أحوال البشر مع الشعر

جرت العادة كل سنة عند حلول الواحد والعشرين من شهر مارس أن يحتفى بيوم عالمي للشعر منذ اتخاذ اليونيسكو هذا القرار خلال انعقاد مؤتمره العام  بباريس  سنة 1999 ، وهو يوم يصادف حلول فصل الربيع بما له من دلالات عند  مختلف شعوب المعمور .

ومما يجري مجرى المثل في ثقافتنا العربية  أن الإنسان شاعر بطبعه ، وذلك لاعتبار الشعر تعبيرا عن المشاعر البشرية ، ويبقى الاختلاف بين الناس في الشاعرية هو طرق وأساليب تعبيرهم عما تجيش به نفوسهم من مشاعر مختلفة حسب ظروفهم وأحوالهم . ولقد قال بعضهم أن أول شاعر في تاريخ البشرية هو ابن آدم قابيل الذي امتدت يده إلى أخيه هابيل بالفتل ، وقد ندم على فعلته ، وبكاه ، ورثاه بشعر . وهذه الحكاية تؤكد ارتباط الشعر بالمشاعر البشرية خصوصا حينما يسيطر الحزن على النفوس ، ولهذا يرى البعض أن أول أغراض الشعر فن الرثاء ، ولا زال  وسيبقى كذلك إلى نهاية العالم ما دامت عاطفة الحزن قدر الإنسان الملازم له ملازمة ظله له .

والشعر ما من أمة من الأمم إلا ورمت فيه بسهم وإن اختلفت حظوظها منه إلا أنها جميعها تفخر برصيدها منه ، وتعتبره فوق أرصدة غيرها ، والحقيقة أنها متساوية في ذلك تماما كما أنها متساوية في مشاعرها الإنسانية إذ لا يوجد مثلا  تفوق أمة على أخرى في حزنها ، ولكل واحدة طريقة وأسلوب تعبيرها عنه، وهو أمر محكوم بما تعتقده  من معتقدات . ومع تساوي الأمم في حظها من الشعر ، فإن بعضها يصر على التفوق فيه على غيره ، وذلك بدافع التعصب  المتأصل في بني آدم.

 و أمة العرب كغيرها من أمم الأرض لازمها الشعر الذي وجد في لسانها المبين مركبه المطواع، فجادت قرائحها بأجود الأشعار التي فتنت بها إلى درجة تدوينها بذهب وتعليقها على أستار الكعبة المشرفة زمن الجاهلية  . ومن ولعها بالشعر الذي كان يلازمها في حلها وترحالها أنها خصصت له يوما خاصا  تجتمع فيه لاستنشاده وإنشاده ،ولها بذلك قصب السبق في الاحتفاء به قبل أن تفكر اليونسكو في تخصيص يوم عالمي للاحتفاء به . ولا شك أن أمما أخرى كان لها هذا التقليد كأمة اليونان على سبيل الذكر لا الحصر . ولقد كان أشهر الشعراء العرب كالنابغة الذبياني يحكّم في أشعار الشعراء ممن ترشحهم قبائلهم ، ومن أجازه منهم كان فخر قبيلته ،علما بأنها كانت تحتفي به إذا نبغ فيها ، وتعتبره لسانها الذي ينشر مفاخرها  ويذود عنها بلسانه الذي لا يقل باسه عن بأس السيف والرمح والقوس.

وليس من قبيل الصدف أن ينزّل القرآن الكريم، وهو آخر الرسائل السماوية للبشرية قاطبة  إلى قيام الساعة في أمة العرب التي كان الشعر أصح علم عندها كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه . ومعلوم أن هذه الرسالة هي معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحدى بها  العرب أهل الشعر والبلاغة والفصاحة . والشعر العربي ديوان واحد  قبل البعثة النبوية إلى عصرنا هذا إلا أن الأمة العربية ابتليت ببلاء ما يسمى بالاستشراق الذي كان مقدمة الاحتلال  العسكري الغربي البغيض للوطن العربي، وقد قطع  بمكر وخبث الآصرة التي كانت تربطه بآخر خلافة إسلامية . وقد انكب  هذا  الاستشراق على تراثنا العربي الفكري والعلمي والأدبي ، وكان ظاهر انكبابه عليه تحقيقه ودراسته  ، وباطنه استغلاله لتكريس غزو فكري مواز لغزو عسكري ، وكان له ما أراد ، وقد أثر في العديد من مفكري العرب الذين خلفوه أو نابوا عنه  في مؤامرة  الدس على تراثنا ما هو منه براء ، ونشأت في الوطن العربي فئة من المستغربين أو المستلبين بالفكر الاستشراقي والذين عملوا على زرع فكرة تشكيك العرب  في تراثهم ، وازدرائه مقابل تقديس كل وافد من الغرب .

