الكتاب الأسود وحقيقة الجنجويد

وقضية أخرى خاض فيها المتكلمون كثيراً، وانصرف عنها رموز الإنقاذ غير راضين، ومستهجنين من تولى كبرها، ومنددين بتصرفه هذا، "فالكتاب الأسود" الذي سلّط الضوء على تلك الآفة الخطيرة التي جعلت المؤتمر الوطني لا يستطيع أن يزحزح المحاصرين عن داره بعد عقدين من الزمان لعدم قدرته على النهوض بأعبائها، وضبط أمورها، وكاتب هذا الكتاب الذي لم يكتفي بالنقد اللاذع، والنصح العنيف، ثم لم تلبث الحوادث أن دفعته إلى معترك تشتد وتيرته وتتفاقم، بعد أن اندفع في لهيبها بعد أن استكثر من الماء ما استطاع، ومهما يكن من شيء، فقد خطّ يراع الدكتور خليل إبراهيم هذا الكتاب الذي ألحّت الإنقاذ في منعه من الانتشار، وفي الحق أن بعض ما جاء في هذا "الكتاب الأسود" لا سبيل إلى غمطه وإنكاره، ومضمون هذا الكتاب أن القبائل التي تقطن شمال السودان كأنها ظفرت بالأرض، وفرضت الجزية على غيرهم، والدكتور خليل يصور قبائل الشمال وغيرها من القبائل التي تعود كينونتها إلى العنصر العربي بالأنانية والأثرة، فهم طغاة مستبدون يحملوا أنفسهم ويحملوا الناس على غير الجادة، ولا يعرفون شيئاً عن العدل الاجتماعي، ففي عهدهم الطويل لم تنل قبائل السودان من العدل إلا أهونه وأقله شأناً، ومع هذا فقد ينبغي أن نتريث في تحقيق هذا الزعم، فليس كل من اعتلى مقاليد الحكم في السودان ينحدرون من شمال السودان، ولكن أغلبيتهم يمتون للعروبة بصلة، ويصلون إليها بسبب، عدا عبدالله خليل رئيس وزراء السودان بعد أول حكومة بعد الاستقلال والمشير جعفر محمد نميري الذي حكم السودان ستة عشر عاما، فهم من القبائل النوبية التي تقطن في أقصى الشمال، ولكن الشيء المستيقن منه تماماً أن القبائل الأفريقية لاحظّ لها في حكم السودان حتى بعد أن سحق الشعب حكم المشير البشير، فوضع الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء بعد انتفاضة ديسمبر 2019م مثل وضع الرئيس إسماعيل الأزهري صانع الاستقلال ورائده، فكلاهما استقرت أسرهم في إقليم كردفان وتعود أصولهم للشمال، ومثل وضع الأستاذ سر الختم الخليفة رئيس الوزراء للحكومة الانتقالية التي تولت تسيير الأمور عقب انتفاضة أكتوبر التي محقت حكومة الفريق عبود عام 1964م، والأستاذ سر الختم خليفة ينحدر من أحد القبائل العربية التي استوطنت مدينة الدويم، أما رئيس المجلس السيادي الحالي فهو الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي يرجع إلى نفس المحتد الذي جاء منه المخلوع البشير، فمسقط رأسه هي قرية "قندتو" التي لا تبعد كثيراً عن قرية "حوش بانقا" بولاية نهر النيل والتي شهدت مولد البشير.

 وقس على هذا النحو فالوظائف المرموقة، والرتب الرفيعة، كانت حكراً على قبائل الشمال والعنصر العربي، ولعل الشأن الذي كان يميز تلك القبائل العربية عن سائر الناس، أنهم كانوا أشد الناس شغفاً بالعلم وحرصاً عليه، ولكن هذا الأمر قد تلاشى بعد أن انتظم العلم في كل ربوع السودان، وأخذت منه كل القبائل بيد، فأصبحت المعرفة تلتمس في كل القبائل كافة، فلماذا هذه الأثرة والاستعلاء وترسيخ نظام الطبقات هذا؟

