ثقافة حديثية ميسرة 7-11

ثقافة حديثية ميسرة –7

الحديث القدسي: روايته – صياغته – موضوعاته..

كل الأحاديث النبوية الشريفة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنتهي بعبارة: قال رسول الله صلى عليه أو سلم، أو ما يشاكلها من خبر عن حال مثل كان رسول الله الله صلى عليه وسلم، أو فعل أو أمر أو نهى..

والحديث القدسي ينتهي بقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: قال الله تعالى، أو يقول الله تعالى، فآخر حلقات السند فيه هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهاية السند فيه هو رب العزة جل وعلا.

ويتوقف العلماء في تحديد طبيعة الحديث القدسي، لفظه ومعناه، يقول بعضهم وتامل معي فالمعنى دقيق: معناه من الله ولفظه من رسول الله!! فماذا اختلف عن الحديث الصحيح ونحن نؤمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينطق عن الهوى، في كل ما يقول!!

ويقول بعضهم وتأمل معي: لفظه ومعناه توقيفي من الله، فماذا اختلف عن القرآن الكريم، من حيث أنه وحي بلفظه ومعناه، نزل به الروح الأمين على قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم!!

والتحقيق المفيد أن الحديث القدسي هو حديث شريف معناه من الله، ولفظه من محمد رسول الله، ولغة الخطاب فيه بشكل عام مسندة إلى رب العزة تبارك وتعالى، يتوجه إلى عباده بالخطاب المباشر، أو النداء القريب .. فضمير المتكلم فيه يرجع إلى الله تعالى، وصياغة القول تتم من بيان سيدي رسول الله..

ونقول عن الحديث القدسي إنه كلام الله ..ولكنه يفترق عن القرآن الكريم بأمور من الثبوت ومن حيث الأحكام..

فالقرآن الكريم كل حرف فيه قطعي الثبوت. قد بلغنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين، عن رب العزة. وحكم الحديث القدسي حكم الأحاديث المروية عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمراتبها وبطرائق ثبوتها، فيكون فيه الصحيح برتبه، كما يكون فيه الحسن والضعيف، كما يكون في ثنايا ما يروى بعض ما دسه بعض الناس على الأمة، ولاسيما المنقولات من كتب السابقين. وهذا فرق أول وعقد عليه اصبعك..

ومن حيث الأحكام: نقول الحديث القدسي كلام الله، ونعلم أن القرآن الكريم وحده هو كلام الله المتعبد بتلاوته، نقيم بآياته صلواتنا، ونتلوه تعبدا وتقربا وزلفى، ولا يُصلى بنص حديث قدسي، ولو كان صحيحا وهذه ثانية فاعقد عليها أصبعك..

ومن حيث الأحكام أيضا أن القرآن الكريم، كلام الله (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فلا يحق "للمحدث – المحدثة" أن يمسه، وقيل أن يتلوه تعبدا وهو الأشهر من الأقوال، ولكن هذا لا يشمل الحديث القدسي مع أننا نقول فيه إنه "كلام الله"، فانتبه للثالثة

وفي صيغ الرواية للحديث القدسي نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه. أو نقول: قال الله عز وجل فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو نقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه تبارك وتعالى، أو نقول: قال الله تعالى في الحديث القدسي، وفي القرآن الكريم نقول: قال الله تعالى، ونطلق القول فيعرف أن ما يتلو قولنا هذا هو آي الذكر الحكيم. ولا تقل: قال الله تعالى ثم تذكر حديثا قدسيا دون التنبيه على أنه حديث قدسي مفارق لقول الله تعالى في الكتاب العزيز.

ثم الفرق بين الأحاديث النبوية والأحاديث القدسية من حيث الموضوع، أن الأحاديث النبوية الشريفة تدور على شتى موضوعات الحياة والأحكام الشرعية، توجيها وتعليما وشرحا وتفصيلا وتحليلا وتحريما، وقد علمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء.... كما قال أحد الصحابة رضي الله عنه..

وهل تعلم أن هناك أقواما ما زالوا حتى قرن مضى لا يعرفون كيف...؟؟ للنقط التي نقشتها خلف العبارتين معاني، ولو قرأت كتاب الاعتبار لأسامة ابن منقذ لأدركت معناها. وكان ترك الاغتسال عند بعض الأقوام قربة ودينا، يعيش أحدهم سبعين سنة ويفخر أنه ما مس جسده الماء تعبدا وتقربا!!

أما موضوع الحديث القدسي فيرتقي بنا في فضاءات أخرى، وأكثر مرويات الحديث القدسي هو حديث الإله المتعال الرب الرحمن الرحيم يتحبب إلى خلقه...فتظل تدور موضوعات هذه الأحاديث على مثل هذا النداء الرخي، يا عبادي..

عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: - القائل هو الله تعالى- :

"يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا...

 يا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ..

 يا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ..

