مقدمة كتاب سيد ونظرية التصوير الفني في القرآن

تأليف الدكتور صلاح الخالدي

   هذا الكتاب هو الجزء الثاني من رسالة الماجستير "سيد قطب والتصوير الفني في القرآن". وقد أصدر الكاتب الجزء الأول بعنوان: "سيد قطب الشهيد الحي"، وكان موقْقاً أي توفيق في هذا العنوان ..؛ فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، ومقام الشهادة في الإسلام هو مقام النبيين والصديقين. والذي يقرأ الجزء الأول من هذه الرسالة، يخرج بصورة واضحة المعالم عن سيد، وليس هذا بغريب على باحث جادّ، تخصص بدراسة سيد: حياته وآثاره وألوان عبقريته، وكتب ما كتب بأسلوب الباحث المدقّق، المتنائي عن الجلجلة اللفظية، والإنشائية الخطابية التي ابثتُلي بها بعضُ كتّابنا، من الذين اعتادوا اعتلاء المنابر.

وجميل جداً أن يتخصص باحث بدراسة عبقري من عباقرة الحركة الإسلامية في هذا الزمان، كفعل مؤلف هذا الكتاب، فقد أكبَّ منقِّباً عن كل ما يتصل بسيد بسبب، فراح يحتفي بالخبر، ويغدّ السير وراء الأثر، وما أغزر آثار سيد، وما أشدّ تبعثرها في الصحف المصرية منذ الثلاثينيات، وحتى صعود روحه إلى الرفيق الأعلى ...، الأمر الذي دُهش له الباحثون وهم يرون غزارة الإنتاج، إلى جانب العمق والأصالة...، مما جعل أحد الباحثين يأسى لخسارة الأدب العربي والنقد العربي خاصة، بفقد الناقد العملاق الذي قادته حركة الإخوان المسلمين إلى السجن فحبل المشنقة فالجنة، وفَقَدَ النقدُ العربي بفقده (ناقداً حذقاً بزّ أقرانه وأساتذته) أو كما قال ذلك الكائب في كتاب "الأدب العربي في آثار الدارسين" (1).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

‎(1)هو الدكتور محمد يوسف نجم.

ومن المحزن حقاً أن أزعم: أن الحركة الإسلامية المعاصرة تظلم رجالاتها، أحياء

وأمواتاً وشهداء ...، إذ لا نكاد نقرأ إلَّا النّزر اليسير من الكتابات عن رجال الدعوة

العظام في هذا القرن ...، فيما نرى عشراتِ الكتب ومئاتِ الدراسات عن رجال الأحزاب الأخرى ...، وهؤلاء ...، عندما يكتبون عن رجالهم وعن أحزابهم، وعندما يؤرخون للحركات الوطنية، والأنشطة الشعبية لا يكادون يتطرقون إلى حركتنا الإسلامية ودورها في الكفاح الوطني والشعبي بله الإسلامي، ولا يتطرقون إلى رجالنا الذين استُشهدوا في سبيل مبادئهم ... وإذا تحدثوا عنهم غمطوهم حقوقهم، وألغوا أدوارهم النضالية. ونحن لا نعتب كثيراً على هؤلاء الكتاب، إلّا لادّعائهم الموضوعية فيما يكتبون، والموضوعية منهم براء ...، بل إن من المنطقي جداً – في عالمنا المتخلف هذا– أن يتجاهل أعداءُ الله، أعداءُ هذه الدعوة، الرجالَ الأفذاذ الذين نهدوا لحمل الأعباء الجسيمة في أوطانهم المنكوبة بالكثير من أشباه الرجال ...، الحكام ... وإن حمْل تلك الأعباء لينوءُ به الرجال الرجال ...

ومن هنا كان حزني على الإجحاف الذي لحق بشهدائنا ... البنا وسيد والهضيبي وفرغلي وعودة وطلعت وهوّاش وإسماعيل وخالد ومروان وإبراهيم وعدنان وسواهم وسواهم...، هذا الكتاب الذي دأب على جمع آثار سيد، وسيد عالم فسيح، فيه من جوانب العظمة ما يمكن لأكثر من كاتب أن يتناوله ...

