وهذا في صميم مشهدنا السياسي.. أختصره لقوم يعلمون..

حول رائعتي إقبال: أسرار خودي ورموز بخودي..

"أسرار إثبات الذات ورموز نفيها.."

وما قدمه الفيلسوف والمفكر والشاعر الإسلامي في منظومتيه هاتين، نظرية في الإصلاح، طلع بها محمد إقبال على العالم الإسلامي، وعلى المسلمين في شبه القارة الهندية منذ الثلث الأول من القرن العشرين..

ورغم أن مدد إقبال العلمي والفكري كان مفتوحا على كل ثقافات وفلسفات العصر السائدة في زمنه، ومع أنه حسبما أوصاه والده كان يقرأ القرآن الكريم " كأنه أنزل عليه، إلا أن مدد إقبال الأقرب نسبا إليه، كان في الانكباب على دوواين الشيخ جلال الدين الرومي، صاحب المثنوي,,الإكسير المذاب في الإيمان والعشق والحب.

كان محمد إقبال رحمه الله تعالى حين تقدم للعالم الإسلامي بمنظومتيه المتكاملتين " أسرر خودي ورموز بخودي" " أسرار إثبات الذات ورموز نفيها" يعتقد أنه يقدم للمسلمين على المستويين الفردي والجماعي مفتاحا لتجاوز أزمتهم الحضارية الخانقة، التي لا يستشعر ضغطها حتى الساعة، كثير من الناس الذين ننتمي إليهم، ونعيش بينهم، ونحلب في إنائهم، فكل شيء عندنا في حد الكمال ..وما ينقصنا إلا أن يضرب أحد الملائكة بجناحيه، فيفجر لنا الأنهار. في أسرار خودي يؤكد إقبال على أهمية " الإنسان" فردا وجماعة، على طريق الإنجاز، وعلى ضرورة أن يؤمن الإنسان، وأن يثق بنفسه وهو متوكل على ربه, وأن لا نقيض بين التوكل وبين الإيمان أو الثقة بالذات...

بشكل عام كان الفكر السائد في عصر إقبال، وأخص المدارس الصوفية، قائما على الدعوة إلى إنكار الذات، ومحوها، واتهامها، ونسبة كل رعونة وطيش وهوى واستكبار إليها,,

ولكن إقبال في منظومته الأولى " أسرار خودي" يدعو المسلم إلى الشعور بنفسه، وبمكانته، وبجمال الرسالة التي يحملها، وأن يعتد بكل ذلك ليؤدي رسالة " الإنقاذ" الحقيقي للعالم...

تذكرون قول أحد زعماء ثقيف "مسعود بن عمرو" لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دعاهم وهم إخوة ثلاثة إلى لإسلام " أما وجد الله أحد غيرك يرسله؟؟؟" أي شعور بالعظمة كان يملأ نفس الداعية وهو يواجه مثل هذا الإنكار ..

في "أسرار بخودي" يحذر محمدُ إقبال المسلمين من الشعور بالانمحاق، أو الانمساخ حسب مخيال" كافكا" متعدد الجنسيات. الشعور بالانسحاق الذي كان يسود بين المسلمين خاصتهم وعامتهم. والذي كان عند بعضهم مطلبا يزينه الشيخ المرشد للمريد.

لن تنجح دعوة، ولا رسالة ولا نهضة، ولا مشروع جماعي أو فردي، والقائم عليه، لا يثق بذاته، ولا بمكانته، ولا بحقه في موضع قدمه، ولا بحق دلوه بين الدلاء ...

وهذه المعضلة التي عالجها إقبال، ونبه على خطورتها، ما تزال تلقي ظلالها على عالم المسلمين حتى الساعة. وحين يكون أحد المعانين من أزمتها " قائد مائة" حسب تعبير الكتاب المقدس، مثلا؛ فإن حالة الانمحاق هذه تتعدى صاحبها إلى المائة الذين خلفه، فيكون حالهم كما قال الأول:

ويُقضَى الأمر حين تغيب تيم ..ولا يستأمرون وهم شهود

فيكونون كفرق التشجيع ، يدعون إلى المحافل ليكونوا الفريق الذي يصفق أو يهلل ويكبر ..

إن معادلة أسرار خودي أو رموز بخودي ، معادلة كما صاغها إقبال دقيقة جدا..وهي مشروع بناء أمة عن طريق الدقة في بناء الأفراد. ولم أر أحدا من أصحاب المشروعات الدعوية والحضارية، قد أعارها أي اهتمام!!

ومع ضرورة تنبيه مستشعري الانمحاق على مكانتهم ودورهم وأهميتهم وأن ننشد لهم في هديل ما قبل النوم، ما قاله الطائي الكريم حاتم:

ونفسك أكرمها، فإنها إن تهن ... عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما

وعلى ضرورة تربية الأجيال وتعليم الأبناء، أنهم هم الذين يصنعون مكانتهم، ويفرضون وجودهم على قواعد لا وكس ولا شطط...

وبالمقابل وفي حدود تنبيه الفرد كل فرد على أهمية وجوده، ودوره، وأن أهميته الأولى تنبع من كونه خلق خالقه العظيم العزيز الكريم الرحيم ..نجد بعض الناس تتعاظمهم نفوسهم، فيصابون بداء "الإفراط في تقدير الذات"بالغرور، والعجب، والكبر، حتي ينشد أحدهم:

أيَّ محل أرتقي .؟؟!!

أيَّ عظيم أتقي ..؟؟!!

وكل ما خلق الله وما لم يخلق

محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

داء من العظمة والغرور الكاذب. وهو داء دوي أيضا ينتشر بين ظهراني بعض الناس، وأقبحه عندما يعتمد صاحبه على العواري أو العوارض الإضافية، غير الذاتية فيظن صاحبه أنه بحكم أطيانه أو أمواله أو بلدته أو عباءته قادر على " تدبير الأكوان" و"التصرف" بشؤون الخلق..وأعجب منه أن تجد من يخضعون له بحكم هذه الاعتبارات..

اعتقادي الشخصي أن كثيرا من منظري الإصلاح ودعاته في عصرنا خلال المائتي عام، قضوا شهداء بمعنى أن مشروعاتهم لم تدرس، ورسائلهم لم تصل...

أتساءل: ولماذا كان ظل المفكر الهندي أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، ممتدا بيننا أكثر من ظل، محمد إقبال ؟؟ سؤال يجاب عليه بكتاب وليس بمقال.

 محمد إقبال صاحب أسرار خودي ورموز بخودي، وصاحب " تجديد التفكير الديني" انتبه معي " التفكير" وليس الخطاب، وصاحب "بيام مشرق" التي تفاعل فيها شاعرها مع المفكر الألماني الحضاري" غوتة" ومنها " أرمغان حجاز " التي لخص فيها هدية أرض الحجاز، ومنها " شكوى وجواب شكوى" التي قربها إلينا من تعلمون ..

هي حديث الروح ...

وهذا بعض منه. يا قوم ،الرشادَ الرشادَ ، السدادَ.. السدادَ وما أظن أن نظرية الفضيلة وسط بين طرفين تصح في أمر كما تصح في أمرنا هذا ، الشعور بالتبعية حتى الانمحاق، وبين الشعور بالكبر والعجب والغرور. وأتذكر أن الشيطان دلّى أبوينا من الجنة بغرور.. ونزع عنهما ثوبيهما بغرور (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) ويفيض المفسرون في الحديث عن حقيقة التدلية من أين إلى أين ؟؟؟

من أين إلى أين ؟؟ أو ليس لهذه الوهدة من قاع تصل إليه.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 956