 يا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ...

يا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ... يا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي...

يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ، ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا...

يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا...

 يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ...

 يا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ". رواه الإمام مسلم في صحيحه ..

وقد اعتنت الأمة بالأحاديث القدسية عنايتها بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفردت الأحاديث القدسية بالتأليف والشرح والتصنيف والعناية، ثم التتبع والتصحيح والتحسين كل حديث بحسب روايته ورواته..

ومن ألطف المصنفات التي جمعت الأحاديث القدسية كتاب " الاتحافات السَّنية في الأحاديث القدسية" لمؤلفه محمد عبد الرؤوف المناوي، من مخضرمي القرنين العاشر والحادي عشر. جمع فيه نحو 272 حديثا قدسيا.. فالتمسه واغترف

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:

"من عادى وليا لي فقد آذنته بالحرب.

وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه.

وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها..

وإن سألني لأعطينه

ولئن استعاذني لأعيذنّه".. أخرجه الإمام البخاري في صحيحه

اللهم اجبر أمة نبيك جبرا لا كسر بعده، ونعوذ بك من شرور أنفسنا ومن شرور شياطين الإنس والجن، ومن طارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن..

ثقافة حديثية ميسرة – 8

تنويه

تنويه- ومرة أخرى لا أكتب هذه السلسلة العلمية لأهل الاختصاص. وإنما أكتبها لضخ جرعة من الهواء العلمي والثقافي النقي، في فضاء كثرت فيه مخرجات العوادم الكربونية، في التشويش على علم الحديث، ومكانة السنة النبوية الشريفة، وعلى أئمة الهدى من حملة علم السنة المطهرة.

 ما أكتبه هو ثقافة عامة. بلغة عامة ،تتناسب وثقافة الجمهور العام الذي أنتمي إليه، وأحبه وأتعامل معه وأخاطبه. لا أكتب أبحاثا منهجية "أكاديمية"، فلا ألتزم عمليا بالاستقصاء ولا بالتتبع ولا بالمصطلحات العلمية التي تربك الجمهور، ولا بعزو ما أقتبس.. وقد نوهت بهذا من قبل. وإنما أعتمد المشهور من أقوال العلماء، وإن كان ثمة رأيان لمست الخلاف بينهما لمسا خفيفا. وإن كان لي رأي في أمر، أوردته على طريقتي مشعرا أنه رأيي.

والعزيمة أن أمضي في هذه السلسلة من المقالات إن شاء الله في محاولة تقريب علم الحديث، ليس للمحدثين، وإنما للمتحدثين في آفاق العلم والسياسة وعلى صفحات التواصل العام....

لا أزاحم صاحب منبر، ولا سيد عرندس، وإنما هي سرديات علمية بلغة محكية، وأسأل الله أن يعصمني من الزلل..

وإبحاري في هذا العلم قديم منذ عام 1969، له حكايته، لعلي أحكيها لكم في مناسبة، أخرى، إن اتسع لها الوقت في الشهر الفضيل، حكاية كان في أطرافها أساتذتي في الجامعة الدكتور نور الدين عتر- والدكتور نعيم اليافي- والدكتور فخر الدين قباوة -والدكتور صبري الأشتر- والدكتور بكري الشيخ أمين.. رحمهم الله تعالى وأجزل مثوبتهم، وأمتع بالدكتور فخر الدين قباوة وحفظه وزاده من فضله، وإذا قلت إن تسعة أعشار العلم الحق الذي أصبناه على يديه في جامعة حلب- كلية اللغات، لا أكون قد بالغت، وليس في ميدان النحو ومغني اللبيب، والصرف وممتع ابن عصفور فقط، بل في مادتي الأدب سلامة بن جندل- والأخطل – وشعر الفتوح ، والكتاب القديم، الذي كان مبدعا في اختيار موضوعاته، ثم في حلقات البحث التي كان يتحفنا بها كل أسبوع.

ويسرني في هذا التنويه أن ألتمس من كل صاحب فضل، إن وجد فيما أكتب خطأ أن يصوبه، أو خللا أن يسدده، أو نقصا أن يكمله، أو قصورا أن يكمله، أو اعوجاجا أن يقوّمه.. وحرصي على سلامة ما أكتب وما أخرج أكبر من حرصي على شخصي، وإن كنت لا أرى في تصويب المصوبين وتسديد المسددين معرة ولا انتقاصا، بل أفرح وأغتبط وأشكر، وكل ذلك على قاعدة هذا التنويه من طبيعة ومنهجية ما أقدم...

وأتحفكم بهذه اللطيفة لوضع الفقرة السابقة في سياقها، وأن لا يسقطها أحد إسقاط رافضي، فيقول إن لم تكن واثقا فيما تكتب فلمَ تكتب: في حوار مع أحد الرافضة قال لي: يا أخي تزعمون أن أبا بكر خير الأمة بعد نبيها، وهو يوم وقف على المنبر بعد توليه قال: وليت عليكم ولست بخيركم..!! قلت ومن خيريّته رضي الله عنه قال هذا، واعتقده ...

