أوكرانيا بعد سوريا: بدائع لافروف والقادم أعظم (لافروف يحذّر من قيام دولة سُنّية في سوريا)

رغم أنه ليس، البتة، بدراً يُفتقد في الليلة الظلماء، لأنه ببساطة ليس صوت سيّده بل مجرد واحد من ظلاله الكثيرة؛ فإن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف احتل أعمدة صحف كبرى واجتذب العدسات والشاشات بعد ساعات قليلة أعقبت قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا، على سبيل تفريغها من محتوى الدولة، وتقسيمها إلى كيانات انفصالية، وتحويلها إلى نسخة ثانية من بيلاروسيا، تمهيداً لإلحاقها بمدارات النفوذ الروسي. إطلالة لافروف الأولى، الأكثر دراماتيكية، كانت تلميحه إلى أن الحرب العالمية الثالثة لن تكون إلا نووية، ثم تخفيف التصريح عن طريق التأكيد بأن موسكو لا تنوي إطلاق حرب نووية في العالم. مناسبة لاحقة كانت اجتماع لافروف مع نظيرته البريطانية إليزابيث تراس في موسكو، حين غادر المؤتمر الصحافي قبلها، وصرّح أن ما جرى كان أشبه بحوار أبكم مع أصم.

وتمرّ هذه الأيام الذكرى الـ11 للانتفاضة الشعبية في سوريا، الأمر الذي يستحث على العودة إلى واحدة من تُحَف لافروف في “تحليل” المخاطر التي سوف تحيق بالبلد إذا سقط نظام آل الأسد. غير أن العودة إلى تلك التحفة قد لا تستقيم دون استذكار الحقيقة التي تقول إن 50 سنة انصرمت اليوم على انضمام لافروف إلى الجهاز الدبلوماسي السوفييتي، ثم الروسي؛ وإنه، إلى هذا، يشغل منصب وزير الخارجية منذ سنة 2004، مما يجعله ثاني أطول وزير خارجية إقامة في المنصب بعد أندريه غروميكو. يتوجب، والحال هذه، أن يكون عليماً واسع الاطلاع مخضرماً في دقائق الملفات، خاصة وأنه يعتبر الصفة الأولى المثلى في الدبلوماسي هي أن يكون مثقفاً جيد الإلمام بالتاريخ وقادراً على فهم “سيكولوجية” الجالسين أمامه على طاولة المفاوضات.

ومنذ التدخل العسكري الروسي في سوريا، لإنقاذ بشار الأسد من السقوط حسب تعبير لافروف نفسه، لاح أن الأسابيع والشهور واللقاءات والمناسبات لا تؤكد خلاصة دبلوماسية روسية بمقدار تأكيدها أن لافروف يملك من المعلومات عن النظام السوري أكثر بكثير مما يعرف عن سوريا ذاتها، البلد والشعب والتاريخ؛ وعلى صعيد مسائل ذات حساسية سياسية واجتماعية عالية، مثل حال الطوائف والأقليات، وفارق ألا تكون أقلية إثنية ما، أقلية دينية أو مذهبية أو طائفية بالضرورة التبسيطية الاختزالية. فكيف والرجل هو الدبلوماسي الأول للقوة الكونية العظمى الثانية، وقد عاصر الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، وفي متناوله أرشيفات سياسية واستخباراتية وأكاديمية تخص بلدان الشرق الأوسط عموماً، والأنظمة التي حكمتها أو ما تزال تحكمها سلطات صديقة للكرملين.

وأمّا تحفة لافروف السورية فقد كانت التصريح التالي الذي أدلى به لإذاعة “كوميرسانت إف إم” الروسية: “فى حال انهار النظام القائم في سوريا، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة لإقامة نظام سنّي في البلد”؛ وهذا إن حدث تطور مثير للقلق، لأنه سوف “يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذي قد يمتد إلى لبنان والعراق”! يصعب، من باب حسن الظن في الأجهزة السوفييتية/ الروسية، أن يكون ناصح أريب قد حشر في دماغ لافروف فكرة أن الأكراد أقلية طائفية، على سبيل التحفة الأولى. وإذا كان هؤلاء، والحديث يخص أكراد سوريا تحديداً، ينتمون إلى السنّة في غالبية ساحقة، فكيف يمكن أن تهددهم “دولة سنّية”، أو تؤثر على مصيرهم؟ وهل ثمة أي معنى ملموس، أصلاً، وراء هذا التعبير، الخاطئ والقاصر والركيك والغبي؟

