إنها فلسطين

fgdfgh930.jpg 

لا أعرف مريم العفيفي، الطالبة المقدسية في معهد إدوارد سعيد للموسيقى، لكنني أعرف ابتسامتها.

اعتقلها جنود الاحتلال في الشيخ جرّاح، وعندما وضعوا الأغلال في يديها التفتت إلى الناس الذين كانوا يراقبون المشهد، وابتسمت. قالت ابتسامة عازفة الكونترباص الشابة، ما لا تتسع له الكلمات، قالت إن ابتسامتها ليست ابتسامة يأس، بل ابتسامة ما بعد اليأس. إنها ابتسامة من لم تُهزم ولن تستسلم.

كما أنني لا أعرف موسى حسونة، سائق الشاحنة اللداوي، وهو شاب في الخامسة والثلاثين وأب لثلاثة أطفال، قُتل برصاص الزعران والشبيحة في مدينته اللد، وهو عائد إلى بيته. لم يُقتل في مظاهرة، بل قُتل بدم بارد برصاص مسدسات حملها مستوطنون زعران تحميهم الشرطة. جريمته الوحيدة أنه فلسطيني، فالفلسطيني في دولة الاحتلال والعنصرية الأبرتهايد يجب أن يموت.

قلت إنني لا أعرف مريم العفيفي، لكنني أعرفها، التقيت بنساء يشبهنها هنا في مخيمات اللجوء في لبنان. وكن حين يتحدثن عن قراهن المدمرة، يمسحن الدموع عن عيونهن، ويلتفتن إلينا، وترتسم على شفاههن ابتسامة غامضة تشبه ابتسامة مريم العفيفي. أطلقت على هذه الابتسامة اسم ابتسامة الكبرياء، لكنني عندما رأيت ابتسامة مريم المقدسية، فهمت أنها ابتسامة من يرفض أن يُهزم.

وقلت إنني لا أعرف موسى حسونة، لكن ما لم أقله هو أنني أعرف جده. موسى يحمل اسم جده الذي عاش في غيتو اللد عام 1948. الجد قاوم كغيره من أبناء الغيتو من أجل البقاء والتمسك بالأرض. أما موسى الشهيد، فقد ولد في المدينة المنكوبة التي يطلقون عليها وعلى بقية مدن فلسطين اسماً مستعاراً هو المدن المختلطة، بينما هي مدن فلسطينية عربية اجتاحها مستوطنون واحتلوا بيوتها. الحفيد نسي الغيتو والأسلاك الشائكة، فجاءته رصاصات شبيحة التطرف العنصري والديني اليهودي في إسرائيل، لتذكره بأنه لا يعيش في مدينته بل في الغيتو، وعلى سكان الغيتو أن يطلبوا رحمة مَن لا رحمة في قلويهم.

ابتسامة مريم تعممت على وجوه المعتقلين والمعتقلات الفلسطينيين، لم يشاهد العالم فرحاً كهذا الفرح الذي رسمه الألم. حتى تلك الشابة التي لا أعرف اسمها، كانت تبتسم بينما ركع على عنقها جندي إسرائيلي.

«يأس لا يستسلم» كتب فوّاز طرابلسي، أنه مجد ما بعد يأسنا. لقد ملأ حكام العرب الأرض فساداً، ما أعطى المستوطنين ودولتهم العنصرية شعوراً خاطئاً بانتفاخ القوة، وأطلق شياطين العنصرية والوحشية.

قالوا إن فلسطين انتهت، وخصوصاً بعد عار اتفاقات «أبراهام»، التي أرادت تحويل العار إلى نمط حياة، لكنهم فوجئوا بأن فلسطين بقيت فلسطين.

في الشيخ جراح وأمام إصرار سكانه المهددين بالطرد، عادت أشباح النكبة التي لم تغب، وفي ساحة باب العامود ارتسم هول الاحتلال الذي يسعى إلى خنق القدس الفلسطينية.

وانفجرت القدس ومعها انفجرت كل فلسطين، معلنة أن النكبة مستمرة منذ ثلاث وسبعين سنة، لكن مقاومتها مستمرة أيضاً ولم ولن تتوقف.

