سنن الثورات بين العموم والخصوص

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

تقديم

الثورات غير قابلة للاستنساخ والتعميم، ولكل ثورة من الخصوصية والتفرد ما يجعلها غير قابلة لأن تُقلَّد. ولئن كان مطلب الكرامة والحرية والثورة على الاستبداد مما يشترك فيه بنو البشر كافة لكون ذلك من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فلا يمنع ذلك من تباين الثورات أولوياتٍ  وطرقَ تغيير وجمهورا وقيادة، وعواملَ تأثير داخلية وخارجية. فالتغيير يكون مقاومة سلمية أو مسلحة، والأولوياتُ مطالب اجتماعية أو سياسية، والجمهور يتسع ويضيق، والقادة يتباينون مرجعية وخبرة، وعوامل التأثير محلية أو عالمية، تترقّب أو تُوجّه. وبين كل طرفين مراتب وتقاطعات تؤكد سمات التفرد والخصوص. 

يتقرر مما سبق أن اشتراك العرب والمسلمين مع غيرهم في أسباب الثورات لا يمنع تفردهم بأسباب مخصوصة. ومن السنن الخاصة بثورات البلاد الإسلامية أن تمتزج المطالب المادية بالمطالب الروحية، فتنقلب الثورة إلى ثورةٍ تسعى إلى لمِّ هويةٍ متشظّية وذاتٍ مبعثرة. وليس ذلك لأن الثوار يوجهونها هذه الوجهة وإنما هو قانون يحكم التدافعَ الذي يحدث على الأرض الإسلامية والتدافعَ الذي يكون بين المسلمين وغيرهم على السواء. إذ ما تلبث الثورة أن تؤول إلى ثورةِ مرجعيةٍ وهويةٍ واكتشافٍ للذات. والسبب في ذلك انطباع الحضارة الإسلامية بطابع الدين، فلا تجد الأمةُ غير الإسلام منهجا في الفهم والفعل. فهو روح الدولة والثورة على السواء. أما كونه روح الدولة فلأن ذاكرة الشعوب لا تحفظ دولَ عزّ وتمكين إلا مقترنة بإقامة شرائع الإسلام، وأما كونه روح الثورة فلأن عامة أهل الإسلام لا يُرتّبون نجاحا على قومة إلا إذا انشدت هذه إلى الدين واعتصمت به، وليس لنا إلا أن نتأمل ثورات التحرر عبر التاريخ وإلى غاية ثورات الاستقلال في عصرنا هذا. 

ذلك تفرّدٌ لا نراه في ثورات البلدان العلمانية وعند الأقوام الذين يدّعون أديانا أخرى. وليس الأمر مدعاة للاستغراب، فإن هؤلاء الأقوام على اختلافهم عزلوا الدين إلى حيث التبرّك في بِيَع وكنائس، أو الفرجة في متحف التاريخ. هي روح علمانية لا تأبه بمطالب روحية ولا تفقه غير مطالب الجسد وطمأنينة النفس بعيدا عن الدين. ومن اليسير أن نخلط الأمور ونقيس الثورات بعضها على بعض حين لا نرى من المشهد إلا تشابه ميدان التحرير وساحة تيانانمن، وأن الناس اجتمعوا في كليهما، ثم نخلص إلى أن ربيع القاهرة كربيع بكين. وكذلك ما كان الرومانيون يبغون غير القضاء على استبداد تشاوشيسكو، وما كانت ثورتهم لتتسع فتشمل المطالبة بإعادة أمجاد خلت. ولا كان اليونانيون يشْكون انفصاما وغرابة عن الذات وهم يثورون بداية من 2010م، أو يحِنّون إلى بلاد الإغريق القديمة حيث الملاحم والأساطير والتفلسف. وإنما كانت ثورات بمطالب اجتماعية واحتجاجا على سياسة اقتصادية أوجبها صندوق النقد الدولي. وقسْ على ذلك ثورات سائر بقاع الدنيا من غير المسلمين! قد يعترض العلمانيون وأشياعهم بأن الثوار هم من "يسيّون" الثورات وينحرفون بها إلى دهاليز الصراعات الفكرية الوهمية. وليس الأمر كما يدّعون وإنما هي طبيعة التدافع بأرض الإسلام. وإن كان عامل التسييس والحزبية المقيتة قد يحضر فإن المآل الذي ينتهي إليه التدافع هو نفسه حتى وإن غاب، لأن الأمر متعلق بعموم الأمة لا بفصيل من فصائلها. فتلك نتيجة قانون المحصلة أو قانون البقاء للأصلح، وكأن الثورة تُفرز خير ما فيها. وانظرْ كيف أن ثورة ماي 1968م في فرنسا على حدّتها واتساع رقعتها لم تخرج عن كونها احتجاجا على نظام عالمي يعيش على النهب والحروب، لكن دون أن تتبيّن الثورة وجهتَها أو خلاصَها. فكأنها تمرّدٌ على عالم فقدَ معناه وضاق أفُقه، فأصبح الاحتجاج أشبه بحالة اكتئاب مستفحلة، يَعيها المكتئب ولا يجد لها دواء.  

