تغيير شكل... "محلا زمانو" حلب وعشق الزهور

في حلب العتيقة، والعتيقة أحب إلي من القديمة، لأن ربنا سبحانه وتعالى وصف بيته في بالعتيق، أقول في حلب العتيقة التي نشأت فيها لم نعهد محلات لبيع الزهور...!!

وكنا إذا صرنا إلى مناطق العزيزية وما يليها نلمح بعض المحال القليلة المختصة ببيع الزهور..فلا يخطر ببالنا أننا قد نشتري طاقة زهر. وكنا في لغتنا الدارجة نستعمل كلمة "باقة" مكان طاقة، ثم لما تعلمنا العربية في المعاجم، عرفنا أنه يقال: باقة للبقول الفجل والسلق والسبانخ والجزر والبقدونس والرشاد ونحوها.... ولم أر الرشاد في غير بلدي قط، !! ونقول طاقة في الأزهار والرياحين..

وكنا إذا مررنا بجنازة للنصارى نلمح في مقدماتها وعلى ظهر التابوت الذي تجره العربات طاقات أو أكاليل من الزهور والأعشاب المنسقة بطريقة خاصة.

وتعلمنا في المدرسة في حديث "النمام والذي لا يستبرئ من بوله"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنهما ليعذبان، ودعا بجريدة من نخل، فشقها نصفين، فوضع كل شق على قبر المعذَبين وقال عسى أن تخفف عنهما ما لم ييبسا. ويفيد الحديث: أن الغصن الأخضر على قبر الميت، موضعُ رجاء لتخفيف العذاب. وعليه ظل الناس في بيئتنا يحملون الأغصان والوردو إلى قبور أحبائهم، أو يزرعونها هناك...

وقولي إننا في حلب العتيقة لم نعرف بيع الزهور ، لا يعني أن علاقة أهل حلب مع الزهور كانت سلبية، والزهور من أجمل ما أبدع الله في سياق مخلوقاته. وهي على اختلاف ألوانها بالنسبة إلينا صورة للجمال المجرد في أبهى صوره. لا أذكر أنني رأيت في حياتي زهرة قبيحة. بديع السموات والأرض ربنا؛ بل كانت "الحوش" الحلبية تضج على مداراتها بآنية الزرع. وإذا شئتم قولوا تنكات الزرع. والتنكة وعاء معدني يستخدم أولا لحفظ الزيت ونحوه، ثم يدّور فيستخدم كآنية لأنواع الزهور...

في حلب ولا أستطيع أن أقول وحدها، وإنما أذكرها لأنني عشت فيها، تنشط في مثل هذه الأيام تجارة تربة خاصة. نسميها، التراب الأحمر. حيث يدور الباعة على العربيات التي يجرها البغال، ونسميها بالحلبي- التك أو الطنبر- ببيع التراب الأحمر في الأزقة والحارات. مشتاق أن أسمع نغمة "تراااااااب أحممممر" وتبادر سيدات البيوت إلى شراء التراب الجديد، لتغير تراب تنكات الزهور المدللة في البيت كما الأطفال.

ففي هذا الموسم يتم تغيير التنكة التالفة بجديدة، ويرمى التراب القديم ويستبدل به تراب جديد آت من الحقل ليساعد النبتة على استمداد غذاء جديد. من أين كان باعة التراب الأحمر يملؤون عرباتهم بهذا التراب الغضاري الثري؟؟ لا أعلم. حكاية إضافية على الهامش. وكان بعض هؤلاء يبيعون في حلب ترابا يسمونه "تراب الهُلّك" وهو نوع من التراب الأصفر كانت بعض الأمهات يفضلن وضعه في حفاظ الطفل الرضيع، ليمتص البلل ويقي الطفل من الحساسية. وطبعا هناك البيلون أو التربة الحلبية، الذي كان حسب الأصول الحلبية يستخدم بعد الصابون ليقي الشعر من بقايا الترسبات الكيماوية التي يتركها الصابون وإن كان غارا فالتصبن عملية كيمائية محضة. وقرأت أحدهم اليوم يسخر من "البيلون" بعد أن صار في عالم الشامبو . عن نفسي لا أزال أستخدام الصابون الغار. ولا أثق بأي نوع من أنواع الشامبو. ولكن بعد عهدي بالبيلون، الذي كانت بعض النسوة، ورأيتهن كثيرا، يتوحمن عليه، ويقرطنه أيام الحمل!! قرأت عندما كبرت أن ذلك كان يحدث نتيجة لسوء التغذية ونقص بعض المعادن والأملاح من أجسادهن، ولله في خلقه شؤون..

