الدينُ هو السياسةُ

حينما قرر اللهُ تعالى أن يخلق آدم؛ كأول مخلوق على وجه الأرض.. عرض هذا الأمر على الملائكة فقال: (وإذ قال رَبُّكَ للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً) البقرة 30.

وكان الهدف من جعله خليفة؛ كي يقيم أحكام الله، وينفذ شرائعه بشكل كامل. وأورد الطبري في تفسيره لتلك الآية (عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه).

وكذلك أورد البغوي في تفسيره (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ لِإِقَامَةِ أَحْكَامِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ).

وكذلك القرطبي أدلى بدلوه (وَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي إِمْضَاءِ أَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ).

فجميع المفسرين يُثبتون، ويُؤكدون بشكل حاسم، وقاطع على أن الغاية الرئيسية من خلق آدم كخليفة عن الله تعالى في الأرض هو: الانصياع الكامل، والخضوع التام لأوامر الله ونواهيه.. دون اعتراض، ولا تردد، ولا تلكؤ، ولا محاججة.

ويدعم هذا الرأي قول الله تعالى: (وما خَلَقْتُ الجِنَ والإنسَ إلا ليَعبدونِ) الذاريات 56.

وظيفةُ الدينِ

 

فالدينُ! جاء ليُنظم أمور العباد، كلها حسب الرؤية الربانية الحكيمة، العليمة علم اليقين، بما يصلح لهم، وما ينفعهم في الدنيا والآخرة.

إنه يريدُ أن يُحصِّنهم، ويحميهم من الأذى، والشر، ويَصونهم من لوثات الشيطان، الذي يتربصُ بهم الدوائر، والذي رفض باستكبارٍ، وغطرسةٍ.. أن يسجدَ لأبيهم آدم، حينما أمره اللهُ، والملائكةَ بذلك.. وأقسم بعزة الله وجبروته، أن يُلاحقهم، ويُطاردهم حيثما كانوا (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين) الأعراف 16-17.

وأقسم أيضاً: ﴿لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا﴾ الإسراء 62. يقول: لأستولين عليهم، ولأستأصلنهم، ولأستميلنهم ولأضلنهم يقال منه: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك؛ (تفسير الطبري).

أَيْ لَأَسْتَأْصِلَنَّ ذُرِّيَّتَهُ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، وَلَأَجْتَاحَنَّهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ الْعَرَبِ: احْتَنَكَ الْجَرَادُ الزَّرْعَ إِذَا ذَهَبَ بِهِ كُلَّهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَأَسُوقَنَّهُمْ حَيْثُ شِئْتُ وَأَقُودَنَّهُمْ حَيْثُ أَرَدْتُ. (تفسير القرطبي).

واللهُ عز وجل! يريدُ لعباده الخيرَ، ويريدُ لهم العفة، والطهارة، والفضيلة، ويحرص كل الحرص على سعادتهم، وهناءتهم، وراحتهم.. وأن يعيشوا في أمانٍ، وسلامٍ، وطمأنينةٍ (يُريدُ اللهُ ليُبينَ لَكُم، ويَهدِيَكم سننَ الذين مِنْ قَبلِكم، ويَتوبَ عليكم، والله ُعليمٌ حكيمٌ * واللهُ يُريدُ أنْ يَتوبَ عَليكم ويُريدُ الذينَّ يَتَّبِعونَ الشَهواتِ أنْ تَميلوا مَيْلاَ عَظيماَ * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) النساء 26-28.

ويعلقُ سيدُ قطب – رحمه الله – فيقول:

(يريد الله ليكشف لكم عن حكمته ; ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة , وأن تتدبروها , وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب ; فهي ليست معميات ولا ألغازا ; وهي ليست تحكما لا علة له ولا غاية ; وأنتم أهل لإدراك حكمتها ; وأهل لبيان هذه الحكمة لكم . . وهو تكريم للإنسان , يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية , فيدركون مدى هذا التلطف الكريم.

( فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات . ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات . العلم بنفوسكم وأحوالكم . والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم . والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء . .

(وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال: ديني , أو أخلاقي , أو اجتماعي . . يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح , من أي لون كان . السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب , ولا يسكن معه عصب , ولا يطمئن معه بيت , ولا يسلم معه عرض , ولا تقوم معه أسرة . يريدون أن يعود الآدميون قطعانا من البهائم , ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة ! كل هذا الدمار , وكل هذا الفساد , وكل هذا الشر باسم الحرية , وهي - في هذا الوضع - ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة !) النساء ص85-86.

اللهُ هو الصانعُ والخالقُ للناس

 

لأن الله تعالى هو: الصانع والخالق لهم.. وهو الذي ركب الغرائز، والشهوات، والمشاعر، والعواطف، والأحاسيس في أجساد العباد كلها.

وهو الذي حدد كيفية استخدامها، وكيفية الانتفاع بها، بما لا تتعارض واحدةٌ مع الأخرى، وبحيث كلها تسير في اتجاه واحد.. بتناسق، وتوافق، وتؤمن السلام الكامل، والطمأنينة، وراحة البال للإنسان.

فهذه الصنعة الربانية للمخلوق البشري، التي لا يملك أسرارها إلا الله وحده، ولا يعلم ما تحتاجه هذه الصنعة البديعة الرائعة، والفريدة من نوعها (المخلوق البشري)، من حاجيات ومتطلبات، للمحافظة عليها سليمة من الأذى، ومصانة من العطب، لكي تبقى في حلة قشيبة، جميلة، ولتظل آمنة من التحطم والهلاك، ولتنعم بالحياة الرغيدة الرضية السعيدة، الخالية من الشقاء والبؤس، والتعاسة، ومن نكد العيش، ومنغصات الحياة، ولأوائها وأكدارها، إلا الله تعالى.

لأنه لا يعلم ما توسوس به نفس الإنسان، وما يتمناه وما يحلم به، وما يطلبه، إلا الله سبحانه ﴿ وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِیدِ﴾ ق 16. حتى أن الزوجين اللذين ينامان في فراش واحد، لا يعلم أحدهما ما في نفس الآخر، وما يفكر به، وما يحلم به!

اللهُ وضعَ في الدينِ كلَ القوانين التي يحتاجها الإنسانُ

فالله تعالى! وضع في الدين كل القوانين، التي يحتاجها الإنسان في حياته، منذ ولادته، وإلى حين موته، بشكل مفصل تفصيلاً دقيقاً وشاملاً.. وبحيث يتحدى كل علماء، وأساتذة القوانين الأرضية الترابية، أن يأتوا ولو بعُشر معشارها، كما تحدى البشرية كلها من قبل، أن يأتوا ولو بآية واحدة، تماثل أو تكافئ آيات القرآن الكريم.

فالمولود! منذ أن يخرج من بطن أمه، له في دين الإسلام، شعائرٌ، وطقوسٌ إنسانية راقية، سامقةٌ، تتوافق مع العقل، والمنطق البشري، وتتلاءم مع الفطرة البشرية.. تسمو وتعلو على كل الطقوس السخيفة، القميئة التي يمارسها الكهان، والأحبار، والمشعوذون – سواءً كانوا في الديانات السماوية المحرفة، أو الأرضية الباطلة الفاسدة -.

وتستمر أحكامُ وتوصياتُ دين الإسلام، تُتابع نمو، وتطور الطفل ساعة بساعة، ويوماً بيوم.. فترعاه، وتربيه على أحسن الأخلاق، وتُنشئه على أرقى السجايا، والخصال الحميدة، وأكمل الصفات، حتى يبلغ الحُلُمَ، ومن بعدها حتى يتزوج، ومن ثَمَّ حتى يصبح راشداً، ومن بعدها كهلاً وشيبةً.

السياسيونَ الذين ينبذونَ الدينَ يريدونَ تدميرَ البشريةِ

 

فالذين يريدون أن يمارسوا السياسة، بعيداً عن الدين.. إنما يريدون أن يصارعوا الدينَ، وينبذوا أحكامه، ويتحدوا الخالق، زاعمين أنهم أعرفُ بمصلحتهم الدنيوية منه.

ويريدون أن يتفلتوا من أي رقابة علوية، وينساقوا وراء أهوائهم، وشهواتهم، ويسعوا في الأرض، ليهلكوا الحرث والنسل، ويثروا على حساب العامة..

