أحداث أفغانستان أكدت للغرب العلماني أن فرض قيمه بالقوة رهان خاسر

أحداث أفغانستان أكدت للغرب العلماني أن فرض قيمه بالقوة رهان خاسر وأن الوقت قد حان لاحترام هويات وخصوصيات شعوب المعمور العقدية والثقافية

مع أن أرض الأفغان كانت مقبرة المحتل الروسي  الشيوعي  في القرن الماضي ، فإن الغرب العلماني لم يتعظ بذلك ،وأصر على أن يجرب حظه هو الآخر باحتلالها  ، فانتهى به الأمر إلى ما انتهى بالروس من قبل  بل أكثر مما انتهى بهم باعتبار الكلفة المادية الخيالية التي كلفها غزوه لأرض مستعصية على الغزو والاحتلال بطبيعة هوية  شعبها وخصوصياته العقدية والثقافية   .

إن الذي غر الروس من قبل ،وغر من بعدهم الغرب بزعامة الولايات المتحدة هو الطمع في تغيير ملامح هوية الأفغان ، ذلك أن الروس أرادوا تحويل بلادهم إلى بلد شيوعي ، كما أن الغرب أراد تحويلها إلى بلد علماني ، وكانت النتيجة فشلهما معا حيث ظلت الخصوصيات العقدية والثقافية للشعب الأفغاني راسخة وثابتة لم تتزعزع .

والأحداث الأخيرة في أفغانستان أكدت للغرب العلماني  كما أكدت للشرق الشيوعي من قبل أن الرهان على تسويق قيمهما بالقوة رهان خاسر وأن الوقت قد حان للتخلي عن فكرة عولمة تلك القيم واحترام  القيم المختلفة لشعوب المعمور لأن الله عز وجل جعل لكل أمة ولكل شعب هوية و خصوصيات عقدية وثقافية .

ولقد مكث الروس في أفغانستان عقد من السنين أو يزيد قليلا ، كما مكث الأمريكان فيها عقدين ، وعمل كل منهما على إحداث تغيير في المجتمع الأفغاني وهما يحاولان استغلال فقر الشعب الأفغاني وبساطته لإغرائه بقبول التبعية لهما عقديا وفكريا وثقافيا ، وكان ذلك من سوء التقدير والحساب ، والجهل بطبيعة الشعب الأفغاني العصي على كل ترويض أو تدجين إن صح التعبير .

ولقد ضيعت الشيوعية الروسية  و العلمانية الغربية على الشعب الأفغاني ما يزيد عن ثلاثة عقود كان بإمكانه أن يحقق فيها آماله في العيش الكريم في وطن مستقل. ولقد كان الضرر الذي ألحقته به الشيوعية الروسية والعلمانية الغربية كبيرا حيث هلك منه خلق كثير ولم يسلم من الكيد بعد هزيمة الروس  حيث اشعلت نيران حرب أهلية طاحنة  بين الأفغان ، وكان ذلك دسيسة للانتقام من الشعب الأفغاني . ولما تم إخماد الحرب الأهلية ، وأوشك المجتمع الأفغاني على تجاوز آثارها المدمرة أعد له الغرب العلماني مؤامرة  جديدة  لتمديد معاناته قصد  تغيير هويته العقدية والثقافية تحت ذريعة تحديثه أو إخراجه من البداوة إلى الحضارة .  

ولقد أنفق الغرب العلماني أموالا طائلة بل خيالية من أجل ذلك ، وظن أن ذلك ممكنا عن طريق القوة العسكرية ، فكوّن جيشا من الأفغان وربما من غيرهم أيضا قوامه ثلاثمائة ألف و دربه أحسن تدريب وأمده  بأحدث عدة وعتاد ليحل محله عند رحيله ، ولم يخطر له على بال بالرغم من  خبرة أجهزته الاستخباراتية  العتيدة أن هذا الجيش سيستسلم لحركة طالبان التي قوام مقاتليها خمس وسبعون ألف بعدة وعتاد لا تتعلق بغبار عدة الجيش الأفغاني بين عشية وضحاها . وهذا يعني أن حسابات وتقديرات القوة العسكرية كانت خاطئة لأنها لم تأخذ في الاعتبار عامل المعنويات الذي لا تثبت أمامه القوة العسكرية ، وهذا العامل هو طبيعة هوية الشعب الأفغاني وخصوصياته العقدية والثقافية .

