الفتور في حياة الدعاة (الأسباب والعلاج)

-1-

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد رسول الله، وبعد:

إذا أنعمنا النظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أنه قد تحقَّق بقول ربه سبحانه: )وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً(، بل نجد أنه سار في طريق الدعوة بعزيمة عالية منذ أن نزل عليه الوحي إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، إذا لم نقُل: إنه كان في ازدياد في عزيمته وإصراره على تبليغ دعوة ربه سبحانه.

فمن الأيام الأولى أراد منه ربُّه عز وجل أن يقوم بهذا الواجب بجدٍّ وعزيمة: )يا أيها المدَّثر، قمْ فأنذر( )إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً(. فسار صلى الله عليه وسلم على هذا المنوال طوال حياته، وسار على نهجه الراشدون من هذه الأمة كذلك.

وننظر اليوم فنجد مرض الفتور قد عرا نفوس كثير من الدعاة، فظهر فيهم التراخي والضعف وقلة الاكتراث.

كثيراً ما يلتحق بركب الدعوة الإسلامية أناسٌ نشطاء متحمسون، يقدِّمون الجهد والوقت، ويستعدُّون لتقديم الأرواح، والتضحية بكل شيء في سبيل الله تعالى. وبعد فترة، تطول أو تقصُر، يعروهم الفتور الذي يقضي على الأحلام، ويفتُّ في العزائم، ويوهن من القوى... فإذا اليأسُ أخذ منهم كل مأخذ، وإذا هم يراجعون حساباتهم فيُؤْثِرون الفاني على الباقي، وينقلب إقدامهم إلى قعود، وعطاؤهم إلى حِرْص... بل قد ينقلب بعضهم إلى مشكِّك ومثبِّط...

***

لنتذَّكر أولاً أن الدعاة الذين تملأ الدعوة عليهم أنفسهم، وتكاد تظهر في كل حركة من حركاتهم، وكل كلمة من كلماتهم... هم الذين يقوم عليهم العمل الدعوي، وأما أصحاب الهمم الباردة فإنهم إن لم يضرُّوا في هذا المجال لم ينفعوا. فلنصارح أنفسنا، ولنُقْبِل على الطريق بقوّة وعزيمة )خذوا ما آتيناكم بقوّة(، ولنراجع هواجسنا وأفكارنا وأساليبنا، لنكشف الخلل والضعف، ولنستعِنْ بالله، ولنجعل الأفعال مقدَّمة على الأقوال، والله تعالى يقول: )يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون؟(.

ورحم الله ابن عطاء الله السكَنْدري إذ يقول: "من علامات النجاح في النهايات، الاعتماد على الله في البدايات".

***

إن من عوامل نجاح الدعوة: الفهم الدقيق، والإيمان العميق، والحب الوثيق، والوعي الكامل، والعمل المتواصل... ونسأل الله أن يجعلنا ممن تحقق بذلك كله، وجعل عمله خالصاً له سبحانه.

وسنقسم بحثنا هذا إلى قسمين: أسباب الفتور، ومعالجته.

أسباب الفتور

1- التصور الخاطئ لطبيعة هذا الدين:

إن الفهم الموضوعي لما جاء في الكتاب والسنّة عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى، وعن طبيعة الدعوة وطريقها... وما في ذلك من ابتلاء بالسرّاء والضرّاء، وصبر على طول الطريق، وقلة النصير، وانتفاش الباطل... ومعرفةٍ بواقع الإنسان من حيث ضعفُه وشهواته... ومن حيث استعداده للسّمُو والنهوض... ومن حيث الظروف التي تنهض بهمّة الإنسان أو تقعد بها...

إن فهم ذلك كله يمكّن المسلم من اتخاذ الموقف الصحيح، ومعالجة كل طارئ يمرّ به، ويحفظه من الجنوح ومن الهمود معاً.

الغلو والتطرف والتعلق بالمثالية المجنَّحة... فيها الخير الظاهر، وفيها الشر المستطير. فصاحب هذه الاتجاهات إذ تدفعه حماسته إلى الشدّة في أخذ الأمور تعرِّضه إلى خطرين اثنين:

الأول: أنه ينظر إلى إخوانه الذين لا يجارونه في اتجاهه، نظرة ازدراء أو نظرة تفسيق... وتجعله يقع في محظور "غَمْط الناس" الذي حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم وجعله من الكِبْر.

والثاني: أنه يُحسُّ بالإجهاد بعد فترة قصيرة، وهذا الإجهاد قد يجعله يقْقُد وينكُص "إن الدين يُسْر، ولن يشادَّ الدينَ (أحدٌ) إلا غَلَبه" رواه البخاري. "إن هذا الدين متين، فأوغِلْ فيه برفق، فإن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى" رواه الإمام أحمد وغيره.

