البَرْد في بيروت

كان الثلج يغطي الشوارع والأرصفة في نيويورك، والحرارة حوالي 5 تحت الصفر، وكان عليّ أن أمشي محاذراً الانزلاق.

الرياح الباردة تصفع وجهي وعينيّ، كنت شبه عاجز عن الرؤية، لكنني بدلاً من أعود إلى البيت تابعت سيري الحذر، لأنني كنت مضطراً للذهاب إلى الجامعة، فعليّ أن أتابع إلقاء محاضراتي التي كان عنوانها «شعرية المتنبي».

وصلت منهكاً وأنا أشعر بالاختناق. لم أتوقع أن أجد الطالبات والطلاب في قاعة التدريس، لكنهم كانوا جميعاً هناك.

خلعت معطفي الثقيل وقبعتي، وتنفست الدفء. كم كان التناقض صارخاً بين دفء الداخل، والبرد الذي احتلّ عظامي في الخارج. فتحت دفاتري، وبدل أن أبدأ بمقدمة عن لامية المتنبي «ما لنا كلنا جوٍ يا رسولُ»، سألت الطلاب عن شعورهم في هذا المناخ الجليدي الذي يغطي المدينة. وفوجئت بأنهم أجابوا بلا مبالاة، وقال أحدهم إنه اعتاد على طقس المدينة البارد شتاء والحار صيفاً، ولا جديد في الموضوع.

قرأت لهم بيتي شعر للمتنبي في وصف ثلوج لبنان:

«وجبال لبنان وكيف بقطعها/ وهو الشتاء وصيفهن شتاءُ/ لبس الثلوجُ بها عليَّ مسالكي/ فكأنها ببياضها سوداءُ».

وقلت إن المتنبي مرّ بمدينة بعلبك، وحين رأى ثلوج لبنان، تفتقت عبقريته الشعرية عن هذا الطباق المدهش، الذي حوّل بياض الثلج إلى سواد العماء، والصيف إلى شتاء.

لكنني بدلاً من أن أتابع تحليل البيتين بما يحملانه من جماليات أسلوبية نجحتْ في إعادة صوغ المشهد الطبيعي في المعاني التي تعطي الكلمات دلالات جديدة، رويتُ لهم أنني وأنا أعبر ساحة «واشنطن سكوير» في طريقي إلى الجامعة، شعرت بأنني أعبر في الجحيم. قلت إن السؤال الذي خطر في بالي هو أن تصورنا عن الجحيم بأنه نار لا ينطفئ أُوراها، قد يعود إلى أن الحضارة بدأت في الشرق الأوسط، في مصر والعراق، أي في منطقة شديدة الحرارة. فالجحيم كان يمكن له أن يتخذ دلالات أخرى لو جرى تخيّله في مناطق باردة، فالصورة السائدة عن الجحيم بصفته ناراً قد تنقلب رأساً على عقب.

لماذا لا يكون الجحيم بارداً؟

تعالوا نتخيّل جحيماً ثلجياً، فصورة الثلج لا تختلف في وحشيتها عن صورة النار المستعرة.

وتذكرت إشارة واردة في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن الرسول أنه قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يارب! أكل بعضي بعضاً. فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير».

احتمال الجحيم الجليدي وارد إذاً، لكن هذا لم يغيّر من الصورة التي جعلت من النار تجسيداً للجحيم. بدأت تأملاتي حول الموضوع خارج أي سياق، فهي لم تكن سوى ردة فعل مباشرة على لحظة بدت لي دهراً من البرد.

ولم أكتشف دلالات ما قلته منذ سنوات طويلة، إلا اليوم في بيروت.

أقول اليوم وأنا أعني فصل الشتاء البيروتي الطويل، الذي كشف لنا أننا نعيش في جحيم البرد.

هل تصدقون، أن بيروت ومعها جميع المدن والقرى اللبنانية تعيش في الجحيم، وأننا نختنق برداً في بيوتنا.

هذا الكلام هو نقيض للصورة النمطية التي تغنى بها اللبنانيون طويلاً عن اعتدال المناخ في بلادهم، وعن جماليات ثلج صنين الذي يشرف بياضه على شمس البحر.

المناخ لم يتغير كثيراً، لكن نحن تغيرنا، لقد وقع الواقع على رؤوسنا وجعلنا عاجزين، نجلس في زوايا البيوت ونشحذ لحظات من الدفء قد لا تأتي أبداً.

كيف يتدفأ الناس وهم يعيشون بلا كهرباء وتحت رحمة المولدات التي لا ترحم أحداً؟ كيف يشعلون المدفأة وسعر صفيحة المازوت يحلّق بلا حدود؟

لا أريد الدخول في دهاليز الواقع السياسي، لأنني أشعر بمزيج من الملل والقرف. لم يعد التكرار مجدياً، وصار الكلام كله عبارة عن كتل صماء.

السلاح الأخير الذي أشهرته العصابة اللبنانية الحاكمة هو سلاح البرد. بعد كل ما فعلته وافتعلته بنا، فهي تريد منا أن ننام نومة الدببة القطبية.

تذكرت قصيدة أحمد فؤاد نجم عن غيفارا التي غناها الشيخ امام. فحين أراد الشاعر أن يصف اللصوص ورجال السلطة قال: «يا دفيانين ومولعين الدفايات»!

هؤلاء «الدفيانين»، لا يبالون. بلى، لقد عادوا إلى ألعابهم القذرة، تركوا الناس فريسة للفقر والمهانة، وها هم اليوم يصفّون حساباتهم الصغيرة. يتلاعبون بالقضاء، يستدعون أهل ضحايا المرفأ إلى التحقيق، يهوّلون بإفلاس شامل، ويدمرون ما تبقى من فكرة الوطن.

وغداً عندما سيطل الربيع، فالربيع يأتي دائماً في موعده، سوف يجد اللبنانيات واللبنانيون أنفسهم أمام الانتخابات النيابية، هذا إذا جرت. فأطراف السلطة تريد تحويل الانتخابات إلى سيرك.

انتخابات لا يخترق ألاعيبها الطائفية سوى مجموعات شبابية تجد نفسها محاصرة ببهلوانات الطائفيين وسارقي أموال الناس.

لقد تم تحويل الشعب اللبناني من شعب محاصر بالجوع والخوف إلى شعب يفترسه برد قاتل فقد الناس القدرة على مواجهته.

نحن ننتمي إلى ثقافة تمجد المطر وتنتظره. كتب السياب رائعته في مديح المطر جاعلاً من إيقاع الماء مدخلاً لقراءة شاملة لعلاقة الأسطورة بالحاضر، فلماذا وصلنا إلى هذا الحضيض؟

هل صار على اللبنانيات واللبنانيين أن يخافوا من المطر أيضاً؟ يبدو أنه لم يبق من لبنان الشاعر، كما كتبه صلاح لبكي متغنياً بالرومانسية والرمزية اللتين جعلتا من لبنان موطنًا للشعر، سوى هذه الأبيات:

«وحدي أنا يا رب وحدي/ نشوان من سأمٍ وزهدِ/ وحدي ولو أن الربيع مصفقٌ والنور يهدي/ أنا والشتاء أسومه ويسومني برداً ببردِ».

صلاح لبكي مدح السأم، ونحن نستعيد أبياته كي نمدح السيرك وهذا المسرح الهزلي اللبناني الذي لا يُضحك المشاهدين بل يقتلهم.

وسوم: العدد 973