علماء الإسلام بين التعصّب لهم والتعصب ضدهم

في تناول مثل هذا الموضوع لا بد من تثبيت بعض النقاط التي لا ينبغي أن نختلف عليها.

- ليس هناك معصوم بعد الرسل الكرام، عليهم صلوات الله وسلامه.

- التعصب المحمود لا يكون إلا للحق. أما أفراد البشر وآراؤهم فهي محل أخذ وردّ. وما يعجب إنساناً قد يسوء غيره.

- في كل إنسان جوانب خير يحمد عليها، وجوانب شر يذم عليها. لكن هذا لا يعني أن البشر متماثلون أو متقاربون، بل منهم من يغلب عليه الخير حتى لا تكاد ترى فيه شراً، ومنهم من يغلب عليه الشر ويكاد ينعدم فيه الخير. وأكثر الناس بين هذا وذاك.

ونحن نجد التلميذ الذي يتجاوز معدله التسعين، فلم يبلغ الكمال، ونحكم له بالتفوق، والآخر الذي لا يتجاوز معدله الأربعين، فلم يخلُ من صواب، ونحكم عليه بالتخلّف، ونجد أكثر التلاميذ بين هذا وذاك.

- عندما تتعصب لإنسان فتبرز ما فيه من مزايا، وقد تبالغ فيها، وقد تختلق له من المزايا ما شئت... وتغض الطرف عن عيوبه أو تنكرها أو تقلل من شأنها... فينبغي أن تتوقع ما يقابل ذلك ممن يتعصب ضد هذا الإنسان فيتنكر لمزاياه، ويبالغ في إبراز أخطائه وعيوبه.

- العلم فضيلة حيث كان، لكن العلم بدين الله ينبغي أن يقترن بالأخلاق والاستقامة حتى يستحق صاحبه تلك الفضيلة. وقد جاءت النصوص الشرعية بتعظيم العلم وأهله، كما جاءت بتأكيد أهمية التزام العالم بخشية الله تعالى والقيام بأمره. ونسوق هنا بعض هذه النصوص:

نقرأ في كتاب الله تعالى:

(إنما يخشى الله من عباده العلماء). {سورة فاطر: 28}.

(يرفعِ اللهُ الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). {سورة المجادلة: 11}.

(وقل: ربّ زدني علماً). {سورة طه: 114}.

وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"من يردِ الله به خيراً يفقهه في الدين". رواه البخاري ومسلم.

"ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله به طريقاً إلى الجنة". رواه مسلم.

"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم.

"من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا، لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة". يعني: ريحها. رواه أبو داود.

وبعد هذا ترد اعتراضات على العلماء.

أهمها أن فيهم من يتزلّفُ للطغاة ويبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا. وهذا موجود فعلاً، في جميع العصور، لكن الإنصاف يقتضي أن نذكر أن مقابل كل واحد من علماء السلطان هؤلاء، عشرات من العلماء الربانيين الذين يقولون كلمة الحق، لا يخشون في الله لومة لائم. وقد خلّد التاريخ أمثال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام...

وفي عصرنا هذا، وفي بلدنا سورية، نذكر، ممن لقوا ربهم، الشيوخ الأفذاذ: عبد الفتاح أبو غدة، ومحمد الحامد، وحسن حبنكة، ومحمد خير زيتوني، وهاشم المجذوب، وعشرات غيرهم.

أما لماذا تظهر أسماء المنافقين والمداهنين أمثال أحمد حسون وعلي جمعة... أكثر من ظهور أسماء الصالحين المصلحين، فذلك شأن السلطات التي تُقدّم المتزلّفين، وترفع شأنهم، وتبعث بهم إلى المؤتمرات... والإعلام الرسمي الذي يسلط الضوء عادة على التافهين والسفلة، ويطمس أسماء الأبرار والعظماء، بل قد يشوّه سمعتهم لأنهم يفضحون طغيان الطغاة، وفساد المفسدين، وانحراف المنحرفين.

ومن الاعتراضات على العلماء: أن نجد في سلوك بعضهم، أو سلوك بعض أبنائهم خللاً كبيراً أو صغيراً. ونحن إذ نقول عن الخطأ خطأ، وعن الانحراف انحرافاً، نقول كذلك: إن العلماء بشر يخطئون ويصيبون، والخطأ فيهم، وإن يكن قليلاً، يظهر جليّاً فاقعاً، لأن الثوب الأبيض تظهر فيه أيُّ بقعة مهما صغرت، بخلاف الألوان الأخرى التي تخفي أضعاف تلك البقع. وقديماً قالوا: ليس الثوب النظيف كالثوب الذي لا يظهر عليه الوسخ.

ومن الاعتراضات كذلك أن فيهم من يقول القول ثم يظهر أنه قول خاطئ قد يتعارض مع العلم، بل قد يتعارض مع نص شرعي. والإجابة هنا متشعبة الجوانب. فقد يغفُل العالم عن جانب من المسألة فيظهر قوله خاطئاً، ويصححه له علماء آخرون، وقد يتراجع بعدئذ عن قوله هذا. وقد يفتي في مسألة ثم تتغير المسألة نفسها فتحتاج إلى فتيا جديدة. فمثلاً عندما ظهر التلفاز في بلادنا منذ أكثر من ستين عاماً، لم يكن أمام المتفرج سوى البرامج المحلية، وأكثرها فاسد، فقال أكثر العلماء: التفرج على التلفاز حرام. وكان قولهم هذا صحيحاً بالنظر إلى واقع ما يُعرض في التلفاز. ثم صار بالإمكان التفرج إلى محطات أخرى ثم إلى الفضائيات، وفيها الخير والشر، وبإمكان الإنسان الصالح أن يتخيّر ما هو خير، ويبتعد عما هو شر، فبدأت فتاوى التحريم تتلاشى وفتاوى الإباحة تنتشر. وليس في هذا مطعن على قول العلماء. فذاك على ما كان قبل عقود من السنين، وهذا على ما جدّ في العقود الأخيرة.

ولا يتسع مجال مقال كهذا، لاستقصاء كل جوانب المسألة، لكن الدين والعقل والذوق... تقتضي من الإنسان ألا يتطاول فوق مقامه، وأن يعرف لأهل الفضل فضلهم، وأن يتحلى بالإنصاف والأدب، وأن يدعو ربه: "اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وفقهاً في الدين".

وسوم: العدد 960