أما في بلاد العرب والمسلمين فيحدث أن يخرج الناس إلى الشارع مطالبين بالزيادة في الأجور، ثم ما يلبث أن يستنجد إصرارُهم بحافز روحي يصير معه القتل شهادة، تماما كمن يخرج دفاعا عن عرضه أو ماله. وإلا فإن التضحية حينها تغدو بلا معنى، ولا يُمِدّ الثائرَ بطول النفَس واتساع الأفق إلا ثورةٌ تكون في سبيل الله فإذا هي خلاصٌ للشعب لزوما.

نموذجان كاشفان

تاريخ المسلمين شاهد على أن تدافعهم ليس كتدافع غيرهم قديما وحاضرا، فإنه تدافعٌ لا يحصل إلا بالقرب من الدين. نقف هنا عند شاهدَين أحدهما قديم والآخر معاصر. أما الشاهد القديم فهو خلعُ أهل المدينة يزيدَ بن معاوية، ولنتأملْ قول السيوطي في "تاريخ الخلفاء": "كان سببُ خلعِ أهل المدينة له أن يزيد أسرف في المعاصي. وأخرج الواقدي من طرق أن عبد الله بن حنظلة الغسيل قال: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء"[1].

ولنا أن نسأل هنا: ما الذي كان يفعله يزيد؟ لقد كان ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة. نَدعُ المتكلمين في الشرعية يتأملون معاصي يزيد وأعينهم على واقعهم المعاصر، وننبّه إلى خشية الناس زمنَ يزيد بن معاوية من أن يعمّهم العقاب بسبب فسق الحاكم. فهل كان خروج الناس لأمرِ معاشهم؟ وأين نجد هذا عند الأقوام الآخرين؟  

لقد كانت الأمة الإسلامية تمر بشدائد وما كان يراودها شك في هويتها ومرجعيتها وأنها على الحق. وما كان خروج الناس على الحاكم بسبب تردّي الأوضاع الاجتماعية وغمْط الناس ودوْس الحقوق والحريات مقدَّما على خروجهم انتصارا للشريعة وحرمة الدين. نذكر الخليفة الفاسق الوليد بن يزيد بن عبد الملك حين حوصر فقال: "ألم أزدْ في أعطياتكم؟ ألم أرفع عنكم المؤن؟ ألم أعط فقراءكم؟ فقالوا: ما ننقم عليك في أنفسنا، لكن ننقم عليك انتهاك ما حرم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله"[2]. كان الدين عند الأمة أعزّ ما تملك، ثم مرّ حين من الدهر فصار الدين بعد الدولة المدنية والديموقراطية وخبز وأسْرة وسَكن.

وأما الشاهد المعاصر وإن كان ثورةً على عدو خارجي فلم يحِدْ عن ميزة التدافع المشار إليها، ولئن خبَرنا الأمرَ بين المسلمين بعضهم ببعض، فلنختبرْه فيما بين المسلمين وغيرهم!

