إرثنا الإسلامي المتجدد

يقول الرسول صلى الله علية وسلم : ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) ... إنها التفاتة نبوية رائعة لتأكيد الأخذ بأسباب إعمار الأرض ، ولتنبيه الناس إلى ماحباهم ربُّهم من قدرات وطاقات ومواهب وخبرات لاستثمارها في الرقي بهذا الإعمار للحياة ، والهّدي النبوي هنا موجهٌ للناس جميعا ، وإن كان المخاطَب به أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذين استوعبوا هذه المعاني السامية ، وأسهموا إسهاما كبيرا في بناء حضارة إسلامية إنسانية لامثيل لها في تاريخ الحياة البشرية ، وقد شملت نواحي الحياة الخاصة والعامة ، وفي جميع العلوم والمعارف ، تحت مظلة الشريعة الإسلامية الغراء حيث الإخاء الإنساني والعدل بين الناس ، لأن العدل هو مفتاح التآخي ، وهوباب الرضا لِما تقدمه الحضارات للناس ، فلكل عامل مثابر نصيب يستحقه بجهوده وبما يقدم على مساحات الإعمار في الحياة ، ففي الحديث النبوي الشريف : ( المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا ) ، ولا يذكر التاريخ أرحم ولا أعدل من المسلمين يوم تولوا حكم البشرية في تلك العصور . كما لانعلم إرثا خالدا متجددا في حياة البشرية كإرثنا الإسلامي المجيد ، ومن المستحيل أن تستطيع أيُّ أمةٍ ُ عاشت أو ستعيش على ظهر المعمورة أن تترك إرثا كهذا الإرث الإسلامي الرباني الخالد ، وذلك لخصائصه المتفردة بوحي الله عزَّ وجلَّ وبالوحدانية التي تجمع الخلق على عبادة الله الواحد الأحد ، في ظل الإخاء والمودة والقيم والمآثر ، والنزعة الإنسانية التي تفيض بالرحمة والتواد بين بني البشر ، وهذا الإرث محصَّن لايمكن إفناؤُه أو تجاوزه في الحياة ، محصَّن بقرآنه المعجز الذي يشكل محور هذا الإرث السامق ، وديمومة هذا الإرث تعود لهذا الإعجاز ولهذا التحدي ، لأنه من عند الله سبحانه وتعالى ، يقول تبارك وتعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ، وهذا الإرث محصن بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد اختار المولى جلَّ وعلا مُحَمَّدًا واصطفاه ليكون بشير الخير للبشرية فكان ، وليكون نذيرا للخلق جميعا ليؤوبوا إلى ربهم ، فلم لم يستجب لدعوته فإن مصيرة التبار في الدنيا والخسران المبين في الآخرة : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا ) . ومن خصائص إرثنا الإسلامي أنه يدفع المسلم ليسعى ويفكر وينظر ويبتكر ويعمل ليعمر الأرض التي يعيش عليها الناس ، وكذلك فإن لكلأمة إرث ، ولها حاضر تتجلى فيه قدرة تلك الأمة على صياغة حياتها بطريقة ما ، والإسلام بشموله وعالميته يوجه أبناءَه ليفيدوا ويستفيدوا ، والحكمة ضالة المؤمن التي لايزال يطلبها حيث وُجدت ، والعقل البشري منحه الله لجميع خلقه ، فبه يفكرون وبقدراته يخترعون ، وهنا تتلاقى الحضارات ويكون التواصل والتماهي بينها ، وليس بمقدور الناس أن يستغني بعضهم عن بعض ، والإسلام جاء كودق السحاب تحيا به الدنيا في كل أصقاع الأرض ، وها قد أصبحت الأرض كلها على سعتها قرية صغيرة ، تتفاعل مع كل جديد ، وهنا يتوجب على المسلمين أن يعوا مهمتهم في الحياة ، لا أن يذوبوا في أتون ثورة المخترعات والمعلومات ، فهم أهل لقيادة البشرية الحائرة اليوم رغم كل هذا الزخم العارم من معطيات الحضارة المادية ، هذه الحضارة التي تحمل الأذى والشر في معطياتها ، وفي تربية أبنائها الذين يجانبون اليوم حقيقة التوحيد والاستسلام لله رب العالمين . إن أبناء الأمة المسلمة اليوم مطالبون بقوة إلى حفظ قدراتهم ومواهبهم ومزايا إرثهم الرباني وأوقاتهم ... لتكون آلتهم الفاعلة في صناعة الحضارة ةالإسلامية الإنسانية التي تحمل الخير والرحمة للخلق أجمعين ، ولتكون إسهاماتهم الكريمة في بناء صرح إنساني يعيد المكانة الغالية التي تبوأتها منذ أقدم العصور . إن الإسلام انتصر في ميادين الجهاد ، جهاد الطغاة والظالمين شعوبَهم ، والإسلام انتصر بمبادئه وبرحمته وما في تعاليمه من أخلاق وآداب وسُمُو ، فدخل الناس في دين الله أفواجا ، لأنهم رأوا أثر الإسلام في المجتمعات في متطلبات الحياة التي يسودها الأمن والرخاء والأمل الواعد عند الله سبحانه وتعالى ، ويرون توجيه الإسلام لإعمار الأرض ، ونبذ ما لأهل الشر من أفكار وتوجهات ، وخاطب العقل البشري الذي عليه أن يعي ويدرك أهمية ما سخر الله للناس في هذا الكون الفسيح ، يقول الله عزَّ وجلَّ : ( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ، إن مخاطبة الإسلام للعقل في العديد من آيات القرآن الكريم إنما هو لتفعيل دور الأفكار والتَّبصر بالأمور وتشجيع الإنسان كي يكون واعيا لِما يحيط به في هذا الكون العظيم ، وليستثمر ماوهب الله على الأرض من أسباب السعادة .

