويوم حنين ..

فسيرته ـ ذاتها معجزة من معجزاته ، وآية من آيات نبوته ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ كما قال ابن حزم : .. " .. فإن سيرة محمد ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ حقا ، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته (صلى الله عليه وسلم) لكفى .." ..

ومن أهمية دراسة السيرة النبوية التعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا مع رسول الله - (صلى الله عليه وسلم) - ، ومن ثم محبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم ..

وتزداد أهمية دراسة السيرة النبوية العطرة إذا علمنا أنها لا تتناول رجلاً عاديا ، بل إنها دراسة لتاريخ أعظم مخلوق وُجد على ظهر هذه الأرض منذ آدم وإلى يوم القيامة ـ صلوات الله وسلامه عليه ، الذي قال عنه ربه ـ عز وجل ـ : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم:4)، والذي لن ندخل الجنة إلا خلفه ، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا : يا رسول الله ومن يأبَى ؟! ، قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )(البخاري) .

فإن عرفنا سيرته ونهجه واقتدينا به واتبعناه كانت السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة ، قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) ، وقال ـ تعالى ـ : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا }(النور: من الآية54) ..

إنَّ دراسة السيرة النبوية العطرة تعد غذاء للقلوب ، وبهجة للنفوس ، وسعادة ولذة وقرة عين ، بل إنها جزء من دين الله سبحانه وتعالى وعبادة يتقرب بها إلى الله؛ لأن حياة نبينا الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - حياة بذل وعطاء وصبر ومصابرة وجد واجتهاد ودأب في تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى والدعوة إلى دينه عز وجل ، وفي دراسة السيرة فوائد عظيمة جداً ومنافع متعددة أذكِّر بشيء منها شحذًا للهمم للصبر والمواصلة والعناية بدراسة سيرة نبينا صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ؛ فمن هذه الفوائد:

أن نبينا (صلى الله عليه وسلم) أسوة للعالمين وقدوة لهم ؛ في العقيدة والعبادة والأخلاق كما قال الله سبحانه وتعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21] ، وتحقيق هذا الائتساء به وسلوك هديه (صلى الله عليه وسلم) متوقف على معرفة سيرته وهديه الكريم (صلى الله عليه وسلم) .

الأمر الثاني : أن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وهديه القويم يُعَدُّ ميزانا توزن في ضوءه الأعمال ؛ فما كان منها موافقاً لهديه وسلوكه (صلى الله عليه وسلم) فهو المقبول ، وما كان منها ليس موافقاً لهديه (صلى الله عليه وسلم) ولسلوكه فهو المردود . وفي هذا المعنى يقول سفيان ابن عيينة رحمه الله تعالى فيما روى الخطيب البغدادي في مقدمة كتابه العظيم "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" : « إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو الميزان الأكبر ؛ فعليه تعرض الأشياء ، على خُلقه وسيرته وهديه ، فما وافقها فهو الحق ، وما خالفها فهو الباطل » .

الأمر الثالث : في دراسة سيرة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) عون على فهم كتاب الله عز وجل ، لأن حياته (صلى الله عليه وسلم)كلها تطبيق للقرآن وعمل به ، ولما سُئلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن خُلقه (صلى الله عليه وسلم) قالت : (( كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ )) ، وقد قال الله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( [القلم:4] والمراد بالخُلق هنا : الدين ؛ أي على دين كامل وتام ، فهو (صلى الله عليه وسلم) قد قام أتم قيام بأوامر القرآن فعلاً لها ، ونواهي القرآن اجتناباً وتركا ، وآداب القرآن والأخلاق التي ذُكرت فيه عملاً وتطبيقا ؛ فحياته (صلى الله عليه وسلم) وسيرته عملٌ تام وتطبيق كامل لكتاب الله تبارك وتعالى ، فمن خلال دراسة السيرة يكون في ذلك عون للمسلم على فهم كتاب الله عز وجل ، وعندما تطالع كتب التفسير ولاسيما أسباب النزول تجد الارتباط بين نزول آيات القرآن الكريم والسيرة ووقائعها ؛ مما يتبين به الحاجة لدراسة سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) في فقه كتاب الله جل وعلا .