ولتمام الفائدة حول موضوع الحديث القدسي، وكنت بالأمس ذكرت كتاب الاتحافات السنية للمناوي، كمرجع أنموذجي للأحاديث القدسية، ولي معه حكاية أخرى متممة للموضوع الأول أحكيها لكم. أرسل إليّ أخ كريم فاضل محب، أن لفضيلة الأخ الشيخ محمد أبي الفضل عوامة مجموعا لطيفا، عنوانه "من صحاح الأحاديث القدسية" جمع فيه نحوا من مائة حديث قدسي، صحاح، وتذكروا ما قلنا أن سائر الأحاديث القدسية المروية يصح فيها القول كما يصح في سائر الأحاديث من حيث الصحة والضعف. وهنا نستفيد فائدة إضافية، فإذا كان المناوي الذي جمع فاستقصى قد جمع 272 حديثا فيها الصحيح والحسن والضعيف وربما غيرها، والأخ الشيخ أبو الفضل قد جمع مائة مصححة، علمنا أولا قلة الأحاديث القدسية بالنسبة لسواد الأحاديث النبوية التي يذكر في متونها نحو عشرة آلاف متن. وعلمنا من هذا كذلك أن نسبة الصحيح من الأحاديث القدسية إلى المروي نحو 100/ 272 فتأمل..

 وعندما تقرأ حديثا في كتاب أو تسمعه على لسان متحدث، يقول لك على الهواء: كما ورد في الحديث القدسي، تأمل لتتأكد من درجات الحديث القدسي هو.

وفائدة أخرى. يفيد هذا التنويه إضافة مرجع جديد إلى مكتباتكم أو إلى ذاكرتكم في العودة إلى كتاب فضيلة الشيخ محمد عوامة حفظه الله يغنيكم عن عناء البحث عن الصحة..

وكنت بالأمس قد أثرت إشكالية بقولي "تأمل" بعد أن عرضت الرأيين في القول في الحديث القدسي، "المعنى من الله تبارك وتعالى، واللفظ من الرسول الكريم صلى الله عليه"، وعقبت بقولي تأمل. ثم القول "اللفظ والمعنى من الله" وقلت تأمل، فكان من التنبيهات التي وصلتني شكر الله لمرسلها، أن فضيلة الشيخ أبي الفضل بحث هذا، ورجح الثاني "اللفظ والمعنى" من الله تعالى، ونحن تساءلنا فما الفرق بين هذا والقرآن الكريم؟؟ ، فقد تكفل الشيخ حفظه الله، ببيان الفرق فيما نبهت عليه في الفروق بين الحديث القدسي والقرآن الكريم، مع القول أن كليهما لفظا ومعنى من عند الله. وهذا كلام نفيس أعدكم بأن أعود به إليكم إن شاء الله...

وأخيرا

نحن جميعا مأمورون بقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ..

ثقافة حديثية ميسرة – 9

من الرواية الشفهية إلى التدوين.. فالتصنيف والتبويب.. قرنان تقريبا

تذكر: أن الأناجيل الأربعة : متى – ومرقس – ولوقا – ويوحنا لم تضم وتعتمد كنسيا ككتب مقدسة إلا في مطلع القرن الرابع للميلاد...

وتذكر بالمقابل أن القرآن الكريم دُون في حياة الرسول الكريم، وجمع الجمعة الأولى في عهد سيدنا أبي بكر، أي بعد وفاة رسول الله بنحو عام بمرجعية مزدوجة تجمع المدون إلى المحفوظ، ثم جُمع المسلمون عليه في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه..

وها أنا أفيدك من خلال هذا البحث الموثق أن السنة النبوية الشريفة، دونت تقريبا خلال مائة عام تقريبا ، وصنفت وبوبت خلال مائتي عام من وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ليكون جوابك حاضرا فترد على الناعقين بما يستحقون..

سنسير معا برفق، ونحن ندخل حديقة منظمة، وليس غابة مشتجرة. نسير في طريق رحلة علمية منهجية لاختبار "صحة نسبة قول إلى قائله" القول هو الحديث الشريف، والقائل هو سيدنا رسول الله، والباحثون عن الحقيقة هم طبقة من الرجال نسميهم "المحدثون" والرجال موضع البحث هم "الرواة".

ومعيار الدقة والحفظ في هذه الجولة هو معيار زمني محض، وهو يعزز المعايير الأخرى ولا يلغيها..

في غضون مائتي عام تقريبا من وفاة الرسول الكريم كانت جمهرة كتب السنة الصحاح والسنن والمسانيد، قد صنفت، ضبط بالعموم، حتى لا يخرج علي قولي خارج.