وإن كنتُ أستطيع أن أزعم, أنَّ ما كتبه المؤلف هو جهد ضخم، قدّمه في تواضعٍ جم، وأنه خيرُ كتاب صدرَ عن سيد، فهو يترجم له ترجمة دقيقة، يبرز فيها شخصية سيد الأديب، وسيد السياسي، وسيد الداعية الحكيم المحنك ...، وهذه الإيجابيات تثلج الصدور من جهة؛ إذ تبين عبقرية هذا الرجل العملاق، ولكنها تؤلم من جهة أخرى، إذا قارنا حياة سيد بحياة من نعايشهم اليوم من العاملين في الحقل الإسلامي...، ولعلها تكون مهمازاً يدفع هؤلاء إلى أن يكونوا مثله، وعياً وإخلاصاً وحركةً، وزهداً بهذا الحطام الذي يشوّه النفوس، ويخالف بين الصفوف، ويجعل الدعاةَ كسائر الناس لا يكادون يتميزون منهم، ولا يرتفعون عنهم إلَّا قليلاً ...

ولكن ...

ليت الكاتب رجع إلى كتاب "الأدب العربي في آثار الدارسين" لمجموعة من الكُتاب، ليستشهد برأي المخالفين لسيد، والفضل ما شهدت به الأعداء ...

وليته رجع إلى الكتاب الرائع "الإخوان المسلمون ... رؤية من الداخل" للأستاذ

محمود عبد الحليم؛ لأنه يُلقي بعض الأضواء على شخصية سيد في جاهليته وفي

إسلامه ...، ولكن الكاتب - تلميذ سيد - ما كان ليُحصي على أستاذه الكبير مثالبه وسلبياته ...، وحقّ له هذا، لولا أنه يدور في دائرة البحث العلمي (الأكاديمي) ...، تلك الدائرة التي تتطلب من السائرين في فلكها، ذكْرَ كلِّ شيء ... كل شيء ... وما أظن سلبيات الرجل تترك أثراً سلبياً في نفس القارئ ...، ولعله في جمعه لآثاره كلها... وكلها ... وبلا استثناء ... يقدم لنا - عبر دراساته لا يجمع - من ألوان المادة الفكرية والنفسية، ما يجعل الناس يقفون على الكثير من جوانب عظمة سيد.

ومن هنا - أيضاً - كانت دعوتي ومناشدتي للشاعرة الكبيرة نازك الملائكة، أن تقوم بكتابة ملحمة أو ملاحم تكون خالدة، عن رجالنا الخالدين، وأخص منهم:

الإماميْن الشهيدين: البنا وسيّد.

إذن ... هذا هو الجزء الثاني لرسالة الماجستير، وفيه يبيِّن نظرية سيد قطب في التصوير الفنى في القرآن، وسيد هو رائد هذه النظرية التى جاءت متكاملة، وكلُّ الذين كتبوا بعده في هذا المجال، كانوا عالةً عليه، علُّوا ونهلوا من مَعين هذه النظرية الفنية الجمالية، دون أن يشير بعضهم أيَّ إشارة إلى المنهل العذب الذي استقوا منه...، ولئن كان اعتذار بعضهم مقبولاً في حياة الرجيم عبد الناصر، خشية البطش به، فإن من كتب بعد هلاك الطاغية لا عذر له ألبتة ...

والمؤلف سار بمنهجية يُغبط عليها، ففي كتابه من الشمول ما ليس في سواه من الكتب والدراسات، التي تحدثت عن سيد، مع خلوٍّ تام من الحشو الذي نراه لدى الكثير من الكاتبين ...؛ إذ كل شيء بسبب، والأسباب تفضي إلى النتائج ...

