من الهذيان الزعم بأن اللغة العربية لغة كتابة وليست لغة تخاطب وأن المغاربة لا يجيدونها مشافهة

صاحب هذا الزعم هو للسيد محمد بودهان ورد في مقال له نشره موقع هسبريس تحت عمود " كتاب وآراء " . وقبل التعقيب عليه  نثبت بعضا منه كما جاء في المقال وهو كالآتي :

(( إذا عرفنا طبيعة العربية وخصوصياتها، سنعرف أن التعريب قد يعطي كل شيء إلا أن يجعل المغاربة يجيدون الاستعمال الشفوي للعربية. لماذا؟ لأن العربية لغة فقدت وظيفة التخاطب الشفوي منذ قرون فأصبحت لغة للكتابة وقراءة المكتوب فقط، وليست لغة تداول شفوي. فهي بذلك، كما كتبت في مناقشات سابقة، لغة نصف حية أو نصف ميتة. ولأنها لا تُكتسب إلا بالتعلّم الكتابي وليس بالممارسة الشفوية، فإن المتحدّث بها، ومهما كان متضلّعا في أدبها ونحوها ومعجمها، لن يتمكّن من الحديث بها بتلقائية و”راحة”، لأن التحدّث بها ممارسة غير طبيعية، فيها غير قليل من التصنّع والقسر، بحكم أنها لغة كتابية لا وجدود لها في الحياة اليومية كلغة تداول وتخاطب. ولهذا نجد المغربي الذي يجيد الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو أية لغة حية أخرى، يستطيع التحدّث وإلقاء الخطب بها بتلقائية و”راحة” ودون أي ارتباك أو حرج. لماذا؟ لأن هذه اللغات، تستعمل، عكس العربية، في التخاطب اليومي في الحياة، فضلا عن استعمالها الكتابي مثل العربية)) .

ولا يخفى ما في هذا الكلام من تجنّ  واضح  ومكشوف على  اللغة العربية  خصوصا ، وعلى المغاربة عموما  . أما التجني على اللغة العربية فهو الزعم الباطل بأنها فقدت وظيفة التخاطب الشفوي منذ قرون ، وكأن صاحب هذا الزعم قد صاحبها لقرون ،وعرف أنها كانت على تلك الحال المزعومة من قبله خلال تلك القرون ، وهذا من قبيل إرسال الكلام على عواهنه كما يقال .

 ومن الزعم الباطل أيضا القول أنها  لغة نصف حية لأنها لغة كتابة فقط ، وهو ما يوحي بأن صاحب هذا الزعم يجعلها ضمن اللغات الغابرة التي لم تبق منها سوى نقوش على حجارة . ومن الغريب قوله أيضا أن المتحدث بها وإن كان ضليعا فيها لا يمكنه الحديث بها سليقة لأن الحديث بها غير طبيعي ومتصنع لكونها غائبة عن الحياة اليومية .

 وتوهما من صاحب هذا الزعم أنه أصاب الصواب زعم أن الإنسان المغربي إذا تحدث بما سماه لغة حية ، ومثّل لها بالإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية يفعل ذلك وهو مرتاح ودون ارتباك أو حرج لكون هذه اللغات تستعمل في التخاطب اليومي فضلا عن كونها مكتوبة أيضا كالعربية  .

وكل هذا كلام جلي التهافت، ذلك أنه لم يعد  في عالم اليوم خصوصا عند أهل الاختصاص باللغات من يقول بوجود لغات حية ، وأخرى ميتة ، أو بفضل لغة على أخرى في حد ذاتها بل يكون التفاضل بينها بقدر ما يبدع بها متكلموها.

ومن الجلي الذي لا يحتاج إلى دليل أو برهان أن كل لغة لها جانب منطوق ، وآخر مخطوط  إلا إذا تقاعس متكلموها عن اختيار خط ترسم به.

ومن التجني على  الإنسان المغربي الزعم أنه يواجه صعوبة في التحدث باللسان العربي الفصيح كما يتحدث بغيره مما سماه لغات حية ، وهي تسمية فيها ما فيها من ادعاء الحياة لها دون غيرها مع أن غيرها حي يرزق  أيضا على حد قول المغاربة ، والحقيقة أنها لغات استعمارية فرضت على الشعوب المستعمرة فرضا ، ولم يجدوا مندوحة عن التخاطب بها ضرورة واضطرارا لا بطولة .

والقول بأن الإنسان المغربي يجيد التخاطب بلغات هندوأوربية هو أمر يشهد به أصحاب تلك اللغات أنفسهم  ، وهو ما يعني امتلاكه مهارة اكتساب اللغات الأجنبية ، وهذا  يفند الزعم بعجزه عن التحدث بلغته الأم إلا إذا كان  منصرفا عن تعلمها أصلا أو حصّل منها القليل الذي لا يسعفه للحديث بها أو كان متعمدا عدم التحدث بها لحساسية وراءها ما وراءها من تعصب لغيرها .

