الشاعر اليمني البردوني في مهرجان أبي تمّام

حينما وصل الشاعر اليمني (البردوني) إلى العراق للمشاركة في مهرجان "أبي تمّام"، عام 1970م، لم تعجب البعض هيئته وملابسه البسيطة، ولذلك سارعت الشاعرة العراقية، لميعة عبّاس، إلى إقناع وزير الثقافة العراقي آنذاك، شفيق الكمالي، بأهمّية مشاركة صاحبنا، حتّى لا تكون بساطته تلك سبباً في تقديم غيره من الشّعراء، ومن يمكن وصفهم بالمتأنّقين، اتّساقاً مع دبلوماسية مثل هذه المؤتمرات.

ما إن صعد إلى المنصّة لإلقاء قصيدته الشهيرة "أبو تمّام وعروبة اليوم"، حتّى تسمّر عمالقة الشعر المشاركون في الملتقى على مقاعدهم، وهم يشاهدون نهوضه كأبي العلاء المعرّي، وقامته كأبي تمّام والمتنبّي. لقد بدا لهم حالة تاريخية نادرة في وجه إنسان، وحاضر أمّة في عينيه، ومستقبلها في قصائده.

ووسط الحشد الهائل من شعراء الوطن العربي، والنّقاد، والمسؤولين، والمثقّفين، والصحافيّين، ورجال العلم والأعمال، أطلق بائيّته، مخاطباً حبيب بن أوس بن الحارث الطائيّ، أحد الشعراء المتميّزين في العصر العبّاسي، والمكنّى بأبي تمّام، وجاء في مطلعها:

"ما أصدقَ السّيف إنْ لم ينْضِهِ الكذِب...

لنتمتع برائعة البردونى المتفردة وكالعادة نتدارس النص سويا ونعلق أدبيا وفكريا وبلاغيا ولغويا وشعوريا وكأن البردونى كان زرقاء اليمامة التى كانت ترى مالايراه قصيرو النظر