وبعد انتصار حركة طلبان الذي اعترف به العالم بأسره ،بدأت الحملات الإعلامية المكثفة  والمغرضة خصوصا في الغرب العلماني للتشكيك في قضية  استقرار أفغانستان في ظل حكم طالبان . ومع أن الحركة قد عبرت عما يكفي من طمأنة المجتمع الدولي بأنها ليست كما صورها من قبل أو كما لا زال  يصورها الإعلام الغربي ، وأن همهما  أو أولويتها هي بناء دولة أفغانستان المستقلة  والموحدة بمشاركة كل مكوناتها العرقية  ، وأنها قد أصدرت عفوا عاما وشاملا على جميع من كانوا يحاربونها إلى جانب الغزاة الغربيين ، كما تعهدت بضمان الأمن و صيانة الحريات وعلى رأسها حرية المرأة الأفغانية  التي يتباكى الإعلام الغربي عليها ... إلى غير ذلك مما صرح به الناطق الرسمي باسمها في مؤتمره الصحفي يوم أمس . ومع طمأنة  حركة طالبان المجتمع الدولي بأنها خلاف ما يصورها به الإعلام الغربي ،فإن هذا الأخير لم يغير من نظرته إليها ، ولا زال يعتبرها حركة مارقة ، وأن الغرب إنما اضطر للتعامل معها علما بأنها كانت السباقة إلى طلب الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع الحكومة التي نصبها الغرب لتحل محله بعد رحيله إلا أن رئيس تلك الحكومة استصغر من شأنها ،ورفض التفاوض معها بل ضلل الغرب بأنه قادر على التصدي لها بالقوة  العسكرية ،علما بأنه القوة الغربية نفسها  لم تستطع ذلك واضطرت للرحيل  عن أفغانستان منهزمة كما هزمت من قبل في الهند الصينية . ولقد أقر الرئيس الأمريكي بأن الرئيس الأفغاني لم يأخذ بنصيحته للجلوس إلى مائدة التفاوض مع حركة لا يمكن الاستهانة بها أو حكم البلاد دون مشاركتها ، لكنه لم ينتصح بل تمادى في غيه حتى استيقن أنه لا قبل له بتلك الحركة وأن القوة العسكرية لا تفيده شيئا أمام معنويات مقاتليها الذي صمدوا لعقدين من السنين في ظروف قاسية للغاية وقدموا أكبر التضحيات هم والشعب الأفغاني على حد سواء   .

وخلاصة القول أنه يجب على الغرب العلماني أن يأخذ العبرة مما حدث في أفغانستان ، ويتخلى عن تشبثه  بفكرة فرض قيمه العلمانية بالقوة ، ويكون البديل عن ذلك هو احترام الهويات والخصوصيات العقدية والثقافية لشعوب المعمور ، وأن ينتهي عن التدخل السافر في شؤونها ، والتآمر عليها ، وأن يقطع  صلته مع محاولة عولمة قيمه العلمانية في أرجاء المعمور على أساس أنها واجبة  مع أنها   تلزمه وحده، ولا يمكن أن تكون قدرا مفروضا على غيره .

وعلى الغرب العلماني أن يتعظ بما أنفقه من أموال طائلة على آلته الحربية لتغيير الهوية الأفغانية  بالقوة ، وأن يستيقن أن إنفاقه على  طوابيره العلمانية الخامسة المبثوثة في مختلف دول العالم  وعلى إعلامه  المسوق لقيمه  سيكون  مصيره كإنفاقه على القوة العسكرية ، وأنه حتما  رهان خاسر كرهانه على القوة العسكرية ، وما عليه إلا التعامل على قدم المساواة وبالاحترام اللازم مع مختلف الهويات في المعمور والتي يحدث نفسه بطمسها وتغييرها لتكون ظلا لهويته العلمانية .

وعلى  الغرب  العلماني أن يقر بالأمر الواقع وألا يحاول تجاهله ، وأن يصرف همه للخير عوض صرفه  للشر ، وأول الشر يتعين  تخليه عنه هو ما يهدد كوكب الأرض من كوارث بسبب سوء تصرفه الأهوج فيه  ، وأن يستجيب لنداء من يحذرونه من هذا التصرف تجاه البيئة التي بدا عليها من الغضب ما لم يكن من قبل وهي تنذر بالويل والثبور وعواقب الأمور .

ولو أن الغرب العلماني  صرف على محاربة  الجائحة التي تفتك اليوم بساكنة المعمور ما أنفقه على تسليح جيش انهار في لحظات في أفغانستان لعاش كل الناس اليوم في مأمن من خطر الفيوروس التاجي الذي صارت له تحورات ونسخ.

فهل سيتعظ الغرب العلماني  ، ويتوقف عن استعمال خطاب " يجب " الذي يخاطب به شعوب المعمور معتبرا نفسه وصيا عليها دون أن يقبل هو منها هذا الخطاب ؟؟؟   

وسوم: العدد 942