في سياق حديث الأستاذ منير شفيق عن تيار أبي حسن وحمدي الذي نشأ داخل "فتح" يقف عند فكرة "خط الجماهير". يقول الأستاذ: "وجد التيار في هذه الفكرة التي بلورها ماوتسي تونغ أسلوبا مهمها في محاولة اكتشاف النظرية الثورية في بلادنا"[3]. وهو الأمر الذي نبّه التيارَ إلى ضرورة استقلال الرأي والقرار، و"الابتعاد عن ابتلاع الشعارات والنظريات الجاهزة حول الثورة والآتية من موسكو أو العواصم الغربية أو من بكين أو هانوي أو بيونغ يانغ أو تيرانا"[4]. وحين ألْفَت الثورة الفلسطينية في 1980م ذاتها في مفترق طرق كان التيار قد اقتنع "بضرورة إحداث انعطافة في سياسات الثورة الفلسطينية من خلال العودة إلى المنطلقات، والتحالف والصحوة الإسلامية والاستناد إلى المرجعية الإسلامية بدل التقاذف في مهب الرياح"[5]. كان ذلك اكتشافا لحقائق التاريخ وقوانين الاجتماع الإسلامي، وتقويما للفكر والممارسة وتصحيحا للمفاهيم. وكان مما استُدرك من أخطاء التصور أنْ تبيّنَ الشهيدان "أن الثورة الفلسطينية لا تستطيع تحرير فلسطين وحدها لأن قضية التحرير أكبر بكثير من إمكانات الشعب الفلسطيني"[6]. ويزيد الأمرَ بيانا حديث منير شفيق عن كتيبة الجرمق، وكيف أن احترامها خط الجماهير، والتزامها بالشعائر التعبدية هو ما جعل أهالي بنت جبيل يحتضنون الكتيبة.

طبعا، لمِا سبق دلالته في سياقه، وذلك حين نعلم افتتان الثوار من مختلف الفصائل آنئذٍ بالماركسية، وإلا فإن الثورة غدت فيما بعد جهادا إسلاميا لا غبار عليه. وليس الأمر استثناء في تاريخ المسلمين، فلقد احتضنت الشعوب العربية ثورات المطالبة بالاستقلال وكانت الوقود الذي تتوقف الثورة بفقده. وما كان الثوار قادرين على مواصلة درب الثورة لولا احتضان الجماهير لهم. وليس يخفى كيف التحم عامة الناس مع مجاهدي الجزائر إبان ثورة 1954م. بل لقد لقي الجهاد المسلح ضد انقلاب عسكر الجزائر بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات التشريعية في دورها الأول في 1991م دعمَ الجماهير، وذلك قبل أن تدخل المخابرات الجزائرية على الخط وتخلط الحابل بالنابل، حتى لا يمِيزَ الناس الجهاد من الإجرام، وكان لها ما أرادت.

ومجمل الكلام أن سُنّة الثورات عند أهل الإسلام أن تكون المرجعية الإسلامية منطلقها بدءاً أو تؤول إليها انتهاء. ولذلك لا تبدو ثورات الحاضر إلا مقدمة لثورات أعمق تُحدث تغييرا عموديا وأفقيا في الآن ذاته. ولن يتحقق ذلك إلا عبر موجات ثورية، قد تكون ثورةُ المعاش موجتَها الأولى ثم ما تلبث أن تنقلب إلى ثورة وجود، تروم العيش وَفق الرؤية العقدية والفكرية التي ارتضتها الأمة، وعنها تصدر اجتهادات السياسة والاجتماع والاقتصاد والتشريع وما سوى ذلك.  

خصوصية تدافع المرجعيات

رُبّ قائل يقول إن العرب والمسلمين ليسوا جنسا فوق البشر، ولذلك لا يَسري عليهم إلا ما يسري على غيرهم من سنن الاجتماع البشري وقوانين التاريخ ومسالك التدافع. وهو قول لا ينكَر جملة، بيد أنه ينبغي أن يؤخذ بشيء من الحذر والتحوّط. وبيان ذلك من وجهين:

أولا: القوانين العامة لا تنفي وجود حالات خاصة. ومن ثم كان المطلوب تبيُّن ما بين الحالات من عموم وخصوص.

وثانيا: لا يمكن قياس الظاهرة الإنسانية على الظاهرة الطبيعية ومعاملتهما كشيء واحد. فإن الظاهرة الإنسانية تختلف عن الظاهرة الطبيعية، ولاسيما في مبدأ السببية ومبدأ الحتمية. ذلك أن سببية الظاهرة الإنسانية سببية خاصة، وفي مقابل حتمية الظاهرة الطبيعية يقوم احتمال الظاهرة الإنسانية. ولذلك لا جَرم أن تكون علمية الظاهرة الإنسانية مختلفة عن علمية الظاهرة الطبيعية.

يترتب على هذين الأمرين أن الفعل الإنساني لا يُدرَك إلا بعملٍ عقلي تأويلي يستحضر القيم التي تحفّه، ويقف التفسير الموضوعي عاجزا عن كشف علاقات سببية ملاحَظة أو مُعطاة.