كانت الطبقة الأولى من الرواة هم صحابة رسول الله. وسواء جاء الحديث مرفوعا عن طريق واحد منهم، أو مرسلا بأن يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وزمن، فإنه سيمر عبر هذه الطبقة من الرواة الذين قال الله تعالى فيهم (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) والحديث عن مكانة الصحابة ودورهم في رواية الحديث الشريف، ومكثريهم ومقليهم، سيكون له مقال خاص.، إن شاء الله.

ثم مرّت عملية تصنيف الحديث النبوي الشريف عموما بثلاث مراحل..

الأولى: مرحلة الرواية الشفهية:

وتشمل هذه المرحلة عموما عهد الصحابة، وسائر عهد التابعين. وكان المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أولا النهي أن يكتب عنه شيء غير القرآن "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"- صحيح مسلم- ولكن تضافرت الروايات، بعدُ أن هذا النهي كان وقتيا، وأن هذاالحديث منسوخ. وأن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب. وأنه كانت عنده صحيفة اسمها الصادقة، ولا يذهبن بنا الظن من قولنا صحيفة أنها كانت صفحة واحدة. وإنما نكاد نقول إنها كتاب، جمع فيها سيدنا عبد الله كثيرا من الأحاديث عن سيدنا رسول الله قدرها بعضهم بنحو ألف حديث. وأنها كان لها صندوق خاص يحفظها ويكرمها فيه. وكانت قرة عينه من حياته رضي الله عنه.

ومع ذلك فقد ظل المسلمون في الصدر الأول مترديين في تدوين العلم والأحاديث الشريفة، وظلوا مختلفين في ذلك. حتى حُسم الأمر وانتقل الناس من عهد الرواية الشفهية إلى عهد التدوين. ومن عهد التدوين إلى عهد التصنيف.

في عهد الصحابة رضوان الله عنهم، كان الصحابي رضي الله عنه يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حدوث واقعة، أو سؤال عن فتيا، أو مناسبة يحتاج فيها الناس إلى رأي شرعي.

ثم بدأت تتشكل في عهد التابعين وتابعيهم طبقة من المسلمين نذرت وقتها وجهدها، لحفظ السنة وتتبع الأحاديث الشريفة، من أفواه الرواة، وحفظها والعناية بها، كما نذرت وقتها وجهدها وتفكيرها لوضع أسس عامة للفقه الإسلامي. في العهد الأول كان بعض هؤلاء يمتلكون ناصية الرؤية الشرعية المتكاملة ، فهم يمتلكون قواعد الاستنباط من النصوص وفقه هذه العملية ،كما يمتلكون العلم بالقرآن نصوصه وتفسيره، والعلم بالسنة مع إحاطة شبه تامة، وهم يعيشون في عصر ما تزال فيه نصوص الشريعة غضة على لسان رواتها. وهؤلاء الذين سميناهم الأئمّة المجتهدين. بينما تفرغ فريق آخر من المسلمين – جزاهم الله خيرا- إلى تتبع حديث النبي صلى الله عليه وسلم وجمعه، ولقاء من رواه، والأخذ عنه، وحرصهم على أن تكون مروياتهم أقرب ما يمكن من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربما زاد هذا الأمر صعوبة تفرق جيل الصحابة في البلاد حرصا على الدعوة ونشر الإسلام بين الناس.

وفي هذا السياق سنسمع مصطلحين مهمين "الرحلة في طلب العلم" ثم فيما بعد، "السند العالي" .

وبلغ من عناية هذا الفريق من المتطوعين لحمل السنة الشريفة، أنهم إذا سمعوا أن في مصر من الأمصار راوية يروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم يشدون الرحال إليه فقط ليسمعوا منه ما عنده من روايات ويوثقوها. ولنتذكر أن السفر كان على الراحلة ، وفي الضح والقر والريح. بل كان أحدهم إذا تأتى له سماع الحديث في مصره، وعلم أن راوي الحديث الذي في مصره، قد رواه عن راوٍ آخر ما يزال حيا ولو في بلد بعيد، آثر أن يسافر إلى المصدر الأعلى، ليكون أقرب درجة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، محتسبا الأجر في رحلة قد تمتد أحيانا من البصرة أو الكوفة أو دمشق إلى اليمن، وينشد صاحبها جذلا مسرورا:

لابد من صنعا وإن طال السفر.

كان بعض هؤلاء الرواة يعتمد على ذاكرته وحفظه، وكانت ذاكرة الناس في تلك العصور أكثر قدرة وقوة. ومنهم من بدأ يعتمد على التدوين، يكتب ما يسمع من شيخه، فيما يشبه ما نسميه اليوم المذكرات الشخصية. فيكتب مروياته بسندها وطريقة سماعها عن الشيخ الذي يروي عنه بطريقة غاية في الإتقان، ثم إذا صار إلى حيث الأداء أي حيث يتحول التلميذ المتلقي إلى شيخٍ مؤدٍ كان يقرأ مروياته على الناس من كتاب، غير معتمد على الذاكرة..