          التقدم الحضاري المعاصر لن يلغي الإرث الحضاري الإسلامي ، ولن يستطيع ، فقوة الباطل المادية المستشرية اليوم على الساحة الدولية لاتملك أسباب البقاء ولا أسباب النصر النهائي ، لأن للكون نواميس لاطاقة للبشر أن يتجاوزوها ، فالأمر لله والحكم بيد الله ، وهنا يأتي دور التواصل والمفاهمة بين الشعوب ، أو قل ــ وهو الأصح ــ بين الطغاة أصحاب المؤسسات الأمنية والاستكبار العالمي وبين بقية الشعوب المغلوبة على أمرها والمستضعفة في هذه العصر . وهنا أيضا يجدر بالمسلمين وهم أهل الرسالة العالمية المنقذة أن يجددوا مالهم من مكانة وعزة وأثر ، لإعادة روح إرثهم العظيم ... غيثا تهتز له ربوع الأرض بعد الهمود ، وتربو جنباتها بعد الركود وتنبت سهولها بعد اليباب ، وليس ذلك ببعيد على أبناء أمة تُفتح لهم أبواب السماء آناء الليل وأطراف النهار . وقد دانت لهم القلوب ... قلوب الناس من قبل يوم دعوهم إلى الوقوف أمام الحق والإذعان والاستسلام لله الواحد الأحد ، فالخلق كلهم عباد الله : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله (64 /آل عمران

الإسلام يطالب الخلق جميعا بالحوار البناء ، ويشجع على اجتماع الجهود لنيل الثمرات اليانعات التي هي ملك لبني البشر ، من قيم وأفكار وقوانين لاتخالف فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فمخالفة الفطرة انتكاس وارتكاس وخسران ، والفطرة لاترضى بغير مايسعد الإنسان في حياته وبعد موته على حد سواء . ويأتي الإرث الإسلامي مؤكدا على هذه الحقيقة ، داعيا إلى المساهمة الإيجابية في إكرام الإنسان الذي كرَّمه الله سبحانه وتعالى . وإن تمسكنا بهذا الإرث ليس تحيزا ولا تعصبا ولا انغلاقا ، وإنما هو العودة بالبشرية الحائرة المعذبة اليوم إلى أفياء ماتركت نبوة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من إرث إنساني كريم رحيم بالناس ، فلقد خاطب الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، وهذا هو سرُّ خلود الإرث الإسلامي ، فالحضارات البشرية السابقة بادت واندثرت ولم يبق لها أثر فاعل في حياة الناس ، بينما حضارتنا الإسلامية وإرثنا الرباني باقٍ مؤثرٌ فاعل حيٌّ في القلوب وفي الضمائر . ولقد اعترف الكثير من أصحاب القلوب الحيَّة والضمائر ... من أهل الكتاب وغيرهم ، وعلى امتداد العصور المتتالية بما في الإرث الإسلامي من حق وهدى وإنقاذ للبشرية ، بل اعتنقوا الإسلام وحملوه راية للخير ومنهم في هذا العصر الأستاذ الدكتور توفيان تيوفا نوفا وهو عضو في جمعية المستشرقين الأميركيين وعضو اتحاد المستشرقين الأوروبيين ـ واعتنق الإسلام عن قناعة تامة وأكيدة من خلال دراسته للقرآن الكريم ، وللمعطيات العظيمة التي قدَّمها الإسلام للبشرية في مجال العقيدة والحكم وفي حفظ حقوق الإنسان ، ولقد أدَّى هذا الرجل فريضة الحج ليتمم ماافترضه الله عليه من عبادات . وألف العديد من الكتب التي ترد على أهل الباطل والزيغ من المستشرقين ، ومن أقواله في إحدى المقابلات التي أجرتها معه مجلة الوعي الكويتية : ( وأنا كمستشرق أدت بي الدراسات الموضوعية الصحيحة لاعتناق الإسلام·· ومن ثمَّ أتصدى لهذه المنهجية الاستشراقية المعادية للإسلام والمسلمين·· وأدافع عن الدين الإسلامي الذي درسته واعتنقته·· وأنا واحد من المستشرقين الذين التزموا بالمنهج الموضوعي في دراساتهم الإسلامية ، ولا شك أن المنهج الاستشراقي غير الموضوعي هو وليد الحركة الاستعمارية والتبشيرية التي استهدفت تشويه الإسلام وصورته، وبث الأخطاء المُتعمّدة حول الإسلام·· وأنا أعتقد أن هذا هو الجزء الأكبر في الحركة الاستشراقية العالمية التي يجب التصدي لها بكل السبل المتاحة لدى المؤسسات الإسلامية العالمية ( .

وسوم: العدد 963