ولنتأملْ كيف انبثقت داخل خصوصية المرجعية الإسلامية خصوصيات، فكان لكل ثورة مسارها وإن اتفقت في خصوصية التدافع الذي ما إن يحصل حتى يكونَ الدين في صُلبه. فلقد آلت الثورة السورية إلى ثورة إسلاميةِ الروح والمظهر، ابتداء من مسيرات الجُمع السلمية إلى الجهاد المسلح. أما في المغرب فقد زاحمت المرجعيةُ الإسلامية المرجعيةَ العلمانية عبر مسار سياسي أمِل عامة الناس أن يُنهِيَ الفساد والاستبداد، فكان أن انتهى إلى انتكاسة وغصّة. ولئن كان المسار التونسي اشترك مع سابقه في الخيار السياسي فإن خياره ردفَ انتفاضة شعبية. ثم إن المسارين اختلفا مقدماتٍ وتشابها في المراوحة في المكان نفسه. ولم تكن الثورة التونسية كالثورة اليمنية، ولا اليمنية كالمصرية، ولا المصرية كالليبية. وعلى رغم أن هذه سرعان ما تحولت إلى ثورة مسلحة فليست تشبه الثورة السورية المسلحة، فلا الثوار هم الثوار، ولا السلاح هو السلاح، ولا أثر التدخل الأجنبي واحدا، ولا الجغرافيا السياسية متشابهة، ولا توجُّس الغرب من سقوط الدولة هو نفسه، ولا الجوار متشابها. وما كان الحَراك المغربي كالحراك الأردني على ما بين البلدين من شبَه. وكل ذلك لا يمنع أن الشعوب انتفضت طلبا للحرية والكرامة.

ليس يصعب إذاً أن نتبيّن خصوصية كل ثورة من ثورات الربيع العربي. لكننا نلمس استخفافا بأمر الخصوصية عند الثائرين، منَعهم من توجيه الثورة وَفق مقتضيات الخصوصية. فلا عجب أن تتراكم الأخطاء التصوّرية والحركية وتتكرّر في مواقع عدّة، مادام أن مبنى الحركة والفعل على تصور وفهم. وقد يكون كافيا أن نقف عند الثورة المصرية بيانا للأمر. فبعد انقلاب العسكر على محمد مرسي تداعى الثوار إلى النزول إلى الشوارع والتظاهر السلمي، وكان الثائرون يحثّون على الصبر على ذلك تأسّيا بما حدث في فنزويلا، وأملا في أن يعود مرسي بعد ثمان وأربعين ساعة من الانقلاب كما عاد شافيز مظفرا. وحين مرت الساعات ولم يحدث ما توقع الثوار، كان اعتصام رابعة والنهضة الذي دام أكثر من شهر، ثم فُضّ الاعتصام بشلالات من الدماء واعتقال وتشريد وإرهاب. ثم كانت مسيرات الجُمع، وكرّ وفرّ لا يخلو من مزيدِ قتل واعتقال. وجاء من ينبّه إلى أن تركيا شهدت انقلابا على أربكان ثم مرت عشر سنوات وعاد الإسلاميون إلى الحكم. ولعل إصرار الحراك على السلمية محضُ تقليد لثورات شعبية آتت السلميةُ فيها أكلَها، كمقاومة غاندي ومارتن لوثر كينج. وإن كان في مقاومة غاندي كلام ليس هذا مقامه. لكننا نلحظ فهما سقيما لمعنى المقاومة السلمية في الحراك المصري، فإنه لا يمكن عدُّ السلمية استراتيجية إلا إذا ألزمْتَها خصمَك، وكأنك تفرض عليه قواعد التدافع، فيكون التدافع آيلا إلى حيث تريد. أما إذا كانت السلمية معنىً في أذهان الثوار والعنفُ هو سيد الموقف في الميدان كما تريد الثورة المضادة، فليس بالإمكان الحديث عن استراتيجية مقاومةٍ ناجحة. أما السلمية كما تَصورها أبو المقاومة السلمية غاندي فليس ما يتصوره الثوار بالتأكيد. كيف وهو القائل: "إذا لم يكن لدينا إلا أحد خيارين: الجُبن أو العنف، فسأختار العنف"[7]. لا يعني ذلك أن البديل هو المقاومة العنيفة أو الجهاد المسلح بالضرورة. إذ السلمية أيضا أنواع وضروب، فقد تكون عصيانا مدنيا أو مقاطعة منتوجات أساسية في اقتصاد الدولة أو إضرابا عن الطعام أو مسيرات شعبية... يُختار منها بحسب الظروف والملابسات. ولا يكون الاختيار ناجعا إلا إذا نجح الثائرون في استدراج الخصم إلى مُربعهم، ولم تنفلت قواعد الحراك من بين أيديهم. والحال أننا نرى سلمية الثورة المصرية دون استراتيجية واضحة، أحداثُها متكررة وعقيمة، وليس حصادها غير ازدياد عدد الشهداء والجرحى والمعتقلين والمطارَدين. وكأن هذا الأمر أصبح غاية في ذاته. وأما أثر السلمية على الثورة المضادة فباهتٌ ولا يقارَن بحجم خسائر الأحرار. أما حينما تصير السلمية استراتيجيةً تنظيراً وأدبياتٍ بلا قيد ولا شرط، فإنها تصير حالة انفصام تُسهم في اغتراب المجتمع وتشويه حقائق التاريخ، وإلا كيف يفهم المصريون ثورة أحمد عُرابي المسلحة التي لقيت دعم عامة الناس وخاصتهم؟ وكيف تستوعب جماهير الأمة قتالَ الحسين (ض) يزيدَ بن معاوية حتى رهقه السلاح؟ وما معنى مقاومة عبد الله بن الزبير لبَغْي عبد الملك بن مروان ومواجهته لأميره الحَجّاج وهو في أربعين ألفا؟ ولِمَ لم يستسلم ومكة محاصرة تُقذف بالمنجنيق؟ لا ريب أن هذه النماذج ليست نشازا في تاريخ المسلمين، فأيّ تأويل يُسعف أصحابَ نظرية السلمية التي هي أقوى من الرصاص يا تُرى؟  