مـا أصدق السيف! إن لم ينضه الكذب

وأكـذب السيف إن لم يصدق الغضب

بـيض الـصفائح أهـدى حين تحملها

أيـد إذا غـلبت يـعلو بـها الـغلب

وأقـبح الـنصر... نصر الأقوياء بلا

فهم.. سوى فهم كم باعوا... وكم كسبوا

أدهـى مـن الـجهل علم يطمئن إلى

أنـصاف ناس طغوا بالعلم واغتصبوا

قـالوا: هـم الـبشر الأرقى وما أكلوا

شـيئاً.. كـما أكلوا الإنسان أو شربوا

مـاذا جـرى... يـا أبا تمام تسألني؟

عفواً سأروي.. ولا تسأل.. وما السبب

يـدمي الـسؤال حـياءً حـين نـسأله

كـيف احتفت بالعدى (حيفا) أو النقب

مـن ذا يـلبي؟ أمـا إصـرار معتصم؟

كلا وأخزى من (الأفشين) مـا صلبوا

الـيوم عـادت عـلوج (الروم( فاتحة

ومـوطنُ الـعَرَبِ الـمسلوب والسلب

مـاذا فـعلنا؟ غـضبنا كـالرجال ولم

نـصدُق.. وقـد صدق التنجيم والكتب

فـأطفأت شـهب (الـميراج) أنـجمنا

وشـمسنا... وتـحدى نـارها الحطب

وقـاتـلت دونـنا الأبـواق صـامدة

أمـا الـرجال فـماتوا... ثَمّ أو هربوا

حـكامنا إن تـصدوا لـلحمى اقتحموا

وإن تـصدى لـه الـمستعمر انسحبوا

هـم يـفرشون لـجيش الغزو أعينهم

ويـدعـون وثـوبـاً قـبل أن يـثبوا

الـحاكمون و»واشـنطن« حـكومتهم

والـلامعون.. ومـا شـعّوا ولا غربوا

الـقـاتلون نـبوغ الـشعب تـرضيةً

لـلـمعتدين ومــا أجـدتهم الـقُرَب

لـهم شموخ (المثنى) ظـاهراً ولهم

هـوىً إلـى »بـابك الخرمي« ينتسب

مـاذا تـرى يـا (أبا تمام) هل كذبت

أحـسابنا؟ أو تـناسى عـرقه الذهب؟

عـروبة الـيوم أخـرى لا يـنم على

وجـودها اسـم ولا لـون.ولا لـقب

تـسـعون ألـفاً (لـعمورية( اتـقدوا

ولـلـمنجم قـالـوا: إنـنـا الـشهب

قـبل: انتظار قطاف الكرم ما انتظروا

نـضج الـعناقيد لـكن قـبلها التهبوا

والـيوم تـسعون مـليوناً ومـا بلغوا

نـضجاً وقـد عصر الزيتون والعنب

تـنسى الـرؤوس العوالي نار نخوتها

إذا امـتـطاها إلـى أسـياده الـذئب

حـبيب وافـيت من صنعاء يحملني

نـسر وخـلف ضلوعي يلهث العرب

مـاذا أحـدث عـن صـنعاء يا أبتي؟

مـليحة عـاشقاها: الـسل والـجرب

مـاتت بصندوق »وضـاح«بلا ثمن

ولـم يمت في حشاها العشق والطرب

كـانت تـراقب صبح البعث فانبعثت

فـي الـحلم ثـم ارتمت تغفو وترتقب

لـكنها رغـم بـخل الغيث ما برحت

حبلى وفي بطنها (قحطان) أو(كرب)

وفـي أسـى مـقلتيها يـغتلي (يمن

ثـان كـحلم الـصبا... ينأى ويقترب

»حـبيب« تسأل عن حالي وكيف أنا؟

شـبابة فـي شـفاه الـريح تـنتحب

كـانت بـلادك (رحلاً)، ظهر ناجية

أمـا بـلادي فـلا ظـهر ولا غـبب

أرعـيت كـل جـديب لـحم راحـلة

كـانت رعـته ومـاء الروض ينسكب

ورحـت مـن سـفر مضن إلى سفر

أضـنى لأن طـريق الـراحة التعب

لـكن أنـا راحـل فـي غـير ما سفر

رحلي دمي... وطريقي الجمر والحطب

إذا امـتـطيت ركـاباً لـلنوى فـأنا

فـي داخـلي... أمتطي ناري واغترب

قـبري ومـأساة مـيلادي عـلى كتفي

وحـولي الـعدم الـمنفوخ والـصخب

»حـبيب« هـذا صـداك اليوم أنشده

لـكن لـماذا تـرى وجـهي وتكتئب؟

مـاذا؟ أتعجب من شيبي على صغري؟

إنـي ولـدت عجوزاً.. كيف تعتجب؟

والـيوم أذوي وطـيش الـفن يعزفني

والأربـعـون عـلى خـدّي تـلتهب

كـذا إذا ابـيض إيـناع الـحياة على

وجـه الأديـب أضـاء الفكر والأدب

وأنـت مـن شبت قبل الأربعين على

نـار (الـحماسة) تـجلوها وتـنتخب

وتـجتدي كـل لـص مـترف هـبة

وأنـت تـعطيه شـعراً فـوق ما يهب

شـرّقت غـرّبت من (والٍ) إلى ملك

يـحثك الـفقر... أو يـقتادك الـطلب

طوفت حتى وصلت (الموصل( انطفأت

فـيك الأمـاني ولـم يـشبع لها أرب

لـكـن مـوت الـمجيد الـفذ يـبدأه

ولادة مـن صـباها تـرضع الـحقب

»حـبيب« مـازال فـي عينيك أسئلة

تـبدو... وتـنسى حـكاياها فـتنتقب

ومـاتـزال بـحـلقي ألـف مـبكيةٍ

مـن رهبة البوح تستحيي وتضطرب

يـكـفيك أن عـدانـا أهـدروا دمـنا

ونـحن مـن دمـنا نـحسو ونـحتلب

سـحائب الـغزو تـشوينا وتـحجبنا

يـوماً سـتحبل مـن إرعادنا السحب؟

ألا تـرى يـا »أبـا تـمام« بـارقنا

(إن الـسماء تـرجى حـين تحتجب)

وسوم: العدد 943