هوية مصر الحقيقة تكمن في الإسلام

شريف زايد

في خضم الأحداث التي تمر بها أرض الكنانة، يبرز بوضوح سؤال في غاية الأهمية، وهو: ما الذي نعيشه هذه الأيام؟ هل نعيش أزمة هوية؟ لقد أطل علينا حزب النور مفتخرا بأنه بمشاركته في لجنة الخمسين التي وضعت أو "عدلت" الدستور قد استطاع بعون الله - حسب ادعائه - أن يحافظ على مواد الهوية. فما هي مواد الهوية تلك التي يتحدث عنها حزب النور؟ وهل حافظ عليها بالفعل؟ وهل كانت تلك الهوية مهددة بالفعل أم كانت موجودة وخارج نطاق النقاش أصلا؟

فلنذهب سويًا في رحلة قصيرة لنستكشف دساتير مصر التي وُضعت بعد أن انفصلت مصر عن جسم الخلافة العثمانية باعتبارها الخلافة الإسلامية الأخيرة، والتي هُدمت كليا على يد مجرم العصر مصطفى كمال، هذه الرحلة مهمة جدا لنرى هل يمكن الاحتفاظ بهذه الهوية في ظل أنظمة مخالفة لنظام الحكم في الإسلام، كالنظام الملكي أو النظام الجمهوري أو في ظل الحديث عن الديمقراطية.

تعريف الهوية:

هوية أي كيان هي مجموعة الخصائص والصفات التي يُعرّف بها هذا الكيان نفسه، ويعرفه بها غيره، وتظل حاضرة في شعوره، وتمثِّل الأساس الأول بل والوحيد لعقيدته وأخلاقه وسلوكه وتعاملاته. فالمجتمع ككل لا بد له من هوية، تكون أولاً بمثابة القاعدة التي يستند إليها هذا المجتمع، ومرجعيته العليا، وتكون ثانيا المنبع الذي يستقي منه المجتمع ملامح شخصيته المتميزة المستقلة التي ترفض الذوبان في غيره، وتكون ثالثا الحصن الحصين الذي يحتمي فيه أبناء المجتمع، والرباط المتين الذي يضمُّهم، فنصف هذا المجتمع بأنه مجتمع رأسمالي أو مجتمع اشتراكي أو مجتمع إسلامي بحسب العلاقات الدائمية بين أفراده والنظام المطبق عليهم..، فلا عجبَ – إذًا - أن تحرص كلُّ أمة على تأكيد هوِّيّتها والاعتزاز بها والتصدي بحزمٍ لمحاولات مسخها أو طمسها. ولذا فإن الهوية تتشكل من المبدأ الذي آمن به غالبية أفراد المجتمع، ومنه تشكلت مقاييس وأفكار ومفاهيم وقناعات الغالبية العظمى من أفراد المجتمع، ويظل الدين هو الرافد الأكبر، لاسيما إذا كان جامعا لكل مناحي الحياة.

ومن هنا ظلت الهوية الإسلامية جزءًا أصيلًا وموروثًا من تاريخ مصر، الذي مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً، لدرجة قطعت الهوية الإسلامية لمصر كل صلة لها بأي تاريخ سابق على الإسلام، ولم تبرز هوية أخرى لها في ظل الحكم الإسلامي الذي استمر قرونًا عدة، ولم تبرز فرعونية مصر التي يُتغنى بها اليوم، إلا بعد مجيء الاستعمار الذي عمل وبجد منقطع النظير على طمس الهوية الإسلامية لمصر، كما لم يكن مطروحا ما يسمى بعروبة مصر إلا مع المد القومي العروبي لفصل البلاد العربية عن جسم الدولة الأم دولة الخلافة، بتخطيط من الدول الاستعمارية كذلك، ثم انحسرت فكرة العروبة لتشهد طفرة مؤقتة في عهد جمال عبد الناصر، حيث استُغلت هذه الفكرة أمريكيًا كأرضية جامعة لطرد النفوذ البريطاني من المنطقة (الاستعمار القديم) ليحل محله النفوذ الأمريكي (الاستعمار الجديد)، وبعد جمال عبد الناصر انحسرت الفكرة القومية نهائيًا بعد فشلها في تشكيل دولة جامعة للعرب، فلم تخلف سوى نظمًا قمعية بوليسية تسوم شعوبها سوء العذاب!

دساتير مصر:

كان دستور 1923 الذي يتكون من 170 مادة أول دستور لمصر، أُضيفت إليه مادة سميت بعد ذلك "مادة الدين"، وُضعت هذه المادة في نهايته (المادة 149) حيث جاء فيها: "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية"، وقد خلا منها دستور 1930. ولكن دستوري 1954 و1956 أعادا نص مادة الدين تلك التي كانت في دستور 1923 وتقول "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية".