وسيستمر الأمر على هذا الحال عقودا من الزمان قبل أن تظهر، فعقد بعد عقد تتكاثر المدونات الشخصية للرواة، التي تبقى شخصية، قبل أن تتحول إلى مصنفات علمية معتبرة، توضع بين أيدي كافة الناس.

لا أستطيع أن أحدد ما هو أول مصنف حديثي خرج للناس في صيغة كتاب منفصلا عن صاحبه. فقد ذكرت بعض العناوين لبعض التابعين وتابعيهم ولكن ليس لها وجود في أيدي الناس اليوم.

ولعل "الموطأ" للإمام مالك رحمه الله هو الأشهر في السابق بالظهور. وبه سنكون قد دخلنا عصر التصنيف الفعلي.

سأذكر لكم الآن بعض التواريخ المهمة . هي مهمة لأنها ستساعدنا على تحديد المسافة الزمنية التي استغرقها تصنيف الحديث الشريف وتقديمه للناس. موطأ الإمام مالك مثلا تم تصنيفه بالمشورة من أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي ( 136- 158 ) بطريقة وسطية نستطيع أن نؤكد أن موطأ الإمام مالك تم تصنيفه في منتصف القرن الثاني حوالي 150 هجرية، يجب أن نلحظ أنه كلما قرب المصنف من عهد الصحابة، قلت احتمالية الخطأ أو الخلل فيه. فقط بالاعتبار الزمني، فإذا أضفنا إلى الاعتبار الزمني، الضوابط الأخرى للتأكد من صحة المروي وثقنا أن رحلة الحديث الشريف إلينا ظلت محفوظة مأمونة، وأن لا معنى لما يقوله المشككون والمزيفون. في فترة زمنية محددة بقرنين من الزمان تقريبا، كانت مرويات الحديث الشريف قد جمعت ودونت وصنفت وبوبت، في مرحلة كانت الأمة فيها تعيش قرون الخيرية الأولى: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

كشاهد إثبات لكلامي أعلاه، وأن الحديث الشريف ظل محفوظا محاطا بالصون، رغم كثرة المحاولات سأضع بين أيديكم مرة أخرى سنوات وفاة الأئمة الستة الذين تعتبر مصنفاتهم جمهرة الأحاديث النبوي مع ما تقدم عليها من موطأ الإمام مالك فتأمل:

الإمام محمد بن إسماعيل البخاري 194 - 256

الإمام مسلم بن الحجاج القشيري: 206 –261

الإمام محمد بن عيسى الترمذي: 209 – 279

الإمام محمد بن شعيب النسائي: 215 – 303

الإمام أبو دواد سليمان بن الأشعث الأزدي: 202 – 275

الإمام محمد بن يزيد بن ماجة القزويني: 209 – 273

وأضيف مسند الإمام أحمد بن حنبل: 164 - 241

وفي الفترة نفسها تقريبا تم تصنيف أكثر المرويات الشريفة، بعد غربلتها ونخلها، كل إمام حسب طريقته ومنهجه أو كما يقولون حسب "شرطه" في مقدمة كتابه..

خلال قرنين من انتقال الرسول الكريم كانت الأحاديث النبوية قد جمعت ودونت وصنفت وبوبت – حسب أبواب الفقه- أو مناهج مصنفيها، ووضعت غضة طرية نقية بين أيدي المسلمين، وطلاب العلم منهم خاصة..

وسأختم بفكرة أخيرة مهمة هي الأخرى في تأكيد الثقة فيما روى لنا أئمة الحديث عن سيدنا رسول الله: كم كان بين مصنفي الحديث الذين نتحدث عنهم من رجال؟؟

في مصطلح المحدثين هناك عنوان لمرويات اسمها "الثلاثيات" فيكون بين المصنف ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ثلاثة رواة. وفي مسند الإمام أحمد وكتب الصحاح نسبة واضحة من هذه المرويات. وأقصى ما وصل إليه سند البخاري رحمه الله تعالى تسعة رواة. وسائر صحيح البخاري يدور بين الأربعة والخمسة رواة، يكون الصحابي دائما واحدا منهم...

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا..

ثقافة حديثية ميسرة – 10

علم الرجال...

نشأ في غضون القرون الثلاثة التي استقر فيها علم الحديث الشريف رواية وتدوينا وتصنيفا، علم خاص بهذه الأمة المسلمة هو "علم الرجال" . الذي هو حجرُ الأساس في علم الإسناد المنبثق عنه، والذي شكل سدا منيعا في وجه أصحاب الخفة أو الأهواء أو الزنادقة، الذين كانوا في تلك الفترة الزمنية قليلا، كما شكل سدا في محاولات اختراق سور الحديث الشريف.