لأن الرقابة البشرية – مهما كانت صارمة وشديدة – فهي أعجز من أن تضبط حركات الناس كلها.. فمن السهولة بمكان، خداع المراقبين البشريين، وتضليلهم.. بل وشراء ذممهم.

فالذي لا يخاف من الله البصير العليم، ولا يحسب له حساباً، لن يخاف من العبيد، ولن يعبأ بهم.. حَفنةٌ من الدولارات، تجعلهم يسكتون، ويغضون الطرف عن أي فساد.

وهؤلاء! إنما هم يصادمون فطرتهم، ويُدمرون أنفسهم، ويَتيهون في الأرض حيارى، يتلبطون بها، ولا يهتدون سبيلاً.

إن الذين يمارسون السياسةَ خارج نطاق الدين.. إنما يمارسون الدَّجَلَ، والكهانة، ويستخدمون أساليب السحرة، ويستعملون طرق العِرَافة، والتنجيم، ويطبقون حيل الشعوذة، وينفذون فنون الخداع، والتضليل للناس.

فيَربتون على شهوات الدهماء، والغوغائيين، ويطبطبون على أهواء القطيع الهائج، الثائر الراكض، نحو الفواحش والمنكرات، والمتلهف للحصول على الملذات الجسدية الرخيصة، والمتع الدنيوية الدنية.

إن السياسيين المتفلتين من ضوابط الدين، والخارجين على حدوده، والمتعدين لأسواره الحصينة، والمتباهين، والمتفاخرين باسم العلمانية، التي تنبذ الدين، وتُبعده عن الحياة العملية كلياً.. إنما هم يَخْبِطون في الأرض خبط عشواء، ويتلبطون بطينها النتن، ويتمرغون بأوحالها النجسة القذرة.

إنهم يريدون لهم ولشعوبهم، أن يَعُبُّوا من الشهوات، والملذات عَبّاً.. لأن الشيطان يستذلهم، ويُزين أعمال السوء لهم، ويُغريهم بممارسة الفحشاء والمنكر، الذي سبق وأن حذر الخالق الصانعُ، الناسَ من أحابيل الشيطانِ (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان، ومن يتبع خطوات الشيطان؛ فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) النور 21.

فها هم الآن! يبيحون الشذوذ الجنسي، ويُشرعون له القوانين، لتكون ممارسته رسمياً.. ويَدعون له في وسائل الإعلام، ويُشجعون الناسَ كلهم على ممارسته.. باعتباره أنه آخر الصرعات الفكرية، واللوثات الاجتماعية المنحرفة، والمنحدرة نحو البهيمية.. بل أسوأ منها.. لأن البهائمَ مُسيَّرةٌ بالفطرة الربانية، فلا ينزو الذكرُ على الذكرِ، ولا الأنثى على الأنثى، وإنما ينزو الذكرُ على الأنثى فقط.. ليستمرَ التوالدُ، والتكاثرُ الطبيعي بينها.

وبالمقابل! فإن الذين يُلازمون المساجدَ - معتكفين أو مصلين - ويُقيمون حلقات الذكرِ، أو العلم، وينسلخون من الحياة العامة – السياسية وأخواتها - ولا يَعبؤون بمن يحكمهم، ولا يبالون بالطريقة التي يمارسها الحكام في إصدار القوانيين، ولا يُنكرون عليهم، اغتصابهم لخاصية التشريع الرباني الخاصة بالله وحده، ويظنون أنهم سيبقون مسلمينَ، بمجرد ممارستهم للطقوس والشعائر التعبدية..

هؤلاء! بالتأكيد خاطئونَ، وضالون، ولا يعرفون عن الدين إلا قليلاً.. بل يجهلون ماهيةَ الدين، وطبيعته، ويُدلسون على الناس، ويُضلونهم بغير علم.

النتيجةُ الختاميةُ

إن الدينَ! هو السياسةُ، وهو الاقتصاد والعلم والثقافة، وهو القضاء والعدل الكامل، وهو الإعلام والفنون بكل أنواعها.. بل هو الحياة، بكل تشعباتها، وثناياها.. فلا توجد أصغر قضية في الحياة، إلا وللدين له فيها السبق المعلى في الحكم.

وسوم: العدد 964