ومما ابتدعه الاستشراق الغربي تقسيم الشعر العربي إلى عصور ، ونسبته إلى فترات تاريخية جاهلية، وأموية ،وعباسية ،وأندلسية ، وفترة إمارات ومماليك  ،وفترة نهضة ... فرفع من تراث شعري  معين أراد نشر قيمه كشعر الجاهلية وغيرها ، وحط من شأن آخر لطمس قيمه التي يعاديها ، وقد نعت  على سبيل المثال  فترة ازدهار الشعر الذي تغنى فيه الشعراء  بالقيم الإسلامية من خلال المديح النبوي بفترة الانحطاط  كما ذكر ذلك العلامة والشاعر السوداني   الأستاذ عبد الله الطيب المجذوب رحمه الله تعالى .

ومعلوم أن ديوان الشعر العربي لا يمكن تقسيمه  حسب فترات تاريخية كما زعم المستشرقون ، وتابعهم في ذلك  من تابعهم من المنبهرين بهم أو ممن سلكوا طرقهم وأساليبهم دون انبهار بهم  بل هو ديوان واحد فتحت دفته  في الزمن الأول في الجاهلية  ، ولن تغلق حتى يرث الله الأرض ومن عليها لأن لغته واحدة ، وهي اللغة التي قال شاعر النيل حافظ إبراهيم على لسانها :

وهي التي  وسعت أيضا ما جادت به قرائح شعرائها ، وما ضاقت بذلك ، ولا زالت بحرا لا ساحل له لكل ناهل يرده ، ويكفي أن ينطق بها الإنسان ليكون شاعرا ،لأنها شاعرية بألفاظها ،وتراكيبها ، وتعابيرها ،وموسيقاها .

والشعر عموما مهما كانت لغته يعبر عما تزخر به النفس من عواطف ، وما يجول بالذهن من خيال ، وما تطرب له الأذن من إيقاع ، وما يرومه العقل من فكر ، وما ترومه النفس من قيم . وقد عبر معظم من عرّفوا الشعر بمثل هذا وإن اختلفوا في تغليب جانب من هذه الجوانب على غيره  حسب اختلاف الأذواق .

ومما تواضع عليه العرب في تذوقهم للشعر ما أثر عنهم من مثل قولهم أحسن بيت شعري  قالته العرب ، أو أجوده أو أصدقه أو أشجعه أو أعفه أو أكذبه  ... إلى غير ذلك من النعوت. و حال البشر في تذوقهم للشعر أنهم مختلفون  في ذلك باختلاف أذواقهم  كحالهم تماما في تذوقهم مختلف الفنون الجميلة أو تذوقهم ما يشتهون من طعام وشراب ولباس وزينة، وقد خلقهم الله تعالى على هذه الطبيعة .

ولقد جعلوا الشعر مركبا يركبونه للتعبير عما يجيش في نفوسهم، وتكنه صدورهم أو يخطر ببالهم، فمنهم من قصر الشعر على عاطفة الحب دون سواها ، ومنهم من جعله خاصا بالمأتم  والحزن ، ومنهم من استعمله للحرب أو الحماسة ، ومنهم جعله للفخر ، ومنهم من تكسّب به وارتزق ... ومنهم من تعبد به فجعله ثناء على الله تعالى ومدحا يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من ألبسه لبوس التصوف أو التفلسف ، ومنهم من سخره للسباب والقدح والقذف والهجاء، ومنهم من سخره للتأريخ ، ومنهم من وظفه للعلم والتعليم والتعلم  ...  إلى غير ذلك مما سمي أغراضا شعرية . وليس هذا الأمر خاصا بالعرب وحدهم  بل  هو شأن البشرية كلها على اختلاف ألسنتها .

والشعر مضمار تنافس بين من يتعاطونه  من الشعراء ، وهو أمر قد يفضي إلى عداوات وخصومات ، فيسخر الشعر للتعبير عنها ،وهو ما يعرف بغرض الهجاء الذي يخالطه الفخر . ومن الشعراء من لا يرى سوى نفسه شاعرا ، وغيره دونه شاعرية . ومنهم من يرى نفسه فوق البشر درجة  بشاعريته ، ويطرب إذا استنشدوه شعره ، ويسره أن ينوه به في المحافل ويصفق له ، ويزكى ويعطى الهدايا والشواهد التقديرية والميداليات ... وهو ما صار في زمامنا هذا  عادة في اليوم العالمي للشعر ، وهو يوم أريد به نشر السلام والأمن والمحبة بين بني البشر عن طريق هذا الفن الجميل إلا أن البشر مع شديد الأسف والحسرة لا زالوا يسفكون دماء بعضهم البعض ، ويمقت بعضهم بعضا وهم ينشدون الأشعار المهذبة للنفوس ، ويستنشدونها دون أن تهذب من طباعهم العدوانية .