. وعن الكتاب الأسود الذي هو عبارة عن زفرات حرى أطلقها الدكتور خليل إبراهيم والتي يسأل فيها عن سر هذه المكانة الممتازة التي رفعت قاطني الشمال عن غيرهم، يخبرنا الكاتب السعودي "إبراهيم الهطلاني" عن الكتاب الأسود الذي كذبّته العصبة المنقذة وشنعت على مؤلفه وظاهرت عليه، يقول الهطلاني" في آخر زيارة لي للخرطوم عام 2003م أرسل اليّ أحدهم نسخة من مؤلَف مجهول المصدر، بعنوان "الكتاب الأسود - اختلال ميزان السلطة والثروة في السودان" في جزئه الأول وقد علمت أنه قد تم توزيعه قبل سنتين في مساجد الخرطوم وبقية التجمعات الشعبية، وقد تصدى له آنذاك بعض الخطباء الرسميين في مساجد الخرطوم، ووصفوا المعلومات الواردة فيه بأنها مغالطات وكذب، واتهم الترابي بأنه وراء هذا الكتاب وقال آخرون: إن هناك أيادي عنصرية من دول مجاورة للسودان. وفي لقاء صحفي نشر عام 2003 اعترف رئيس "حركة العدل والمساواة" السودانية خليل إبراهيم بأنه مصدر الكتاب الأسود وأنه أصدره عام 1999 ووزع بعد ذلك في الخرطوم، ومن ضمن ما ورد في الكتاب أنه كتاب راصد للواقع، عارض للحقائق المجردة الموثقة التي لا تنكرها العين ولا تخطئها البصيرة، كما ورد على لسان رئيس الحركة أنه منذ الاستقلال حكم السودان 12 رئيساً جميعهم من الإقليم الشمالي، ونحن نتساءل هل هذا الوضع مقصود لأهداف عرقية وسياسية أم أن الظروف العسكرية والسياسية الوقتية هي التي كانت تتحكم في عملية الاختيار؟ وخلال المؤتمر الذي عقده اتحاد الأغلبية المهمشة السودانية في ألمانيا عام 2003م وهو عبارة عن تجمع لبعض الأحزاب السودانية المعارضة، قامت حركة العدل والمساواة المشاركة في المؤتمر بالإعلان عن تبنيها للكتاب، ووزعت الجزء الثاني منه على المشاركين والحاضرين في المؤتمر، يتظلم أبناء دارفور في هذا الكتاب وفي مختلف وسائل الإعلام من تهميش حكومة الخرطوم لهم، واستئثار أبناء الشمال للمكاسب والمناصب العليا، وحرمان أبناء دارفور خاصة وبقية المناطق السودانية من برامج التنمية وتطالب بحصة عادلة في السلطة والثروة".

وفي كتاب" دارفور والحقيقة الغائبة" الذي تولى تأليفه وإخراجه مجموعة من الرجال المحسوبين على المؤتمر الوطني على شاكلة الأستاذ محمود خالد الحاج والصحفي الكبير الأستاذ مصطفى أبو العزائم اوغيرهم، حمل هذا النفر المؤتمر الشعبي إصدار الكتاب الأسود وترويجه من أجل إثارة الهزاهِزُ والفتن، فالمؤتمر الشعبي بات صدره يجيش بالغل والعداوة بعد أن استحكم الشقاق بينه وبين المؤتمر الوطني، ويعزي كُتاب" دارفور والحقيقة الغائبة" السبب في ذلك للخلافات التي نشبت في أوساط الحزب الحاكم قبل أن تتصدع عصاه لمؤتمر وطني ومؤتمر شعبي، ومصدر هذا الخلاف هو إصرار الدكتور الترابي تجريد الرئيس البشير من صلاحياته وسلطاته، فقد أقدم الترابي رحمه الله" لتعديلات على الدستور قبل مضي عام على إجازته، ورفض بعض النواب التعديلات الدستورية التي اقترحت لا من حيث المبدأ ولكن التقديرات السياسية لنواب البرلمان ذهبت إلى أن الوقت لا يزال مبكراً لإحداث تعديل على الدستور، وفاقم من الخلافات داخل الحزب الحاكم توجه رئيس البرلمان الدكتور حسن الترابي لفرض وصاية على الجهاز التنفيذي، وتجريد رئيس الجمهورية المنتخب من صلاحياته وسلطاته وجعله يحكم البلاد صورياً، بينما تذهب سلطاته لجهات أخرى، وبحل البرلمان الذي لم يتبق من عمره إلا بضعة أشهر نشب خلاف حاد، أدى لانفصال مجموعة الترابي وتأسيسها لحزب المؤتمر الشعبي الذي جنح أولاً لإثارة التنظيمات الجهوية، ورفع في وجه المركز وثيقة الكتاب الأسود التي تمثل جماع معلومات تم إعدادها من قبل لتحقيق التوازن في التعيينات السياسية المركزية والولائية، ووظف الكتاب ضد الحكومة المركزية، وبنشوب مشكلات المسلحين في دارفور بدأت أولى محاولات احتواء تلك المجموعات وتوظيفها في وجه الحكومة المركزية، فسخر المؤتمر الشعبي إمكانياته المالية في دعم المسلحين بأجهزة الاتصال" الثريا" عن طريق ناشطي الحزب في دارفور، إضافة لتسخير مجموعة من القيادات الشبابية من منسوبي الحزب الذين كانوا ضمن قوات الدفاع الشعبي في تدريب ودعم وإسناد المسلحين خاصة في منطقة شمال دارفور".