لا يصح استخدام كلمة نكبة من دون كلمة مقاومة. فالشعب الفلسطيني لم يتوقف عن مقاومة النكبة الزاحفة على كل مفاصل حياته، ولن يتوقف عن مقاومتها.

إنها فلسطين.

وفلسطين وحدها تحمل الكلمة الفصل. فلسطين هي القلب. قانا الجليل هناك وفي لبنان، ودمشق صارت دمشق الصغرى على تخوم جبل النار في نابلس، من جنين ومخيمها إلى اللد التي تنزع من روحها أسلاك الغيتو، إلى الرملة ويافا وحيفا وعكا. جليلها الفلسطيني يمتد في جليلنا اللبناني، وكرملها يغوص في البحر معانقاً بحر الجليل.

إنها فلسطين.

وفلسطين اليوم المضرجة بالدم تعيد رسم المنطقة.

ما صنعته هذه الانتفاضة الكبرى بمظاهراتها ومواجهاتها وصواريخها وصمودها الأسطوري، هي أنها رممت أرواحنا وكرامتنا ولغتنا.

الصراع الكبير على مستوى المنطقة يدور هنا.

انتفاضة فلسطين هي أم الانتفاضات العربية، لأن فلسطين تقاوم دفاعاً عن الحرية، والحرية واحدة.

وقد جاءت انتفاضات الربيع العربي لتؤكد هذه الحقيقة. فالاستبداد العربي هو الوجه الآخر للصهيونية. وحين تناضل الشعوب العربية من أجل حريتها فهي تناضل أيضاً من أجل حرية فلسطين.

لم يأت أوان التحليل بعد، فوسط الدم نحن ننحاز بلا تردد إلى جانب الضحية الفلسطينية التي تنتفض دفاعاً عن حقها وحقنا في البقاء.

لم يأت أوان التحليل، لكن كل شيء يشير إلى أن فلسطين تعيش مفترقاً حاسماً، وتؤسس لبداية جديدة.

انتهى الرهان على الاستسلام، فهؤلاء القتلة رفضوا الاستسلام الفلسطيني في أوسلو لأنهم لا يريدون استسلامنا بل يريدون إبادتنا.

وتوحدت فلسطين في أرض المعركة.

انتفض أولاد الغيتو الذين عاشوا في غيتو كبير اسمه دولة إسرائيل. فلسطينيو داخل الداخل هم فلسطينيون وليسوا عرب 48، أو عرب أرض إسرائيل.

وفلسطينيو القدس هم فلسطينيون أولاً، قِبلتهم اسمها الوطن المحتل والمؤجل.

وفلسطينيو الضفة الغربية وغزة هم أبناء جسد واحد مهما كان الانقسام فاحشاً.

وفلسطينيو الشتات واللجوء يقاومون ويصنعون من خرابهم أرضاً جديدة.

إنها فلسطين.

ورسالة فلسطين واضحة، إنها تقول لإسرائيل بأن الاسم الفلسطيني لن يزول، وسيستمر في المقاومة إلى أن يحين الحين.

وتقول للحكام العرب الذين خانوها بأنهم فقدوا أرواحهم، ولن يستعيدوها، وأن حلفهم مع دولة الاحتلال هو خضوع وذل وعار سيلاحقهم إلى الأبد.

وتقول للعالم بأنها تعلمت أن اللغة الوحيدة التي يفهمها الوحش العنصري المهيمن على الغرب الرأسمالي هي لغة القوة. وأنها لن تبالي باللغة المحنطة التي لا يتقن الأمريكيون والأوروبيون سواها، ولن تلتفت إلى لومهم الدائم للضحية.

وتقول للقيادات الفلسطينية المهيمنة كفى. انتهت اللعبة يا جماعة، الذين نهبوا وتسلطوا عليهم أن يغادروا الحلبة قبل أن يدمر الفلسطينيون المسرح على رؤوسهم، والذين تاجروا بالدين عليهم أن يفهموا أن فلسطين وطن وليست مذهباً دينياً، وأنها تقاتل العنصرية والتعصب الديني الإسرائيلي، من أجل التحرر والحرية. إنها فلسطين. استمعوا إليها، فمهما كانت نتيجة المواجهة، فإن فكرة فلسطين تتجدد في ساحة هذه المعركة المفتوحة على كل الاحتمالات.

وسوم: العدد 930