في الحديث عن الفترة الزمنية التي تحددنا فيها مطلع القرن الثالث للهجرة، أي حوالي 250 عاما من وفاة الرسول الكريم والتذكير بالسقف الزمني لعملية التدوين دائما مهم . لا بد أن نذكر كمدخل "لعلم الرجال" هذا، حديثَ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تناقله أصحاب الصحاح والسنن: " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "

ونتساءل مثل ما تساءل من قبلنا : ماذا أراد رسول الله صلى عليه وسلم بالقرن؟؟ أو ماذا أراد القرآن الكريم بقوله (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي)

وندرك أننا نتعارف في هذا الزمان على أن القرن مائة عام. يكون هجريا أو ميلاديا أو باعتبار أي تاريخ يعتمده الناس نقطة للبداية..

ولكن هذه الحقيقة العرفية لم تكن سائدة أو متعارفا عليها من قبل في عالم الناس، فقد كان يطلق "القرن" ويراد به عرفيا 40 سنه أو 50 سنة أو 70 سنة، أو 100 سنة أو 120 سنة.. واستقر العرف التاريخي من بعد على 100 سنة كما هو معمول به الآن..

بعض شراح الحديث يرون أن المقصود بالقرن 100 عام ، وأن هذه الخيرية تمتد إلى نهاية القرن الثالث الهجري. وهو قول يقال!!

والرأي الأشهر أن المقصود من القرن "الجيل" من الناس. فقرنُ الرسول صلى الله عليه وسلم هو الجيل من الصحابة الذين عايشوه، والذين يلونهم الجيل من التابعين الذين عاصروا الصحابة، والذين يلونهم هم جيل تابعي التابعين الذين عاصروا التابعين. وتختلف مدة الجيل بحسب العمر الوسطي للمجموعة البشرية المعنية. فأحيانا يكون أربعين أو خمسين أو ستين..

المهم أننا حيث نبحث ونتتبع عصر " الرواية والتدوين والتصنيف" نبحث في عصر مجموعة بشرية مشهود لها بالخيرية من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهادة عامة وليست فردية. مجموعة بشرية مثلت خلال ثلاثة أجيال قمة الخيرية الإنسانية، مجموعة بشرية يغلب عليها التقوى والصلاح والصدق والخوف من الله. ووسط هذه المجموعة البشرية الخيرة والمشهود لها بالخيرية، تم تناقل وتدوين الحديث الشريف، وهذه حقيقة مهمة فاعقد عليها أصبعك، ولا تنسها أبدا، ولا يخدعنّك عنها أحد من الذين يلوون ألسنتهم للطعن في السنة النبوية الشريفة. وتقريرنا هذا لا ينفي أن يتسرب بعض الوهن من ضعف أو من خيانة إلى هذه المجموعة، فكان جهابذة علم الحديث لضعاف النفوس هؤلاء بالمرصاد وإليكم كيف؟؟

"قاعد بيانات لرواة الحديث الشريف.."

في صفوف هؤلاء القوم الغُرّ من رواة الحديث ، حامليه ومتحمليه، كان هناك رجال أبعد شأوا وأكبر عقولا ، وأوسع أفقا، فصاروا إلى وضع ما نسميه في العصر الحديث " قاعدة البيانات" التعريفية، إذا شئتم قلتم بطاقة تعريفية ، وإذا شئتم قلتم بلغة العصر "سي في" وبلغة أهل التتبع "فيش" لكل من روى حديثا، أو قارب روايته. فكل من أراد أن يدخل حديقة الرواية عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيوضع تحت مجهر كاشف، ونور واضح، فيُعرف عنه كل شيء من اسمه ورسمه وشخصه ودينه واعتقاداته وسلوكه الشخصي، ومدخله ومخرجه وكل أمره.

وستكون هذه البطاقة التعريفية مفتوحة متداولة، كل من عرف أمرا أضافه إليها، وكل من سأل عن حال راو من الرواة، وجد المعلومات المتداولة عنه، وهكذا تأسس علم اسمه "علم الرجال" ويقال له أحيانا علم "التاريخ" ويقصدون هذا الذي كنت أحدثكم عنه، والذي أصبحت له بالتالي قواعد وقوانين وضبط وربط عنوانها "علم الجرح والتعديل" نصير إليه بعدُ إن شاء الله ، وإنما نحن معنيون في هذه المقالة أن نوضح الآلية الأساس التي سبقت إليها هذه الأمة، منذ 1400 عام، أن تضع قاعدة بيانات شافية وافية لآلاف الرواة ، الذين اشتغلوا في رواية الحديث الشريف، قاعدة بيانات قوامها الأساسي البحث عن تقوى الله في شخص الراوي " العدالة " والبحث عن العقل والحفظ والقدرة على التحمل، والقدرة على الأداء تحت عنوان "الضبط". وقد لا تخلو بعض المعلومات التي تحتويها "صفحة أي رجل" من تقويمات حادة أو غالية من بعض المقوّمين، تنبع من تشددهم أو من تساهلهم، أو من عصبيتهم أيضا، تذكروا دائما أننا نتحدث عن بشر!! ولكن يبقى الرأي العام في هذه التقويمات البشرية أقرب إلى العدل والاتزان والتقوى.

