لقد آن الأوان ليتغير النظام العالمي من نظام تسوده القوة إلى نظام تسوده القيم

حدثان متتبعان وقعا خلال هذا العام كانا بمثابة مؤشرين على أن النظام العالمي الحالي، والذي يبدو أنه استوفى عمره، وكان قد بدأ بنهاية الحرب العالمية الثانية، و هو نظام يحكمه منطق القوة العسكرية  أو منطق الغالب والمغلوب .

 والحدثان معا مرتبطان بشعبين مضطهدين هما : الشعب الفلسطيني، والشعب الأفغاني المتهمين معا بالإرهاب  بالمفهوم الغربي على حد قول من اضطهدهما واحتل أرضهما بالقوة .

 أما الحدث الأول ،فيتعلق بالشعب الفلسطيني الذي برهن لمن يحتل أرضه  أن حساباته  التي تعتمد الرهان على  منطق القوة خاطئة و وأن الزمن قد تجاوزها  ،و أنها لم تعد مجدية ، وأنه رب فئة قليلة مستضعفة مظلومة  تحتار في أمرها  فئة كثيرة مستكبرة ظالمة .

 وأما الحدث الثاني، فيتعلق بالشعب الأفغاني الذي برهن أيضا لمن يحتل أرضه أن الاحتلال مهما طال، فهو لا محالة  إلى زوال ، وأن الرهان على القوة  هو رهان خاسر ،و مغامرة وخيمة العواقب .

والجدير بمن جعلوا النظام العالمي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية قدرا محتوما  أن يتيقنوا أن الحدثين معا قد قرعا أجراسا تنذر بضرورة نهاية هذا النظام الذي قوامه  الاعتماد والتعويل على القوة العسكرية، وأن الحاجة باتت ملحة لتغييره أو لانتقاله  من منطق سيادة القوة إلى منطق سيادة القيم .

وإذا كان  كل من الذين احتلوا الأرض الفلسطينية والأرض الأفغانية بعد هذين الحدثين قد نشأت لديهم قناعة بأنهم قد صاروا مضطرين إلى التفكير في الحوار والتفاوض مع الذين احتلت أرضهم ، وأن عليهم أن يقطعوا صلتهم بمنطق الرهان على القوة  واستعراض العضلات ، فإن جلوسهم إلى طاولات المفاوضات معهم  يجب أن يكون صادقا  وألا يكون مجرد مناورة .

وإن جلوس المحتلين معا  للتفاوض مع الذين احتلوا أرضهم وقد  عبر هؤلاء على أنه لا هوادة في  مطلب استقلالهم  يفرض عليهم تغيير ذهنياتهم  لتنقلهم من الرهان  على منطق سيادة  القوة إلى منطق  سيادة القيم في عالم اليوم  بعدما تبين  وتأكد بما لا يدع مجالا  لأدنى شك أن زمن سيادة أو هيمنة  القوة  مصيره الحتمي و نهايته مهما طال الزمن  هي نفق مظلم أو طريق مسدود كما يقال.

وكل البلاد التي تصنف ضمن تلك التي تراهن على خيار القوة العسكرية مهما كانت إيديولوجيتها أو عقيدتها عليها أن تبادر إلى نقلة نوعية من منطق الرهان على القوة إلى منطق الرهان على القيم ، وهذا ما سيجنب المجتمع الدولي مصيرا كارثيا خصوص وأن تلك البلاد ماضية بوتيرة غير مسبوقة في سباق التسلح أكثر مما كان عليه الحال قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية والتي كان من المفروض أن تكون فيها موعظا للذين أشعلوها  ولغيرهم.

والطريق الأقصر إلى سيادة منطق القيم التي هي بالضرورة إنسانية بالمعنى الدقيق للكلمة هو التركيز على مشاكل بؤر التوتر في العالم من أجل  إيجاد حلول عادلة ودائمة لها من شأنها أن تضع حدا للتوترات والصراعات  ليسود الأمن والسلام كل ربوع العالم . وبناء على هذا لا بد أن يحصل الشعب الفلسطيني على حريته فوق أرضه ، كما أنه لا بد أن يقرر الشعب الأفغاني مصيره، وهو ما حرم منه طيلة ثلاثة عقود  تناوب عليه فيها احتلال سوفياتي وآخر غربي بزعامة  الولايات المتحدة الأمريكية .

وعلى المثال الفلسطيني والأفغاني تقاس أمثلة  كل الشعوب التي تعاني من وصاية وتدخل الدول المراهنة على منطق القوة  في شؤونها . وبسيادة منطق القيم سيتحقق التوازن في عالم اليوم المختل توازنه والمعبر عنه بعبارة " دول عظمى ، وأخرى ضعيفة أو دول عالم ثالث وهو عالم بينه وبين العالم الأول أو   عالم الدول العظمى فجوة بحيث  لا يعرف صنف بين الصنفين أو ترتيب بين الترتيبين .

ومعلوم أن سيادة منطق القيم سيكون كابحا لكل الأنظمة المارقة في العالم ،والتي لا زالت  متشبثة بقناعة سيادة القوة لحل المشاكل ،علما بأن هذا المنطق الشاذ قد فتح الباب على مصراعيه لتنامي الأنظمة الشمولية خصوصا فيما يسمى  بدول العالم الثالث والتي  تحاكي الدول العظمى في رهانها على منطق القوة  ، وهذه الأخيرة تقرها، وتشجعها على ذلك خدمة لمصالحها المتوقفةعلى استعمال القوة. وبسيادة الاحتكام إلى منطق القيم  لن يبقى وجود أو مكان لتلك الأنظمة الشمولية ، وسينتهي العبث بما يسمى باللعبة الديمقراطية التي صارت مهزلة في دول الاستبداد السياسي عند الانظمة الشمولية بحيث لم يبق من هذه اللعبة سوى  توفير الصناديق الزجاجية  التي لا قيمة لشفافيتها وهي  غير ناطقة بصدق عن إرادة الشعوب.

إن الخير كل الخير في سيادة منطق القيم الذي هو أساس نقلة هذا العالم البائس من طور التوحش أو القوة العسكرية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي ليس قدرا محتوما إلى ما لا نهاية له . وعندما ستذوق أمم الأرض حلاوة العيش في ظل عالم يحكمه منطق القيم الإنسانية التي يتساوى أمامها الأقوياء والضعفاء ، فإنها لن تعود أبدا إلى الماضي الذي يحكمه منطق القوة، والذي هو منطق قانون الغاب الذي يأكل فيه  الأقوياء الضعفاء  .

 فهل سيتطور المجتمع الإٌنساني تطورا حقيقيا ينقله من همجية الرهان على القوة إلى حضارة الرهان على القيم أم أنه سيواجه ـ لا قدر الله ـ مصيرا مهلك لكل من في الغاب أقوياء وضعفاء على حد سواء ؟ كما عبر عن ذلك كتاب الله عز وجل حيث يقول سبحانه وتعالى : (( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق القول عليها  فدمرناها تدميرا ))، وما الفسوق سوى الخروج عن منطق الرهان على القوة إلى منطق الرهان على القيم .

وسوم: العدد 943