وفي دستور 1971 نصت المادة الثانية على أن "الإسلام دين الدولة. واللغة العربية لغتها الرسمية. ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". وهذا يعني أن هذه المادة التي يتشدق بها حزب النور أنه نجح في الحفاظ عليها كانت موجودة في الدساتير السابقة ولم تكن أصلاً موضع جدل. ولنا هنا أن نتساءل ما الذي تغير في مصر بعد أن أضيفت مادة الدين تلك في دستور 1923؟ وهل أضافت جملة "مباديء الشريعة..." في دستور 71 أي جديد إلى مصر؟ الواقع أن شيئا لم يتغير، وظلت مصر دولة بلا هوية، رغم أن الإسلام كامن في أعماق شعبها وفي كل مفاصل حياته، إلا أنه لم يكن له أثر يذكر في نظامها السياسي ولا في علاقاتها الخارجية. وفي نظامها التعليمي تم إبرازه بشكل كهنوتي روحي في مادة الدين التي لا تقدم ولا تؤخر في مجموع درجات الطالب. وظل وجوده قاصرا على قوانين الأحوال الشخصية التي لم تسلم من التلاعب بها في ظل حكم سوزان مبارك.

هوية مصر في دستور 2012 ودستور 2013:

في دستور 2012 تم الإبقاء على المادة الثانية من دستور 71 كما هي، ولكن وُضعت مادة تفسيرية لها وهي المادة 219 التي عرّفت كلمة مبادئ الشريعة الإسلامية بأنها "تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنة والجماعة"، وبرغم أن هذه المادة التفسيرية وُضعت من قبل الأزهر وحظيت بموافقة ومباركة حزب النور الذي اعتبرها حينها نصرا عظيما له في مواجهة حزب الحرية والعدالة الذي كان يرى أن نص المادة الثانية يكفي، لا سيما أنه يتضمن حسب رأيهم الأحكام القطعية الثبوت والدلالة...، وهو نفس الحكم الذي أخذت به المحكمة الدستورية عام 1996م إبان حكم مبارك، إلا أنها – أي المادة التفسيرية - أثارت اعتراضات كثيرة في حينها من القوى العلمانية والكنيسة، مما أدى إلى انسحابهم من الجمعية التأسيسية.

هذه المادة التي قاتل من أجلها حزب النور في دستور 2012 كان من المفترض أن تشكل بالنسبة له على الأقل "مادة فوق دستورية" لا يجوز المساس بها، فهي جزء أصيل من "مواد الهوية" على حسب تعبيره، والتي صدع بها رؤوسنا بأن العناية الإلهية قد اختارته للحفاظ عليها، فإذا به يتخلى عنها بمنتهى البساطة! وإذا به يقبل بحل وسط، تم بموجبه الاتفاق على حذفها والاكتفاء بالإشارة في الديباجة إلى تفسير المبادئ بأنه ما تضمنه مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا في ذلك الشأن، فلماذا رفض حزب النور هذا التفسير في دستور 2012 وقبل به في دستور 2013؟!

والغريب أنه تم الاقتصار في مقدمة الديباجة على أن مصر عربية، وفي المادة الأولى الخاصة بهوية الدولة تم النص على أن "…الشعب المصري جزء من الأمــــة العــــربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي"..، وواضح أن هناك اعترافا بالأمة العربية دون الاعتراف بالأمة الإسلامية، فالمادة قالت العالم الإسلامي ولم تقل الأمة الإسلامية. علما بأن مفهوم الأمة الإسلامية هو صلب الهوية الذي تم محوها من دستور مصر، والذي برغم ذلك مازال حزب النور يخادع ويضلل قواعده بأنه حافظ عليها، وهو الآن يقوم بحملات ترويجية لهذا الدستور، ويعقد الندوات والمؤتمرات في ظل حراسة الجيش والشرطة.

كذلك أُلغي النص الخاص بأخذ رأي الأزهر في القضايا المتعلقة بالشريعة الإسلامية، رغم أن نص المادة الرابعة في دستور 2012 يشير إلى أخذ الرأي فقط، وليس وجوب الأخذ به، إلا أن القوى العلمانية أصرت على حذفها، على اعتبار أن أي رأي يتعلق بالشريعة من اختصاص المحكمة الدستورية وحدها، فرضي بذلك الأزهر وباركه حزب النور المدافع عن الشريعة والهوية زورا وبهتانا.