وحين نرجع إلى قاعدة البيانات هذه سنجد أمرا عجبا يبهج روحنا، ويسر خاطرنا ، ويقنع عقلنا، بأننا حين تتلقى حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتلقاه عن مهزوز أو ملزوز كما يقول الأغمار وإنما نتلقاه عن رجال عدول ضابطين. وربما نجد فيها من تمام الدقة وروعتها توصيفات مثل: مجهول.. مستور.. مختلف في اسمه أو في اسم أبيه ومع ذلك يبقى لكل حالة قواعدها الموضوعية التي تُعامل بها، ويصدر الحكم فيها على المعني ثقة ثبتأ, ثقة فيه لين أو كما يصف الإمام الذهبي أحيانا "جراب الكذب"

"علم الرجال" قد ألف فيه رجال هذه الأمة منذ القرون الأولى معاجم للرجال. فإذا كل راو للحديث الشريف، مثلُ مفردة في معاجم اللغة، له اسمه ورسمه ومكانته، وتاريخ حياته، ويقول لك المعجم: ثقة، تغير بأخِرِه، يروى عنه قبل، ولا يؤخذ عنه بعد تغيره، أو احترقت كتبه، أو تسلط بعض السفهاء على كتبه فعبث بها.. بهذه الدقة المتناهية يمضي هذا العلم القويم إلى غايته.

وكتب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري كتابه "التاريخ الكبير" في علم الرجال يقال صنفه وهو في الثامنة عشرة من عمره، ويتكئ متكئ على أريكته ويقول : هم رجال ونحن رجال..!!

حدثوني عن الرجال حديثا ..أو صفوهم فقد نسيت الرجالا

بيت الشعر الوحيد الذي حاكيتُ فيه فنظمته في حياتي..

نحو ثقافة حديثية ميسرة – 11

علم الجرح والتعديل ..مقدمة

وهو علم منيف نفيس، كان عليه العمل في قاعدة البيانات، أو في معاجم الرجال ، التي تحدثنا عنها في المقال السابق. يُصنف اسم الرجل ثم يصدر عليه حكم إيجابي أو سلبي، بحسب قواعد هذا العلم، وبحسب رأي العلماء فيه. فيقال فيه ثقة... أو ضعيف..

ولأهمية هذا العلم ونفاسته سنيسره في ثلاث مقالات، مقدمة، ومقال لعلم التعديل وقواعده، وأخرى لعلم الجرح وما يكون فيه.

في المقدمة التي أراها ضرورية جدا سنعالج بضعة قضايا في غاية الأهمية، منها ما يتعلق بالعدالة الأصلية، ومنها ما يتعلق في بغي بعض الناس في الاحتماء بمظلة الجرح والتعديل والنصح والتحذير. ثم مفهوم الوصف بالبدعة عند السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين.

في المقدمة الأولى نذكر أنه قد تقرر:

أن الأصل في المسلمين جميعا العدالة. العدالة العامة. وفي التصور الإسلامي : يولد الإنسان على الفطرة بريئا من كل ذنب وخطيئة. وتدوم معه براءته حتى يقوم هو بتلويثها.

وهذه القاعدة الشرعية والحقوقية أيضا. والتي نتلقاها الآن ونحن مسلّمون بها مرتاحون إليها.. هذه الحقيقة الشرعية والحقوقية كما قلنا تتناقض مع عقيدة مسيحية راسخة وثابتة عند معظم الكنائس وهي عقيدة "الخطيئة الأصلية" حيث تقرر تلك العقيدة "يولد الإنسان حاملا معه عبء خطيئة أبيه آدم" يولد آثما مستعدا للشر وللمعصية، ومندفعا إليهما. وصُلب المسيح حسب عقيدتهم، ليحمل عن البشر عبء الخطيئة الأولى، ويقدم للمؤمنين به، الخلاص على طبق من الإيمان.

في مأثورنا الإسلامي عديد من الروايات تؤكد على براءة الإنسان المطلقة بعبارة "خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ولكن العقيدة المسيحية تؤكد أن الإنسان يخرج من بطن أمه حاملا للخطيئة الأولى، ويأتي سر العماد ليرفع عن الطفل إثم هذه الخطيئة، ويؤهله للخلاص المسيحي حسب اعتقادهم .