الأمر الرابع : أن في دراسة سيرته (صلى الله عليه وسلم) تعميقا لمحبته ، وقد قال (صلى الله عليه وسلم): ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) متفق عليه ، وجاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " قلت يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي " ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : ((لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)) فقال له عمر: " فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي " فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((الْآنَ يَا عُمَرُ)) . فتعميق هذه المحبة وتمكينها وتقويتها في القلب يحتاج من العبد إلى دراسة لسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومعرفة بأخباره العطرة وحياته المباركة صلوات الله وسلامه عليه ، ليزداد حباً للنبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) ، وقد كان في حياته (صلى الله عليه وسلم) يأتي إليه الرجل وليس على وجه الأرض أبغض إليه منه ؛ فما أن يراه ويرى سيرته وهديه وسلوكه إلا ويتحول من ساعته وليس على وجه الأرض أحب إليه منه، كما قال ثمامة ابن أثال سيد أهل اليمامة حين أسلم ((يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهٌ الْأَرْضِ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ)) رواه الإمام أحمد فهي سيرة عامرة بالرحمة ، والرفق ، وطيب المعاملة ، وحسن الأدب والخُلق ، ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) [آل عمران:159] ، وإذا أكرم الله سبحانه وتعالى عبده بمحبة نبيه (صلى الله عليه وسلم) محبة صادقة ساقته هذه المحبة إلى كل فضيلة ، وكانت عوناً له على تحقيق الاتباع لهذا الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ومنهاجه القويم ؛ كما كانت حال الصحابة رضي الله عنهم ومن اتبعهم بإحسان .

الأمر الخامس من فوائد دراسة سيرة نبينا (صلى الله عليه وسلم) : أنها باب من أبواب زيادة الإيمان وتقويته ، وقد قال الله تعالى: ( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)[المؤمنون:69] ؛ فمعرفة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومعرفة هديه وآدابه وأخلاقه موجبةٌ لمن حصلت له هذه المعرفة للإيمان إذا كان لم يؤمن ، وموجبة لزيادة الإيمان في حق المؤمن . وكم من أقوام دخلوا في دين الله سبحانه وتعالى من خلال وقوفهم على سيرة النبي الكريم وآدابه الكاملة وأخلاقه الفاضلة ومعاملاته العظيمة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ : يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ رَجُلٍ لَا يَخَافُ الْفَاقَةَ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَجِيءُ إِلَيْهِ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا فَمَا يُمْسِي حَتَّى يَكُونَ دِينُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا.

الأمر السادس : أنَّ في دراسة السيرة عونا لفهم الدين كله؛ عقيدةً وعبادةً وخُلقا ، لأنَّ حياته -كما أسلفت- حياة عمل لهذا الدين ؛ قياماً به ودعوة إليه وتضحية وجِدّا واجتهادا وجهادا لنصرة هذه العقيدة التي هي رأس الأمر وأساس دين الله تبارك وتعالى ، ومن يطالع سيرته (صلى الله عليه وسلم) يجد أنه أول ما بدأ في دعوته بدأ بالدعوة إلى العقيدة والتوحيد ، ومضى على ذلك سنوات عديدة من حياته لا يدعو إلا للعقيدة والتوحيد كما أمره الله سبحانه وتعالى بذلك ، ثم بعد ذلك جاءت الفرائض والأوامر شيئاً فشيئا ؛ ففي دراسة السيرة دراسة للعقيدة ، ودراسة لمراحل التشريع ، ودراسة لنزول الفرائض والعبادات ، ومعرفة بالتطبيق العملي لدين الله تبارك وتعالى عقيدةً وعبادةً وخُلقا . قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مختصر السيرة ص21 : " اعرف ما قصه أهل العلم من أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) وقومه وما جرى له معهم في مكة وما جرى له في المدينة ، واعرف ما قص العلماء عن أصحابه وأحوالهم وأعمالهم. لعلك أن تعرف الإسلام والكفر ؛ فإن الإسلام اليوم غريب وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر ، وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح "

الأمر السابع : أن السيرة فيها تعليم للنهج الصحيح في الدعوة إلى الله على بصيرة، والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى حقاً هم أهل الدراية بهديه ونهجه وسيرته (صلى الله عليه وسلم) ، وقد قال الله تعالى: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)[يوسف:108] فالدعوة إلى الله جل وعلا على بصيرة لابد فيها من معرفة هديه ونهجه صلوات الله وسلامه عليه في الدعوة إلى الله عز وجل ، والسيرة النبوية مشتملة على بيان هديه (صلى الله عليه وسلم) في الدعوة من حيث بم بدأ (صلى الله عليه وسلم) ، ومن حيث طريقته وأسلوبه (صلى الله عليه وسلم) في الدعوة إلى الله عز وجل ، ومن حيث أخلاقه وآدابه وتعاملاته ولين جانبه ورفقه (صلى الله عليه وسلم) ، إلى غير ذلك من الأمور التي هي مقوِّمات للدعوة إلى الله تبارك وتعالى .

الأمر الثامن : أن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسها آية من آيات نبوته ، وعلَمٌ من أعلام صدق ما جاء به (صلى الله عليه وسلم) ، وهي أكبر عونٍ على تصديقه والإيمان به (صلى الله عليه وسلم) ، فمن طرق معرفة صدق الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصدق ما جاء به معرفة سيرته ، وإلى ماذا يدعو ، وكيف تكون معاملته للناس ، وما هو هديه ، وما هي أخلاقه ، وما هي تعاملاته ؛ ومن يطالع السيرة يجد حياةً عطرة عامرة بالخير والعطاء والخُلق والأدب والكرم والسخاء ، إلى غير ذلك من الصفات الفاضلة والآداب الكاملة الشاهدة بصدقه، حتى شهد كثيرٌ من أعدائه (صلى الله عليه وسلم) بصدقه لكمال سيرته (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يبعث وبعد بعثه (صلى الله عليه وسلم) .

الأمر التاسع : أن دراسة سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) باب عظيم مبارك من أبواب السعادة ؛ بل إن السعادة متوقفة على معرفة هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فلا سعادة إلا بسلوك نهجه ولزوم هديه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه . يقول ابن القيم -رحمه الله- في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد: "ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوقَ كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل - إلى أن قال - وإذا كانت سعادةُ العبد في الدارين معلقةً بهدي النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فيجِب على كلَ من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه مَا يَخْرُجُ به عن الجاهلين به ويدخل به في عِداد أتباعه وشِيعته وحِزبه ، والناس في هذا بين مستقِل ، ومستكثِر ، ومحروم ، والفضلُ بيد اللّه يُؤتيه من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم " .

الأمر العاشر : أنَّ شمائله وسيرته العطرة (صلى الله عليه وسلم) تعدُّ منهج حياة لكلِّ مسلم يرجو لنفسه الخير والرفعة والحياة الكريمة في الدنيا والآخرة، يُربى عليها الأبناء وينشأ عليها الأجيال، وإذا حاد النشءُ عنها حصل لهم الضياع كما هو حال كثير من الشباب والشابات عندما يمموا في قراءاتهم للسير والأخبار نحو سير التافهين والتافهات، وأخبار الضائعين والضائعات من الهمل كيف ترتب على ذلك الانحراف في العقائد والعبادات! والانحلال في الآداب والأخلاق والاختلال في القِيَمِ والموازين، فما أَحوج هؤلاء إلى العودة الصادقة إلى هذه السيرة العطرة والشمائل المباركة؛ ليقِفوا على هذا المعين المبارك والمنهل العذب الذي مَن وقف عليه واهتدى بهداه تحقق له تمام الصَّلاح والفلاح والسَّعادة بإذن الله, «فالله سبحانه علَّق سعادة الدَّارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة»«زاد المعاد» لابن القيِّم (1/36).