ليس من شك عندنا أن اتهام المؤتمر الوطني لرصفائهم في المؤتمر الشعبي هو ما شاب العلاقة بينهم من عوج وانحراف، وأن المؤتمر الشعبي وعرّابه بعد انسلاخهم عن المؤتمر الوطني قد سلبوا البشير وزمرته كل راحة، وكل طمأنينة وكل هناء، واتهامات المؤتمر الوطني التي فيها ما فيها من التكلف والتصنع والإغراق، إذا أردنا أن نحلل طبيعتها ونتبين دقائقها، نجد أن سببها هم قواد هذه الحركات الذين انصرفوا عن المؤتمر الوطني في دعة وهدوء بعد أن كانوا حماته في الأحداث والخطوب، وأضمروا له الشر، وألحوا في استئصاله، والدكتور الترابي كان ينادي بهذا أيضاً ولا يؤثر الأناة في الجهر به وإذاعته في الناس، لأنه استيأس من إصلاح ما فسد منهم، والشيخ الذي لم يتحرج من مواجهة المؤتمر الوطني على ملأ من الناس ليس من المقبول ولا المعقول أن نرد إليه كل من ثار وتنمر على المؤتمر الوطني، وأن الدكتور الترابي الذي كان يدعو إلى تغيير شامل للنظام السياسي في السودان، قد وصل لقناعة مفادها أن اجتثاث بائقة النظام يأتي من الشعب برمته وليس من قبل الانقلابات العسكرية أو النزاع المسلح، وأن الثورات لا تأتي إلا بغتة، وأنه إذا اشتعل فتيلها فلن تتوفق، فعندما" تتحرك الشعوب فلن تدفع الإجراءات الاحترازية التي بدأوا يتخذونها مثل محاربة الفساد، وخفض الإنفاق العام على وقفها".

هذه القناعة ظهر أثرها بعد أن ظن به المؤتمر الوطني أسوأ الظن، وكاد له أقطابه أعظم الكيد، وأنه بعد أن عذلهم ولامهم وعاب عليهم، انتهى به الأمر إلى تجييش الشعب ضد البشير وإثارة نقمتهم عليه، وذلك بفضح كل جرائر النظام التي يعرفها والتي سعى لتقويمها قبل أن يدركه اليأس، ولكن نحن نثق تماماً بأنه لم يكن ينكر من عمل هذه الحركات المسلحة شيئاً، وأنه حتماً كانت تروقه تلك المعارك الطاحنة التي كانت تستعر في إقليم دارفور والتي كانت تتصدر كل وكالات الأنباء فهي التي تعجل بالخلاص الذي يترقبه ويصبو إليه، إن الحقيقة التي يدركها أقطاب المؤتمر الوطني تماماً أن حركة العدل والمساواة هي جماعة منظمة مستقلة عن حزب المؤتمر الشعبي وعرّابه، وأن اتصالها أو انتماء فرسانها للحركة الإسلامية السودانية خصم الكثير من رصيدها عند بعض سكان دارفور الذين يتوجسون من هذا الانتماء، وأن الرابط الوحيد الذي يجمع بين العدل والمساواة والمؤتمر الشعبي أن قائد جيش العدل والمساواة، جيش الحركة الذي عانى ما عانى من التشرذم والانقسامات الداخلية، والذي يدعي أقطابه أنه متنوع عرقياً من كل أطياف القبائل التي تعيش في إقليم دارفور، إلا أن حصر قيادته في "بيت آل إبراهيم" يتنافى مع هذا الزعم، كما أن السواد الأعظم من هذا الجيش الذي دخل في مواجهات عنيفة مع الجيش الوطني، ينتمي لقبيلة الزغاوة التي عرفت بطموحها السياسي، قبيلة الزغاوة التي لا تذوق النوم إلا غراراً لتحقيق ذلك الحلم الذي تتوق وتشرئب إليه، فهي لا يشغلها شيء من أن تتقمص لباس العز، ويدين لها السودان برمته بالولاء كما دانت لسطوتها "تشاد" البلد المجاور للسودان والذي يحكمه منذ عام 1990م "إدريس ديبي انتو" الذي ينتمي لنفس القبيلة التي بلغت من تحقيق العدل الاجتماعي فيما بينها ما تريد وما لا تريد، فقبيلة الزغاوة تنصف فقيرها وتحنو عليه وتؤثره بالمودة، لأجل ذلك لا يعرف مجتمع الزغاوة العوز وشظف العيش،  وعوداً على بدء، نشير إلى أن الجامع بين المؤتمر الشعبي وحركة العدل والمساواة هو أن قائدها الراحل الدكتور خليل إبراهيم نشأ وترعرع في كنف الحركة الإسلامية، وأن الشيء الذي دفعه للتمرد على المؤتمر الوطني الذي ناضل عنه بيد، ودافع عنه بسهم، هو الأرستقراطية الجديدة التي تتيح للعرب ما لا تتيحه لغيرهم.