 نعود فنؤكد أن الأصل في المسلمين أنهم كلهم عدول، وحين نستعمل "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" فنحن نستعمل عبارات قويمة صحيحة ولكنها غاية في العموم. نعم ثمة عدالة عامة مشتركة بين المسلمين، ولكن حين يتقدم المسلم إلى مقام الشهادة في الدماء أو في الحقوق، مثلا، سيكون من حق القاضي وأحيانا الخصم أن يبحث عن مدى أهلية الشاهد الخاصة والعامة. ومن هنا كنا نقرأ في كتب التاريخ والسير: فردّ شهادته. كان القاضي يرد شهادة الشاهد لأمر يراه فيه، ويجعله غير مؤهل للشهادة سواء عند التحمل أو عند الأداء.

والرواية عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم توازي نوعا من الشهادة، وكان الإمام القرافي في كتابه الفروق عقد فصلا في الفرق بين الراوي والشاهد أبدع فيه. وإذا كانت الرواية عن رسول الله توازي نوعا من الشهادة، فقد استحق أن يبحث العلماء بطريقة أكثر دقة عن مدى أهلية هذا الراوي من طرفي العدالة والضبط. إذن نحن أمام حالة من البحث عن مدى "تأهل الراوي" لأداء هذه المهمة الشرعية المقدسة. والحذر كل الحذر من الخلط بين العدالة العامة التي هي حق لكل مسلم مستور، بستر الله ، والذي لا يحق لأحد أن ينتهك عليه ستره إلا بشروط، وبين القول بالعدالة الخاصة التي تعني تأهل الراوي لحمل أمانة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحفظ هذا فإنه مهم. إذن الحديث عن التعديل هو حديث عن مدى تأهل الراوي من طرفي العدالة والضبط للرواية عن سيدنا رسول الله.

والمقدمة الثانية التي لا بد لنا منها

أن لا يكون المطلب الشرعي في القول بالجرح والتعديل، أو بالتحذير من المبتدع، كما نصوا عليه في إباحة الغيبة، قنطرةً إلى الولوغ في أعراض الناس، غيبة وبهتانا، ويتجلبب مرتكبو هذه بجلباب الغيرة على الدين، والدفع عن الشريعة، فيأكلون لحوم الموتى من حيث لا يشعرون.

 في حياة المسلمين كبائر وآثام ماتت نكارتها في القلوب والعقول. وأصبح الوقوع فيها نوعا من البلوى العامة التي لا يكاد يسلم منها إنسان. ومن أهم هذه الكبائر الكذب والغيبة والبهتان والنميمة وسائر آفات اللسان. وكانوا يقولون : أسهل غيبة الصالحين قولهم: نسأل الله العفو والعافية. يعنون أن الرجل مدعي الصلاح ،إذا ذكر عنده الآخر، ويريد أن يترفع عن غيبته، قال: اللهم إنا نسألك العافية، أو اللهم ثبتنا على الإسلام ، أو لاحول ولا قوة إلا بالله. وكلها ألفاظ مشعرة بالتنقص وبذكر الآخرين بالسوء ..وهم لا يشعرون

لسنا في عصر الجرح والتعديل. فأمسكوا عن عباد الله، ووفروا غيرتكم المزعومة على دين الله، على خويّصة أنفسكم فاعملوا. وليس كل من قال قولا لا تبلغه عقولكم ولا أفهامكم عدوا لله. ولا مبتدعا يستحق التشويه..

والمقدمة الثالثة فيما قالوا في الرواية عن "المبتدع" ...

وكلمة "المبتدع" أصبحت من الكلمات الشائعة السائرة يتقاذف بها الناس، لأهون الأمر وأيسره. حتى يقول بعضهم لمن يصلي التراويح عشرين ركعة؛ مبتدع!! وما علموا أنها صليت عشرين ركعة في عهد سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبجوار حجرة أمنا عائشة التي روي عنها حديث "ما زاد رسول الله على إحدى عشر ركعة لا في رمضان ولا في غيره"!!

من المهم بين يدي حديثنا عن الجرح بالابتداع، أن نبين أن السلف الصالح، لم يكونوا يستعملون هذا اللفظ "البدعة والمبتدع" إلا فيما يخص أمور العقيدة الأساسية. وأشهر فرق المبتدعة التي كانوا يعنونها في عصرهم هي "المعطلة - المشبهة – المرجئة – القدرية ( نفاة القدر) – الغلاة من الخوارج الذين يستحلون الدماء والأعراض – ثم الروافض باختلاف مذاهبهم".

وبعض بدع هؤلاء تصل بهم إلى حد الكفر والعياذ بالله، وبعضهم تقع بهم دون ذلك، ولكل فريق من هؤلاء كان لعلماء الجرح والتعديل مواقف في القبول والرد. وربما يكون لنا عود لكل فرقة على انفراد.

المهم ونحن ندلف إلى علم الجرح والتعديل أن نفعل ذلك مستصحبين تقوى الله، لنعلم كيف بنى أولئك النقاد الجهابذة علم الإسناد الذي كان السلم الذي نرتقيه لدوحة السنة الشريفة.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 976