ثم من ينظر إلى واقع الناس من حيث العناية بسيرة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) يجد أن حالهم كما ذكر ابن القيم رحمه الله بين مقل ومستكثر ومحروم ؛ بل إنهم في هذا الباب:

إما رجل ابتُلي بالجفاء في حق إمام الخلق وقدوة الناس أجمعين ؛ فتجد أيامه تمضي وحياته وأوقاته تمر ولا يعطرها ولا يطيـّبها بدراسة هدي وسيرة خير العباد التي هي زاد يبلّغ إلى رضوان الله ، وإلى هذا يلمح ابن القيم رحمه الله في عنوان كتابه " زاد المعاد في معرفة هدي خير العباد " ، لأن هذه المعرفة المثمرة للعمل هي الزاد للمعاد .

وقسم آخر أصيب في هذا الباب بغلو وتجاوز للحد ، وأصبحت السيرة والعناية بهدي النبي (صلى الله عليه وسلم) عنده نوع من المغالاة والإطراء المنهي عنه ، وإحداث البدع التي ما أنزل الله تبارك وتعالى بها من سلطان ، وإحداث المواسم التي تخصص في أوقات من السنة لقراءة القصائد أو المدائح أو أحيانا لقراءة شيء من سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ مع تقصير بيّن وتفريط واضح في اتباع هديه ولزوم نهجه (صلى الله عليه وسلم) ، حتى إن بعضهم ليضيّع الفرائض المكتوبات وفي مقدمتها الصلوات الخمس ولا يضيّع ولا يفوّت تلك الاحتفالات .

وقسم - وهم خيار الناس - وسط في هذا الباب : لا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط، وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها.

وينبغي أن يُعلم أن دراسة سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) ليست متوقفة على قراءة الكتب المؤلَّفة بهذا العنوان "سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) " ، لكن هذه الكتب رتبها أهل العلم وهذبوها واعتنوا بها تقريـباً وتيسيرًا ، فمن تأمل مثلاً في صحيح البخاري وصحيح مسلم والكتب الستة وغيرها من كتب الحديث ؛ فهذه في الحقيقة تعد دراسة لهديه وسيرته ودعوته صلوات الله وسلامه عليه . وهكذا كتب التفسير كلها مصادر لتلقي السيرة النبوية ؛ فكلما كان الإنسان ذا عناية بالقرآن والحديث علماً وعملاً وتطبيقاً فهو على خير عظيم في باب دراسة سيرة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) ، لكن هذه الكتب التي كتبها أهل العلم مختصرة ومطوّلة تقرّب الفائدة وترتب الموضوع بترتيب حياته (صلى الله عليه وسلم) بدءً من ولادته فنشأته فبعثه (صلى الله عليه وسلم) وهجرته إلى غير ذلك من أحداث السيرة العظيمة المباركة .

وفي هذه الطبعة الجديدة زيادات كثيرة جدا ، سواء في نصوص السيرة النبوية ، أو في الاستنباط منها ... وقد استفدت من كتاب"اللؤلؤ المكنون في سيرة النبوي المأمون" وغيره، حيث لم أدخر وسعاً في الرجوع للمصادر ذات الصلة ، القريبة منها والبعيدة، وقد زادت هذه الطبعة على الطبعة الأولى الضعف ...

لذلك أصبحت هذه الطبعة أوسع كتاب يؤلف في السيرة النبوية وفقهها في عصرنا هذا والحمد لله على فضله ومنته، ويمكن أن تغني عن سائر كتب السيرة القديمة والحديثة .....

وهناك كتاب كبير لي حول "خصائص الرسول (صلى الله عليه وسلم) وشمائله وحقوقه" ، كنت ألفته من قبل ، فيصبح عدد أجزاء هذا الكتاب مع الخصائص اثني عشر مجلداً كبيراً ... العهد المكي مجلدان ، والعهد المدني تسعة مجلدات ، وخصائص الرسول (صلى الله عليه وسلم) وشمائله مجلد واحد .

أسأل الله تعالى أن ينفع به جامعه وقارئه وناشره في الدارين .

الباحث في القرآن والسنة

علي بن نايف الشحود

في 27 رمضان 1442 هـ الموافق ل 10/5/2021 م

وسوم: العدد 928