ما الشاهد هنا؟ الشاهد هو مواصلة الثوار الحراك وأعينهم على تجارب ثورية أخرى. فتارة يَرجون أن يقع الذي وقع في فنزويلا، وطورا يرمون بأبصارهم إلى تركيا، ومرة يجعلون لكل جمعة شعارا كما كان الأمر في اليمن وفي سورية إبان الاحتجاج السلمي. ويتنقل البصر بين الأمكنة والأزمنة، والحال أنه لا مجال لأن تقلِّد الثورات بعضها بعضا أو يستنسخ شعب ثورة شعب آخر. فليست مصر هي تركيا، ولا المصريون هم الفينزويليون، ولا مصر هي سورية أو اليمن، ولا الظروف هي الظروف. ولا يمكن أن تكون الثورة المصرية كثورة فيتنام حديثا، ولا كالثورة الفرنسية قديما. وكل مقارنة لا تراعي ما بين الحالات من اختلاف تكون قياسا مع الفارق. وإذا كان من الضروري أن نَذكر فرقا من الفروق فإننا ننبّه إلى حكم المدّعي العام الفينزويلي بعدم دستورية تغيير الرئيس ما لم يوافق البرلمان، حتى وإن تقدم الرئيس نفسه بالاستقالة. أما جنسُ القضاة الفاسدين في مصر فكانوا أول مرحّب بالانقلاب. هل يعني ذلك أنه لا مجال لاستلهام العِبر من ثورات الآخرين؟ كلا! ليس القصد ذلك بالتأكيد. لكن البون شاسع بين الاستلهام والاستنساخ. وما الجدوى من التاريخ إذن؟ وغنيّ عن البيان أن الاعتبار والإفادة لا يغْنيان عن دراسة الواقع وإدراك مجمله وتفصيلاته. ولعل ما قيل آنفا عن فكرة خط الجماهير يجلّي المقصود. إذ لم يمنع التصور الماوي انتزاعَ الفكرة من سياقها واستنباتها في سياق الحالة الفلسطينية لاستكشاف خصوصيات الحالة وميزاتها.