وإذا كانت “دولة سنّية” هي الشبح الوشيك الذي تريد موسكو تفاديه، فما هي إذن تسمية “الدولة” الراهنة التي تساندها الحكومة الروسية وتريد الإبقاء عليها وإنقاذ مجرم الحرب الذي يحكمها بالحديد والنار والبراميل؟ وكيف فات لافروف أن السنّة في سوريا يشكلون قرابة 70 في المئة من السكان العرب، وقرابة 8 في المئة من السكان الأكراد، وبالتالي فإنهم ليسوا “طائفة” هنا (كما هي حالهم في العراق أو في إيران، مثلاً)، لأنهم ببساطة أغلبية الشعب الساحقة؛ ولا يصح توصيف ميول الأغلبية استناداً إلى المعايير ذاتها التي يخضع لها سلوك الأفراد، أو المجموعات المصغرة؟ وكيف تعذّر على خبراء وزارة الخارجية الروسية، إذ لا حاجة في هذا إلى علماء اجتماع من العيار الثقيل، أن يشرحوا للسيد الوزير تلك الحقيقة البسيطة التي تقول إن التطلع إلى الحرية والكرامة والمستقبل الأفضل ليس موضوع اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو هدف الإجماع الأعرض اليوم، مثلما كان محل اتفاق وتراضٍ في الماضي أيضاً؟

ما لا يقلّ أهمية، في المقابل، هو أن نظام آل الأسد ليس وليد طائفة واحدة منفردة، حتى إذا كانت إحدى ركائزه تقوم على تجييش محموم ومنهجي ومنظّم لطائفة بعينها، والإيحاء بتمثيلها، وتعهد مصيرها، وتخويفها بالاندثار إذا سقط النظام. كذلك فإن هذا النظام ليس له دين واحد، مهما أتقن رجاله ألعاب التمسح بالأديان أو التزلف للمتدينين، وخاصة في أوساط السنّة… للمفارقة، غير المدهشة أبداً. وكما قلنا، ونقول دون كلل: لن يدافع أنصار النظام عن بقائه لأسباب دينية أو طائفية، بصرف النظر عن توفر أنساق متباينة من الولاء العصبوي؛ بل ستحركهم أسباب أخرى أدنى إلى الأرض منها إلى السماء، على رأسها امتيازات السلطة، ومنابع النهب والفساد، والهروب إلى الأمام من ساعة الحساب العسير حين تنقلب سوريا من مزرعة إلى دولة حق وقانون.

وإذ يُوضع منوال كهذا في الاعتبار، فلن يكون عجيباً إذا اتضح أن ناصحي لافروف في حكاية الترهيب من مجيء “دولة سنّية”، هم أنفسهم الذين نصحوا الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف باختيار صحيفة “الوطن” السورية الخاصة، وليس أي صحيفة أخرى حكومية مثل “البعث” أو “الثورة” أو “تشرين”، لتوجيه رسالة إلى الشعب السوري، عندما زار دمشق في أيار (مايو)، سنة 2010. إذ كيف للناصح، كائناً من كان، أن يجهل أن الصحيفة المحظوظة أطلقها ويملكها رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وأشد رجال الأعمال السوريين فساداً وإفساداً ونفوذاً وهيمنة وسطوة وسيطرة على ميادين المال والاستثمار والتجارة والاتصالات؟ وإذا كان يعرف، كما يعرف أيّ ذي بصر وبصيرة، فإن نصح رئيسه أن ينتقي هذه المطبوعة بالذات لم يكن عشوائياً ولا بريئاً، وكان إرسال إشارات ذات مضامين سياسية واقتصادية هو القصد؛ ليس دون الكثير من المغزى الإيديولوجي، في تفضيل القطاع الخاص على الحكومي، وإطراء مافيات المال والأعمال.

أوكرانيا ليست سوريا بالطبع، وما يتسامح فيه سيّد الكرملين مع ظله الدبلوماسي لافروف حول إتحاف البشرية بالمخاوف من “دولة سنّية” تارة، أو عقد جلسات تحضير الأرواح مع “منصات” المعارضة السورية في موسكو أو سوشي أو أستانا؛ ليس خاضعاً للدرجات ذاتها من التسامح بصدد شطحات لافروف حول نووية الحرب العالمية الثانية أو حوارات الصم والبكم. اللافت أكثر، بل هو الأطرف أيضاً، أن يقع بوتين نفسه في حيص بيص لا يقلّ انزلاقاً إلى الخطل من حماقات خبرائه العسكريين أو ناصحيه الدبلوماسيين. هكذا تبدو الحال اليوم، فيتناهى إلى أسماع العالم الخارجي تصريح من ديمتري بيسكوف سكرتير بوتين الصحافي، أو تصريح آخر من لافروف نفسه؛ لكن يندر أن يتحدث وزير الدفاع سيرغي شويغو، أو رئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف؛ ليس بوحي من الانضباط العسكري والتحفظ الأمني، بل لأن إرادة سيّد الكرملين نفسه تتقلّب بين الحيرة والتسرع ورد الفعل والإحباط والتخبط والسوداوية…

وههنا تحديداً، هيهات أن تنفع بدائع لافروف!

وسوم: العدد 973