أعود إلى حكايتنا مع "الزهور والورود" ففي مثل هذه الأيام كنت تجد في حوش كل حلبي تقريبا عرس، باستبدال تنك الزرع وأحواضه وترابه...

قلت في حلب العتيقة لم نكن نعرف محلات بيع الزهور، ولكن هذا لا يعني أننا لم نكن نعرف لغة الزهور في الهدايا، وماذا يُهدى للمريض ، وماذا يُهدى للحبيب!! بل كان لكل هذا عند النساء في حلب ديوان محفوظ، وقانون مسطور، ولكن الهدية كانت تكون دائما من جنى البيت، ومن حديقته، وكانت المرسلة تتفنن في تشكيل طاقة زهرها كما لم يفعل أي "بياع ورد"

كنا ونحن أطفال في حلب "صبيانا وبنات" نتربى على احترام أساتذتنا ، معلمين ومعلمات، وكان من الطبيعي جدا أن يبادر أحدنا بالاستئذان من أمه أن يحمل معه وردة أو طاقة ورد صغيرة إلى مدرسته، فيقدمها عند الصباح للمعلم أو المعلمة. كان هذا أدبا مكرورا بحيث لا تكاد تخلو طاولة معلم أومعلمة عند الصباح من طاقة ورد يقدمها تلميذ أو تلميذة. ونتساءل من أين جاءنا هذا الطفح؟؟

للحلبيات والحلبيين ولع خاص بأنواع الزهور، فالياسمين الأبيض والبحري "الذي يسميه بعضهم العسلة" يفضل أن يغرس في الأرض، وأن يسمح له أن يعرّش عاليا على الجدران، وأن يُطل من خلف الستارة - الحائط الذي يفصل بين الجار والجار - على بيت الجيران فيسامرهم بنوْره ورائحته. ثم الورود بأنواعها وألوانها. ومهما تسأل فلن يخلو بيت حلبي من شجرات الفل. وأنواع الزنبق. وتنكات الثمر حناء "تمر حنة" ويسمى زهرها الناعم المنتظم مثل العنقود "شموط" وأنواع الرياحين وتعريشة "زهر الهوا" الخفيف الرهيف الذي يفضل أن يوضع في النوافذ داخل الغرف، ويترك لأوراقه الناعمة أن تتحول إلى شبه ستارة خفيفة. ومهما نسيت لن أنسى ما كنا نسميه "أبو تم" أحمره وأبيضه، وكم كان يسلينا ونحن صغار "أبو تم فتح تمو وسكّر تمو" وقد بحثت طويلا عن اسمه العلمي فلم أظفر. ومهما نسيت فلن أنسى زهرة في تنكتين عندنا واحدة زهرتها بيضاء والأخرى حمراء، كان اسمها زهر الغريب لا تعجبوا إن تذكرها الغريب!!!!!

أكتب كل ذلك لأقول لكم أننا في حلب لم نكن نبيع الزهور، إلا في هذا الموسم، حيث تملأ باقات النرجس "محلى زمانو" أيادي البائعين في حلب. حتى تحول اسم الزهر نفسه "إلى ما احلى زمانو" بنوعيه المفرد والمضعف...ويغني الحلبي للحلبية:

قومي اشكلي عرق المضعف            

وأنا على شانك عبضعف

ولو حلفوني على المصحف.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 970