بعد سماء فلسطين الأخيرة

كان الراحل الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد مفتوناً بقصيدة «تضيق بنا الأرض» لابن بلده الشاعر الفلسطيني الراحل الكبير محمود درويش، واعتاد اقتباسها على سبيل تمثيل أنساق المنفى المختلفة، داخل فلسطين وخارجها؛ وكان يحلو له اختيار هذه السطور منها على نحو خاصّ:

«إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟

أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟

أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟».

وفي هذا «الأخير» وتلك «الأخيرة» لم يكن سعيد، اقتداءً بما كان درويش يضمره أغلب الظنّ، يقصد سوى فلسطين التاريخ والجغرافيا والبلد والأهل؛ الكبرى، أيضاً، بمعنى آخر حدودها ونهايات سمائها واحتباس هوائها، والتي لا يلوح أنّ ضمير الجمع في الأبيات، المتكلم مثل الغائب، يملك ما بعدها أو ما قبلها أصلاً!

ليس من الواضح، حتى الساعة على الأقلّ، ما إذا كان أحرار فلسطين الستة، الذين كسروا قيود الاحتلال الإسرائيلي في سجن جلبوع، قد اتخذوا قرار مغادرة تضاريس فلسطين الكبرى إلى حدود أخرى تختلف في سماء وهواء، كأن يعبروا إلى الأردن أو إلى لبنان أو حتى إلى الجولان السوري المحتل؛ أم تعمدوا البقاء في الداخل، لغايات شتى. فهؤلاء الذي حفروا النفق، بدأب وصبر وبراعة واحتراف، وغالبوا تكنولوجيات الاحتلال الأمنية الشهيرة التي تتكالب على اقتنائها أنظمة العالم شرقاً وغرباً؛ هل كان صعباً عليهم استكمال التخطيط الأوّل المعقد، بآخر (أقلّ تعقيداً؟) يمكن أن يجعلهم بمنأى عن أجهزة المطاردة الإسرائيلية؟

الثابت، مع ذلك، أنّ واقعة سجن جلبوع قدّمت للإسرائيلي (الراغب في الاستماع والإبصار، وليس ذاك المنتمي إلى فئة الأصمّ الأبكم الأعمى) دليلاً جديداً على أنّ هذا الكيان بدأ اغتصاباً ويتواصل احتلالاً استيطانياً عنصرياً، ويغرق أكثر فأكثر في أحد أنظمة الأبارتيد الأبشع على مدار التاريخ. وبالتالي، لا اعتبار يمكن أن يطرأ بعد 73 سنة أعقبت النكبة، فيفكك العداء المستعصي الذي يحكم علاقته بفلسطين أو الفلسطينيين؛ ولا تطبيع مع هذا أو ذاك من حكّام العرب يمكن أن يبدّل المعادلة، أو حتى يؤجّل احتقاناتها وانفجاراتها وانتفاضاتها.

وليست حقائق وجود 70 أسيراً في سجون الاحتلال من فلسطينيي الداخل، و200 من الأسرى الأطفال، و40 أسيرة امرأة، و520 من فئة «المعتقل الإداري»… سوى مظهر أوّل دالّ على انتفاء الصلة بين كيان الاحتلال وأصحاب الأرض؛ فضلاً، بالطبع، عن حقيقة امتناع التعايش مع الفلسطيني أياً كانت إقامته (هنالك 240 من أسرى قطاع غزّة المحاصر)، أو كانت شريحته العمرية، أو تركيبته الطبقية، أو انتماؤه الإيديولوجي. وإذْ تقوّض هذه الخلاصة مجمل، وربما كامل، الأضاليل الصهيونية التأسيسية حول «الواحة الديمقراطية» في الشرق الأوسط؛ فإنها في الآن ذاته ترفع معدّلات التشقق داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته، ليس بين «غوييم» و»أشكنازي» و»سفارديم» هذه المرّة، بل أكثر من أيّ وقت مضى بين «يهودي أصيل» (نموذجه الحاخام كاهانا، دون سواه)، و»يهودي ضالّ» آكل لحم الخنزير (نموذجه الصهاينة أبناء وأحفاد دافيد بن غوريون، حسب الحاخام نفسه).

ولعلّ من المبكر، استطراداً، اتضاح طبائع الخيارات التي انتهى إليها أحرار فلسطين الستة بعد الخروج من النفق، وما إذا كان البقاء أو العبور أو اجتراح فعل مقاومة ما، في صلب مداولاتهم قبل النفق وبعده؛ أو… ما إذا كانت أسئلة قصيدة درويش قد راودتهم هم أنفسهم في نهاية المطاف، فاقتبسوا منها هذه السطور:

«سنكتب أسماءنا بالبخار الملوّن بالقرمزي

سنقطع كفّ النشيد ليكمله لحمُنا

هنا سنموت. هنا في الممرّ الأخير.

هنا أو هنا سوف يغرس زيتونَه

دمُنا».

وسوم: العدد 946