فهو في الفصل الأول يتحدث عن المراحل التى مرّ بها ركبُ التذوق الأدبي لهذا الجمال الفني، الذي يحسه قارئ القرآن، هذا الفصل يواكب مسيرة العقل المتلقي لهذا

القرآن العظيم، وأثره في المتلقين. هذا الفصل والفصل الذي تلاه، وهو بعنوان:

التصوير في الشعر العربي، بما فيه من دراسة تطورية لفكرة التصوير في الشعر العربي، جاهِليّهِ وإسلاميِّهِ وأمويِّهِ وعباسيِّهِ، بل وموهبة التصوير عند سيد في نثره

وشعره، كل هذا كان مقدمات وإرهاصات، أدّتْ به إلى بلورة نظرية التصوير الفني في القرآن، التي لم يَسْبق إليهَا سابق ... بعد أن مارس النقدَ بألوانه الشتى زمناً طويلاً...

نقْد الشعر، ونقد النثر بما فيهما من قصة ومسرحية ...؛ فسيد الناقد الذي عكف على

القراءة منذ يفاعته، قراءة الدارس الباحث، وكان أَنْ وقع تحت سحر البيان الجليل،

كلام رب العالمين، ثم اهتدى إلى منابع ذلك السحر، المتمثلة في التصوير الفني، أسلوباً فريداً ذا خصائص وطرق، وألوان وأدوات وآفاق، تنبه لها، وصاغ منها نظريته هذه، وضرب عليها الأمثال الكثيرة، على كل لون من ألوان التصوير، وإنَّ قارئ هذا الكتاب سوف ينتهي منه، ولديه قناعة كاملة بأن سيّدَ كانَ صاحب نظرية، بكل أبعادها، وما نظن مَنْ جاء بعده استطاع أن يضيف إضافات جديدة عليه.

لقد اكتشف المؤلف مفتاحيْن لدراسة سيد للقرآن الجليل ...، أولهما: المفتاح الجمالي المتمثل في نظرية التصوير الفني، الذي برز في كتابه "التصوير الفني في القرآن" وفي بعض المواضع من كتبه وكتاباته الأخرى، وثانيهما: المفتاح الحركي الذي برز في كتابه العظيم (في ظلال القرآن).

ولئن أخرج المؤلف كتابه الثاني عن المفتاح الجمالي؛ فإنه وعد أن يتابع المسيرَ في

إصدار كتاب عن المفتاح الثاني الحركي ...، وإننا لمنتظرون(1).

ولئن أفاد النقاد ورادة الجمال من هذا الكتاب؛ فإنَّ الجمهرة الكبيرة من تلاميذ سيد والمعجبين به يتطلعون إلى الكتاب الثالث الذي يتناول الجوانب الحركية التي وعاها سيد وهو يعيش في ظلال القرآن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أصدر ثلاثة كتب عن المفتاح الحركي، ولله الحمد. وهي: مدخل إلى ظلال القرآن، والمنهج الحركي في ظلال القرآن، وفي ظلال القرآن في الميزان.

وأخيراً ..

لا يسعني إلّا أن أشد على يد المؤلف، مباركاً وطالباً منه أن يفي بما وعد، وننتظر،

فتفرغه لدراسة سيد، وتخصصه بعالمه الوسيع، كفيلان بهدايته إلى جوانب أخرى لا

تقل ثراء ولا روعة عن هذه الجوانب التي وعاها فكتب بها ...، خاصة وأن الأستاذ

المشرف هو الدكتور أحمد فرحات، التلميذُ النجيب لسيد، والمعجَبُ به منذ يفاعته..،

ولعل جهود الرجليْن: الأستاذ والتلميذ، تقضي من نفوسنا حاجة ...، بل حاجات...، وتخدم الدعوة الإسلامية من خلال الحديث عن عبقري من رجالها ...، وعندئذٍ... نستطيع أن نطّْمئن إلى مسيرة الدعوة، وإلى أن أبناءها البررة آلوا على أنفسهم أن

ينتصفوا لمعلميهم، ويرفعوا الظلم الذي حاق بهم، وإلى لقاء قريب، في كتاب جديد،

والسلام على سيد في الخالدين.

16/11/1982

وسوم: العدد 967