أما الهمود والقعود وقلة الاكتراث فهي ظاهرة الضرر... والخير كل الخير في الاعتدال والتوسط )وكذلك جعلناكم أمة وسطاً(. وعلى الدعاة أن يراجعوا أنفسهم وفق ميزان الاعتدال، ويتواصَوا بذلك ليكون كل منهم عوناً لأخيه على المضيّ في الطريق الصحيح.

2- المفارقة بين الواقع والمثالية:

قد يُقبل الأخ على العمل لدينه ودعوته بعزيمة وقّادة، ويستشعر الأنس بإخوان سبقوه في ميدان العمل، ويسمع خطبهم، ويقرأ كتاباتهم، ويتصوّر تفانيهم في سبيل هذه الدعوة... وتمرُّ الأيام، وتتعمق معرفته بهم، ويرى المسافة بين واقعهم وبين الصورة المثالية التي رسمها لهم في ذهنه، فيصاب بالصدمة، وتكون الفاجعة، ويفقد الثقة بالدعاة والدعوة... مع أن هذا الذي رآه لا يعدو غالباً أن يكون من مظاهر الضعف البشري الذي ينزل بصاحبه عن مراتب الكمال، وليس مما يفجأ ويفجع.

إن الأَوْلى بالمسلم أن يعلم منذ بداية الطريق أنه يتعامل مع بشر، مهما بلغوا من السموّ فإن الضعف يعروهم. وإذا لم يكن مقبولاً منه أن يسوِّغ أخطاءهم، فليس مقبولاً منه كذلك أن ينسى فضائلهم أمام نقطة ضعف أو نقاط ضعف ظهرت فيهم.

بل عليه فوق ذلك أن يتوقع وجود واحد أو أكثر في صفوف الدعاة، وهو ليس منهم وإن تزيّى بزيِّهم، فاندساس العنصر الغريب، أو انتكاس عنصر إلى الوراء بعد أن كان يتقدّم الصفوف... ليس شيئاً غريباً في الدعوات عامةً، وفي دعوة الإسلام نفسها. ألم يندسّ بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منافقون قال فيهم رب العزِّة: )ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنَّهم في لحن القول. والله يعلم أعمالكم(. سورة محمد: 30.

3- بروق المطامع ونفاد الصبر:

لا تخلو الحياة الدنيا من صنوف البلاء )ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا ترجعون(. سورة الأنبياء: 35. وطريق الدعوات بشكل خاص حافلٌ بألوان البلاء. )ليَمِيز الله الخبيث من الطيب( الأنفال: 8. )الم. أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا: آمنا، وهم لا يفتنون؟( العنكبوت 1و2. )ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم(. سورة محمد: 31.

فإذا تتابع البلاء، وتكاثرت المصائب وطال الطريق... ولم تظهر بوارق الأمل بنصر قريب، فإن كثيراً من النفوس تضطرب وتتراجع... فإذا لمعت مع ذلك بوارق المطامع بمكاسب عاجلة في مال، وفرصة عمل فريدة، وجاه ومنصب... فإن بعض النفوس تنسحق... ولا نجاة من ذينك الاضطراب والانسحاق إلا بكثرة ذكر الله، واللجوء إلى حماه، والإقبال على كتابه، وتذكُّر سننه في الصبر والشكر، والبلاء والنصر...

4- الركون إلى أمجاد الماضي، والعجز عن مواجهة مشكلات الحاضر:

من الجميل أن نقرأ تاريخ السلف ونَسْتلْهم منه الدروس، ونشد العزائم بما حققوا من فتوح... بل أن يذكر أحدنا تجاربه الناجحة، وإنجازاته الطيبة، ليجدد الثقة بقدرته على مواصلة الطريق... أما أن يجعل ذلك تعويضاً عن عجزه اليوم وعن ضعْف همته، وتعثر خطواته فهذا تعثّرٌ وهرب ونكوص.

إذا كان السلف الصالح قد حققوا الأمجاد فلأنهم أخذوا بعُدّة النصر من إيمان وتربية وعلم وجهاد واستعانة بالله... فلتكن قراءتنا لتاريخهم حافزاً لنا لأن نسلك مسلكهم لنحقق أمجاداً كأمجادهم.

وإذا كان أحدنا قد حقق نجاحات في أيامه الخوالي، فلينظر في تحقيق نجاحات جديدة تناسب ظروفه من حيث السن والخبرة والوضع الاجتماعي... ولا ينبغي أن يكتفي بتعداد تلك النجاحات فإن ذكر الأمجاد السابقة التي لا تتلوها أمجاد لاحقة قد تغدو مجال تندّر الآخرين.

**********

ولسنا نزعم أن أسباب الفتور تنحصر في هذه الجوانب الأربعة، إنما هي إشارات نكتفي بها، لننتقل إلى خطوة أخرى نحو العلاج، وهو ما سيكون موضوع الحلقة الثانية بإذن الله.

وسوم: العدد 960