حديث نفس

هذه الأفكار ظلت تراودني فتغلبني منذ اثنين وأربعين عاما هي عمر هجرتي الطويلة .. لا يشترط فيها أن تكون صحيحة، بل هي من حديث النفس، وحديث النفس لا تشترط فيه الصحة.وكثير منه يكون أمانيّ وغرورا. وقديما قال العربي:

واكذب النفس إذا حدثتها.. إن صدق النفس يزري بالأمل

ولا أستطيع أن أحصي مثلا عدد المرات التي قلت فيها لنفسي أو هي التي قالت لي : إن شاء الله غدا نعود .. والعيد القادم في حلب. و.. و... هذا التأميل هل كان كذبا مذموما ؟!

وهذا من أسرار الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة الذين يدعون ان قبح القيم عقلي وليس شرعيا ..

أعود بكم إلى ما كانت توسوس لي به نفسي، لا أدري أي النفوس الأمارة، أو اللوامة، أو المطمئنة .. !!

كانت تقول لي، طوال سنوات الهجرة وما زالت، كل مشروع أو عمل عام فردي أو جماعي، كنّا نستطيع أن نشتغل عليه ونحن في قبضة الأسد وتحت سيطرته، فالشغل عليه في فضاء الهجرة الحرج، ووقتها الثمين؛ باطل..وعبث وتفريط في تقدير الأولويات...

مثلا أسمع من إخواننا خريجي الزنازين ولاسيما زنازين تدمر أنهم كانوا يشتغلون على الأوراد والأذكار وتعليم العلوم وتعلمها لم نكن بحاجة لنهاجر مثلا لنهلل ونسبح ونحوقل ونسترجع.. كنّا نستطيع فعل ذلك فرادى، ومجتمعين في كل الزوايا والتكايا فلماذا الهجرة يا قوم ؟!!!

الناس في كثير من زوايا المساجد داخل سورية ، وتحت سلطة الأسد ما زالوا يرددون الأوراد ويقرؤون ٤١ مرة سورة ياسين لتفريج الكرب، وما زالوا يعلقون الصلاة النارية على جدران منازلهم ومتاجرهم ؛ لا حافظ الأسد من قبل ولا بشار الأسد من بعد ضيقوا علينا وعليهم مثل هذا..فلماذا فررنا به وإليه..

وما زال البعض يمطروننا بمثله رشا ودراكا.. وكذا بمضغ كثير من الكلام عن " هوشي منه الذي يضيء"

لعلكم هذا عنوان كتاب أول ما وقع نظري عليه على أرصفة دمشق منذ نصف قرن تهجيته " هو شيءٌ منه الذي يضيء" ويقولون كثيرا ما تختلط السين بالثاء فتكون الثقافة سخافة.

تقول لي نفسي

هناك علوم خاصة، وأعمال خاصة، ومشروعات خاصة كانت محظورة علينا وهذا أوانها ، وأوان جعلها حقا لنا ولأبنائنا من بعدنا...

وهذه تجربة داخلية جربناها في جماعة الإخوان المسلمين في السبعينات. حيث كان قرارنا كل علم أو موضوع نستطيع أن ندرسه في العلن لن ندرسه في السر!!

وقت الهجرة ثمين وخاص بأولوياته وماذا يصنع أو يقال فيها، في مثل السنين العشر التي قضينا أسس المهاجر الأول دولة ورحل ...

 من شرطنا أن نشعر أننا في هجرتنا أو غربتنا كمن يدوس وليس يقبض فقط، على الجمر . وشعورنا هذا يجعلنا نعيد النظر في الأولويات للموقف، للقرار ، للفعل، للكلمة، للعلم،للفن، لمادة الحوار إذا تحاورنا ولمادة الجدل إذا تجادلنا وتقول لي نفسي المهجرون لا يتجادلون...

أن نعطي الأولوية لكل ما يختصر علينا الطريق..

تقول لي نفسي بل بالحقيقة أنا الذي أقول لها، وقد أكون مخطئا ، كل فعل لا يصب مباشرة في تقصير زمن الهجرة وتصحيح الحال في دار المقامة الأول؛ هو فعل عبثي مترف والخوض فيه باطل...

كانت سورة المزمل من أول ما نزل من القرآن ، ودعت إلى قيام الليل نصفه وثلثه ولكنها لم تغفل عن تخفيف وطأة هذا التكليف عن الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وعن الذين يقاتلون في سبيل الله..

في الحديث الشريف : العبادة في الهرج كهجرة إلي ..

والهرج هو ما يسود أوساط كثير من المهجرين السوريين، مجاهدين ومناضلين.

وهذا الذي يسود هو معنى من معاني القتل يوم فسر المفسرون الهرج به حين رووا ويكثر الهرج..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 942