ولقد كان أجدى أن تتبين الثورة المصرية خصوصياتها فيكون مسلكها أوعبَ للأسباب وأفقهَ للسنن. لكنها استهانت بقدْر الثورة المضادة، وأهملت التحدي العالمي، ولم تأخذ المال الخليجي بعين الاعتبار، وتذبذبت في طريق الدولة، وراوحت مكانها أكثر مما يسمح به قانون الثورات، فكان لا محيد عن الخيبة والانتكاس. وهل من مهزلة أكثر من محاكمة رأس النظام وأزلامه على التراخي الذي فاق كل توقّع بدعوى النزاهة والعدالة غير الانتقامية، هذا وقانون الثورات يقضي والحال هذه أن تقتفي المحاكمة المصرية لو كانت بيدِ الشعب حقا آثارَ المحاكمة الرومانية التي لم تتجاوز خمسا وخمسين دقيقة ثم تهوي الرؤوس كما هوى تشاوشيسكو وزوجُه. وليس تقوم للثورة المصرية قائمة إلا باستدراك ما سبق، ثم لا مناص بعدُ من استفاقة حضارية عامة، وتغيّرٍ في ميزان القوى العالمي، وهو ما لا يتحقق إلا بتعاضد دويلات الثورات. ولا ريب أن الموجات الثورية القادمة ستعزّز من فرص اكتشاف الذات، وسيحصل الوعي أكثر بعالمية التحدي، وأنه لا مكان لنجاح ثورة في قطر عربي بمعزل عن تغيّر في الجوار، ولاسيما في الأقطار ذات الصلة الوثيقة. أما توهّمُ إمكان التغيير القطري ومعايشة النظام العربي المستبد فهو كتوَهّم إمكان أن تتعايش الثورة مع الثورة المضادة. وإذا اندفع أحد المسلكين إلى التحقق الكامل فإن المسلك الآخر سيضطر حتما إلى تعديل ذاته. مثلما لم تجد منظمة التحرير الفلسطينية بدّا من تعديل ذاتها حينما صار همّها أن تجد موقعَ قدم بين الأنظمة العربية، فكان طرُحها لبرنامج النقاط العشر إيذانا بعصر التخاذل والمساومة، وقد كانت رمزا للكفاح والمقاومة.  

ختاما

قد نجمل أسباب ثورات الشعوب في استرداد الكرامة والحرية. فمتى هُدرت كرامة الشعب وقُيدت حريته اندلعت الثورة. فمن يزعم أن قانون السببية هنا لا يتخلف؟ إذا تبيّن أن سببية الظواهر الإنسانية سببية خاصة، فلا جرم أن سلبَ الكرامة والحرية، وهما من الأمور الفطرية التي لا تتطلب علما راسخا أو نباهة لإدراكهما، لا يستلزم قيام الثورة إذا ما آثرت الكثرة الكاثرة الأمنَ والسلامة. وحينها ستكون أسباب الثورة متوافرة والثورة في حالة كُمون. بل إن الأسباب قد تتراكم ويُستغفل الشعب حينا من الدهر لشيوع الجهل أو لسوء تقدير عواقب الخنوع وما شابه ذلك. حتى إذا استفاق الشعب من غيبوبته الحضارية لم يجد الدولةَ شيئا مما كان يتوهّم وألفاها دولةَ جور وغمْط للحريات وسلب للحقوق.

وإذا حدث أن تهيّأت الظروف ولم يكن غير انتظار الشرارة الأولى، فإن الشعب يكون حينها في حالة ثورة بالقوة لا بالفعل. لكن من يجزم أن شرارة هذا الشعب هي شرارة ذلك؟ وانظرْ كم جسدا احترق بعد البوعزيزي! وتأمل كيف أن أجسادا اشتعلت في الوطن العربي ولم تشتعل الثورة! هو تقليدٌ للثورة التونسية في سبب قد يكون العاملَ المساعد مثلما يحدث في التفاعلات الكيميائية، والتغافل عما سواه من الأسباب. ومن يظن أن احتراق البوعزيزي هو سبب الثورة الأوحد كمن يتوهّم أن ضربة المروحة كانت سبب استعمار الجزائر.

               

هوامش:

[1]  السيوطي، جلال الدين، تاريخ الخلفاء، دار التقوى، 2006، ص:157.

 2 المرجع نفسه، ص:183.

[3]  شفيق، منير، شهداء ومسيرة، مؤسسة الوفاء، ط 1994، ص: 135

 [4] نفسه، ص: 135.

[5]  نفسه، ص: 32.

[6]  نفسه، ص: 10.

[7] Gandhi, The Collected Works of Mahatma Gandhi, Ahmedabad, The Publications Division, Ministry of Information and Broadcasting, Government of India, 1965, Vol. 18, p. 132-133.

أخذا عن:

http://www.irnc.org/NonViolence/Items/entre_violence,_lachete_et_non-violence.pdf