كما لاحظنا إلغاء كلمة الشورى الواردة في نص المادة 6 من دستور 2012 التي تقول "يقوم النظام السياسي على مبادئ الديمقراطية والشورى" والاكتفاء بكلمة الديمقراطية، برغم أننا نعرف أن كلمة الشورى في دستور 2012 لا قيمة حقيقية لها، فكانت لمجرد ذر الرماد في العيون، لكن من الواضح أن الأصابع العلمانية التي كتبت الدستور أصرت على محوها، وإن كان الإبقاء عليها لا يقدم ولا يؤخر، إمعانا في رفضهم لمجرد وجود مصطلح إسلامي في الدستور، وما زال حزب النور يحدثنا عن مواد الهوية...  

لقد كان حزب النور في هذه اللجنة بمثابة (المحلل) لهذا الدستور كما يصفه البعض، وكان ينبغي عليه الانسحاب من اللجنة من أجل تعريتها، كما ينبغي عليه أن يعلم أن هوية مصر لا يمكن الحفاظ عليها من خلال المشاركة في وضع دستور علماني لمصر، حتى لو نجح في الإبقاء على المادة 219 أو غيرها مما يسميه مواد الهوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فالمشكلة هي في هذا الدستور الجمهوري الديمقراطي العلماني أساساً، وليس في هذه أو تلك المادة فيه! وهو حتى لم ينجح في ذلك!

إن الذي يخافظ على هوية مصر هو أن تكون العقيدة الإسلامية هي أساس الدولة، بحيث لا يتأتى وجود شيء في كيانها أو جهازها أو محاسبتها أو كل ما يتعلق بها، إلا بجعل العقيدة الإسلامية أساساً له. وتكون في الوقت نفسه أساس الدستور والقوانين الشرعية، بحيث لا يُسمح بوجود شيء مما له علاقة بأي منهما إلا إذا كان منبثقاً عن العقيدة الإسلامية. وهذا لا يمكن أن يحدث في ظل نظام جمهوري ديمقراطي كما تنص المادة الأولى، لأن نظام الحكم في الإسلام الذي ارتضاه رب العالمين لهذه الأمة وأكدت وجوبه الأدلة الشرعية هو نظام الخلافة الذي يشكل بحق هوية الأمة الحقيقية، والذي سعدت الأمة به وعاشت في ظله أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان.

 نحن لسنا مخيرين بين دستور يحافظ على الحد الأدنى من الهوية أو دستور فيه مادة تفسر لنا كلمة مبادئ، بل الواجب هو أن يكون دستورنا دستورا إسلاميا محضا، فالإسلام هو عقيدة هذه الأمة، وهو يعبر عن هويتها الثقافية والحضارية وتراثها الفقهي والتشريعي، والأمة تحيا به كل يوم، وتسمع أحكامه ومواده في كل مكان - لا في قاعات المحاكم فحسب كما هو الحال في النظم الجمهورية والقوانين الوضعية، بل هي تراه حيّاً في كل مفصل من مفاصل حياتها، وتسمع به على المنابر وفي المدارس والجامعات وفي المنتديات، فهو في حلها وترحالها حاضر بكل قوة، فكيف نأتي بعد كل هذا في محاكمنا بقوانين وضعية جامدة لا حياة فيها مقطوعة عن وجدان الأمة؟! أو نقبل بدستور يحاول من غَرَّهُ حلمُ الله عليه أن يسوقه لنا بدعوة واهية اسمها الحفاظ على مواد الهوية.

هذه هي هوية الأمة الحقيقية يا أهل مصر الكنانة، مصر التي فتحها عمرو بن العاص، مصر التي أرسلت قافلة أولها عند الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة المنورة وآخرها هنا في مصر فأنقذت الأمة الإسلامية في عام الرمادة، وأنتم والله أولى الناس بإقامة الخلافة في أرضكم لتكون القاهرة حاضرتها ومصر حاضنتها، فأنتم أحفاد الأتقياء الأنقياء الأقوياء الذين جاهدوا في الله حق جهاده، أحفاد فاتحي الأندلس وناشري الحضارة الإسلامية فيها، أنتم من يعيد مجد الناصر صلاح الدين قاهر الصليبيين، وقطز وبيبرس قاهرَيِ التتار. فكونوا سباقين لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة على أرضكم، ليتحقق على أيديكم وعد ربكم، وبشرى رسولكم، لتحد الحدود وتفتح الفتوح وتحفظ بيضة الإسلام، فتحفظوا لمصر هويتها الحقيقية!

((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام: 153]