الإنسان بين فجر حياته وغروب شمسه

مِن كتابي المخطوط ( طاقة مِن النّثر )

إنّ الحياة لعدوٌ حثيث إلى الموت , وإنّه لعدوٌ سريع دائب, فما إن ينبلج الفجر حتّى يقبل الظّلام , وما إن يتبسم الرّبيع حتّى يأتي الخريف ,فيعرّي الطبيعةَ من زينتها , وهكذا فإن رحى الأيام تدور , والإنسان كالحَبّ تحت عجلتها , وليس أحدٌ بناج من نواميس الحياة , فالإنسان يبدأ طفلا , ثم يكون شابّاً , ثم كهلا , ثم شيخاً , ثم يطويه الفناء !!

والإنسان في حال نشأته ودور طفولته تراه ينعم بالحنان , ويزكو بالحُب , متقلّباً بين الأذرع الرّفيقة , والأحضان الدّافئة , فحياته تستنير بالبسمات الوضّاءة , وتتأرّج بنفحات المحبّة الصّادقة , وبهذا فهو يرى الحياة سهلة ليّنة , بل نزهة ممتعة, يلهو ويمرح طول يومه , فلا يشوبه كدَر, ولا يفسده كمد , فهو لا يعرف من الحياة إلا السّرور والطّرب, والأكل والشرب, والثوب القشيب والقرش الوفير ,والدّمى الجميلة, والحلوى العجيبة, والحِجر الدّافئ , والفراش الوثير, فلا يعلم لأيّ هدف خلق .

وما هي إلا سنوات قليلة حتّى يتمّ نموّه, وينضج عقله, ويدخل في طور زاهر جديد, ويخلع عنه ثوب الطّفولة المرحة, ويرتدي ذلك الثّوب البهي , الثوب الذي طالما تمنّاه الشّيوخ, وبكوه بالدمع الغزير. إنّه عنفوان الشّباب , وربيع الحياة, إنّه الوثبة الرّائعة في مضمار الحياة .

فكما أن ربيع السّنة تنتظره الأشجار , لتصير كاسية من بعد عـري ,ناضرة من بعد ذبول , ظليلة من بعد انكشاف ,عامرة بالأعشاش من بعد هجر, مثمرة من بعد جدب !!

حقّاً إن الربيع موعد مع الحياة من بعد موت , وهو مهرجان السّنة وعرس الدّهر .

وكما أن للرّبيع هذا الاحتفاء البهيج , فإنّ للشّباب أيضا أعيادَ التتويج , وترانيمَ التّقديس , وأناشيدَ الحماس, وأبراجَ الشّموخ, وجبالَ الصّمود , وقلاعَ الأمان , وكنوزَ الآمال , وطاقاتِ العمل , وتحقيقَ الأمل !!

أوَ بعد هذا يُلام الشّيوخ على رثائه, ولا يُرثى للحمقى الّذين يبدّدون طاقات زمانه ؟!!

إنّ الإنسان في طور الشّباب يكون إنساناً حقيقيّاً, لا شيخا خياليّاً, فهو بما منح من قوى متعدّدة , وطاقات هائلة , يعرف الحياة وأسرارها , ويعلم سعادتها وشقاءها , يبني الآمال ويرقبها , ويحقّق بعزم الشّباب ما يبدو كالمستحيل , فهو غُـرّةٌ في جبين العمر, ومشعل في ظلمات الحياة , وواحة في صحراء الأيّام , ولكنّ أكثر الشّباب تزدهيهم الأماني, وتذهب بأحلامهم الأطماع , ويتّبعون خطواتِ الشّيطان , فيخيّل إليهم أنّ هذه الحياة إنّما خُلقت للمتاع الرّخيص ,وإشباعِ الغرائز البهيمية , ويعقبها موت بلا نشور, فينتهزون فرصة الشّباب , ويتمتّعون كما تتمتّع الأنعام , بل هم أضلّ سبيلا !!

وبينما هم في مواخير المنكر , تائهون , ومن مستنقع الرّذيلة يعـبّـون , إذ بنذير الموت يأتي , وينشر رداءه وأعلامه , فيصبح الإنسان شيخا عاجزاً ,حرمته الأيام استواء الظّهر , ولولا تلك العصا لكاد رأسه يلامس الثّرى , وترتسم خطوط التّعاسة والكآبة على وجهه , ويتذكر أيام الشّباب التي مرّت سراعاً , وكأنّها خيالٌ أو أحلام !!

أمّا الشّباب فقد بَعُـد     ذهب الشّباب ولم يعد

*******

مِن كتابي المخطوط ( طاقة من النّثر )