ومعلوم أن التخاطب اليومي بلغة من اللغات مهما كانت لا يقتضي أن يكون محاكيا لما يبدع فيها من تعابير منزاحة على قول الأسلوبيين  .

 وقد نتفق مع السيد بودهان في مواجهة المتحدث باللغة العربية الفصحى عنتا إن هو انصرف عن لغة الحديث اليومي ، وتعلق باللغة الأدبية لأنه لا يمكن أن يكون له نفس طويل فيها  إلا إذا كان مبدعا متمرسا . ولقد سجل التاريخ أن ذلك أعجز حتى فحول الشعراء في الجاهلية  الذين كانوا يقضون حولا كاملا في تنقيح قصائدهم أو حولياتهم  كما هو الشأن  بالنسبة لشعراء ما يسمى بالمدرسة الأوسية نسبة للشاعر أوس بن حجر، ومنهم زهير بين أبي سلمى . ولا يوجد في البشر من يكون حديثه بلغته الأم بنفس وتيرة التعابير الأدبية أوالشعرية ، وهذا أمر ينسحب على كل الأعراق والأجناس ، ذلك أنه كما لم يكن كلام الشاعر الجاهلي  زهير اليومي  كله بأسلوب معلقته ، فلم يكن أيضا كلام الشاعر الانجليزي شيكسبير اليومي كله بأسلوب قصائده .

وكل من حاول أن يجعل حديثه اليومي بلغته محاكيا ما يصاغ بها من أساليب  إبداعيه  يكون متكلفا بيّن التكلف ، ولا يحمد على ذلك بل يذم ، وربما عرض نفسه لسخرية الساخرين  .

ومن الناس من ينزل نفسه منزلة سلم " ريختر " الذي يقيس الهزات الأرضية حيث ينطلق من تجربته الشخصية في أمر من الأمور ثم يعممها على الناس كأن يجد على سبيل المثال  صعوبة في التحدث باللغة العربية  سليقة مرسلا نفسه على سجيتها ،فيعمّم ذلك على غيره، ويصير بذلك سلما به يكون القياس .

ومنهم من يحاول محاكاة "الكوجيطو" الديكارتي  بكوجيطو خاص به بحيث يكون ما لا يدخل ضمن معرفته  أو ما لا يقدر عليه أو ما لا يجيده أو ما لا يتقنه  غير موجود أو في حكم المستحيل  ، ولسان حاله على الطريقة الديكارتية : " لا أعرف الشيء أو لا أجيده أو لا أتقنه  إذن هو غير موجود أو غير ممكن  " .

ويأتي السيد بودهان ببائقة حين يفصل بين اللغة العربية وعاميتها ، ويجعل هذه الأخيرة سليلة الأمازيغية  على حد زعمه ، وهو زعم مثير للسخرية  ، وهو به  قد نسب نسلا لذي عقم على حد قول الشاعر البوصيري في بردته ، علما بأنه لا يمكن التمييز بين العربية وعاميتها التي هي من بناتها ، وليس بين الأم  وبناتها من اختلاف سوى كون مستعمل العامية ينحو نحو نطق الألفاظ العربية الفصيحة بشيء من اللحن يجد فيه سهولة ويسر حيث يستغني عن الحركات الإعرابية ضمة وفتحة كسرة بالإكثار من حركة السكون ، فيعدل على سبيل المثال لا الحصر عن نطق كلمة " جاءوا "  بنطق كلمة " جاو" .

ويفهم من دعوة السيد بودهان  المغاربة إلى استعمال العامية والأمازيغية في خطابهم اللتين يجيدونهما و يتحدثون بهما بطلاقة عوض الفصحى التي تنعقد ألسنتهم بها أنه يروم بذلك إصابة عصفورين بحجر كما يقال أما عصفوره الأول فهو الدعاية المتعصبة للأمازيغية ، كما هو معروف عنه  دائما ، وأما عصفوره الثاني، فهو الرغبة في تعطيل الفصحى كغيره من دعاة استبدالها بالعامية لحاجة في نفس يعقوب لم تعد خافية على أحد . وقد كشف السيد بودهان عن قصده حين اتهم المغاربة بأنهم يعانون من عقدة تقليد عرب المشرق ، واعتبر ذلك ضربا لهويتهم التي هي عنده أمازيغية فقط ، وهو من الذين يعتبرون عروبة المغرب أمرا طارئا عليه بدافع تعصب المغاربة في غنى عنه ،لأنهم يدركون أن هويتهم عبر قرون كانت ذات بعدين عربي وأمازيغي لا ينفكان عن بعضهما حتى تقوم الساعة ويبعث الناس .

وأخيرا نقول إن عقدة السيد بودهان العرقية واللسانية هي التي جعلته يعتقد بوجود عقدة لسان المغاربة  حين يتحدثون بالفصحى ، وما لديهم من عقدة بل هو مجرد توهم منه معروف سببه زائل عجبه .  

وسوم: العدد 968