على أن نظام البشير الذي كان يتكلف من ضروب الشدة والعناء في مجابهة الحركات المسلحة في دارفور، وجد نفسه متورطاً في قضايا عانى فيها ما يعانيه المطعون من الألم، فقد كانت بعض الكور والقرى التي يقتحمها "الجنجويد" بإيعاز من البشير ورهطه، ترصدها عيناً فاحصة تدون كل ما يدور فيها من بربرية هوجاء، ووحشية تقشعر منها الأبدان، ومنذ متى انصرفت أقمار الغرب الاصطناعية عن السودان؟، فهي تعيش مع جيش الجنجويد العرمرم، وتشاركه الفرجة وهو يعرض الناس للهلكة، وتراقبه أشد المراقبة وهو يغزو البسطاء في عقر قراهم ليحرقها وينكل بها، ولا يكتفي بكل هذا، فهو قبل هذا كله، وبعد هذا كله يحرص على أسر نسائهم، ليقدمهم سبايا لكماته الأشاوس، فما من ذلة أو ضعة أو هوان تضاهي اغتصاب الخرائد أمام ذويهن، لقد جهل السواد الأعظم من السودانيين فظاظة هذا الجيش وغلظته حتى أقدم ملبياً نداء المشير البشير بعد عدة سنوات، وحريصاً على نجدته من جحافل الثوار الذين توافدوا من كل حدب وصوب لوأد حكمه الذي أقاموا فيه أشقياء بالقمع، تعساء بالفاقة، وقد نضب ضحضاح رجائهم في حاكم لا يوسع عليهم في طعام أو شراب أو حرية، والجيش الخاص للبشير الذي أنكر طاعة إمامه بعد أن لاح له انتصار نقمة الشعب على قائدهم الذي كانوا يسبحون بحمده، هو نفس الجيش الذي مكّن للطاغية في أرض دارفور، وهو الذي صاحب المخاز وأطال صحبتها، ومن المحقق هو نفس الجيش الذي فضّ اعتصام الثوار في مجزرة القيادة العامة في السودان في الثالث من يونيو 2019م وعيد الفطر المبارك على الأبواب، لقد أقدم جيش الجنجويد أو ما يعرف بقوات "الدعم السريع" على المعتصمين مقدمين غير محجمين، وحازمين غير مترددين، ليمعنوا في قتلهم إمعاناً عظيماً، ومن سلم من الموت الزؤام عند اجتياح البغاة للساحة، قذف به الصناديد العتاة في غطرسة وكبرياء لقاع النيل دون أن يرتد لهم طرف بعد أن استوثقوا من ضخامة الجنادل التي أحكموها حول ساقه.

هذه هي طبيعة الجيش الذي استباح دارفور، وهي أقرب في سماتها لطبيعة الجيش المغولي الذي كان يقوده القائد الغطريس الشرس هولاكو الذي نكّل ببغداد وأحالها لأنقاض تضج بالحزن والثكل والحداد، وما فادحة فض الاعتصام إلا فعلة من 

فعلاته التي دأب أن يقدم عليها في قرى دارفور وأصقاعها.

وسوم: العدد 946