نحو ثقافة حديثية ميسرة 12 - 16

نحو ثقافة حديثية ميسرة – 12

علم الجرح والتعديل

التعديل...

ونبدأ بعلم التعديل لأنه الأصل، والجرح هو الطارئ. ورأيت أكثر كتب أهل العلم تركز على علم الجرح. مع أهمية علم التعديل في حقيقة الأمر.

ودائما يجب أن نركز على أن التعديل تعديل : "صلاح " وتعديل "ضبط" وأنه إذا انخرم أحدهما فقدت الأهلية لنقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه حقيقة مهمة جدا في حياتنا العملية اليومية، وفي طرائق تلقينا للعلم والفهم والموقف. تروى عبارة ملهمة موحية لعلها تفي بالمطلوب فهمه: يقول أحدهم "كنا نطلب دعاءهم ونرد حديثهم" بمعنى أن الصلاح الفردي حقيقة أو مظهرا، إذا لم يقترن بالضبط الاصطلاحي لا تكون عدالة. وكل الرموز التي ترمز إلى الصلاح- جبة وعمامة ولحية وسبحة ومنبر وعرندس وشهادة معهدية، لا تكفي للحكم بالعدالة. وكم نعايش في خريج المعهد الواحد من مصلح ومفسد؟ ومن عاقل وغافل، ومن معتدل وغالٍ..

هناك نوع من الغفلة والطيبة والسذاجة يشتمل عليها بعض الناس، يسمونها "غفلة الصالحين" الرجل الصالح ليس خبا بالتأكيد، ولكن ليس كل الصالحين لا يخدعهم الخبُّ، فتأمل هذا في حياتنا اليومية فإنه نفيس جدا. عمر وأمثال عمر هو الذي كان يقول بحق "لست بالخب ولا الخب يخدعني" وإلا فكم خدع أهل الخبابة حولنا من رجال!!

قلنا إن التعديل هو منح شهادة أهلية خاصة لرواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعدالة هذه من حيث الضبط تتعلق بحال الراوي في ثلاث مراحل، عند التحمل، وعند الأداء ، وفيما بينهما.

والعدالة عند التحمل: أن يكون الراوي ممن إذا سمع وعى.. وهو مطلب فيما نظن عزيز، وليس يسيرا إلا على من يسره الله عليه...!!

قال حكيم العرب: أيها الناس اسمعوا وعوا..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها. ضع ثلاثة خطوط تحت قوله صلى الله عليه وسلم "فوعاها"

عدالة الوعي أمر أشد ما نفتقده في هذا العصر، فتأمل ..

 لو أخذنا شريحة عشوائية، من عشرة رجال خارجين من خطبة جمعة، أو من محاضرة، أو إذا أعطينا مقالا لكل واحد منهم، ثم سألنا كل واحد من العشرة، ماذا سمعت؟؟ أو فهمت؟؟ أو قرأت، آنفا ؟؟ سيتبين لنا بدقة معنى عدالة التحمل!! سندرك كم هي رتبة عزيزة أن يكون الإنسان بحيث إذا سمع وعى، وهذا قسيم في عملية تعديل الراوي.

 الوعي بما يسمع الراوي، يتمثل في الفهم أو الاستيعاب، ثم الحفظ ثم استصحاب الذاكرة عندما يطلب منه أداء!!

قد نفجأ أنفسنا أننا إذا عرضنا مائة منا على هذا المعيار الدقيق كم سينجح منا فيه؟؟؟ كم الناس يعي بحق ماذا قال الخطيب أو المحاضر آنفا.. جربوا تعجبوا... واستعيذوا بالله من أصحاب الفهم المقلوب، ومن الذين يسمعون الكلام بنفوسهم أو بعصبيتهم...

كثير من يتخيل عملية التعديل تتعلق بالسلوك أو الأخلاق فقط، نعم شطرها يتعلق بذلك، والشطر الآخر يتعلق بالقدرة العقلية، فتمسك بهذا، واجعله معيارا في حياتك فيما تقبل وفيما تردّ

العدالة الضبطية عند التحمل تعني الإدراك العام لفحوى الكلام الذي قيل، ثم حفظه في القلب والذاكرة على مدى سنوات التحمل، ثم القدرة التامة على استحضاره كما سمعه، عند الأداء، استحضار ألفاظه كما سمعها، أو ربما يكون فيها تصرف يسير، لا يضر بالمعنى، وهو ما نلمسه في اختلاف الروايات.

فائدة: علماء اللغة والنحو لا يستشهدون بالحديث الشريف...

ويعللون ذلك، إن الحديث الشريف روي بشكل عام بمعناه. ويقولون: نحن جوهر عملنا على الألفاظ وليس على المعاني، ولما كان رواة الحديث قد ترخصوا في قبول المروي بالمعنى، فلم يعد لفظ الحديث ولا صيغته، مسعفة في تثبيت قواعد النحو ومعاجم اللغة. وهو رأي يدور حوله كثير من الحوار أو إذا شئت الجدل.

 ما زلنا في بحث العدالة، وأكدنا أولا في الإقرار بالعدالة أن يكون الراوي مع أمانته، قادرا على الوعي والحفظ والأداء، وكل ذلك تفقده في الراوي علماءُ الجرح والتعديل.

وقلنا إن العدالة العامة هي الأصل في المسلمين، وأكدنا أن ذلك لا يعني رواية كل من روى. ولذا فقد توقفوا في الرواية عن مجهول الحال، فالرجل إما أن يكون معروفا مشهورا بين الناس بأمانته وضبطه وتوازنه، وإما أن يكون مغمورا لا يعرف عنه أحد شيئا، فالمشهور بأمانة وصلاح وعقل وضبط تمر عدالته كأمر واقع، مالم يذكره أحد بسوء، وهذا سيدخل بنا إلى علم الجرح. وإما أن يكون مغمورا مستورا لا يعرف عنه أحد شيئا، فهذا الذي يسمى الراوي المجهول، الذي تحجب عنه شهادة العدالة، حتى يتم التبين والتبيين. فإذا لم يحصل التبيين تم تضعيف الحديث بوجود المجهول في رواته، إلا أن يسعفه شاهد أو متابع من المعروفين.

الجرح والتعديل: علم تقديري اجتهادي..

وهذا يجب أن يكون مستحضرا في كل مراحل السير في رحاب علم الرواية. علم الجرح والتعديل علم اجتهادي. وبالتالي تكثر فيه الآراء. وتختلف تقديرات الناس للناس. فرب أمر يعرفه رجل، ويغيب عن آخر، ورب أمر يستعظمه رجل ويستصغره آخر، وكذا تختلف تقديرات الناس تشددا أو تساهلا، ولا نستطيع أن نغفل ونحن نتحدث عن عملية الجرح والتعديل، عن تدخل العوامل غير الموضوعية، في قرار المحدث صاحب القرار أحيانا، فنحن في النهاية نتحدث عن بشر ...فيكون للاختلافات بشتى خلفياتها أثر في الحكم الاجتهادي لكل إنسان.

ولكن وما بعد ولكن هنا مهم جدا، يبقى العقل الجمعي أو القرار الجمعي لرجال الجرح والتعديل أقرب إلى الصواب والسداد بإذن الله. فقد استطاع المحدثون من رجال الجرح والتعديل أن ينفوا عن خلاصة أحكامهم البغي والحيف، وأشكالا من التشدد أو التساهل واللين عرفوا بها بعضهم فراعوها.

في علم التعديل يستخدم العلماء مصطلحات خاصة في توثيق الرواة فيصفون الراوي بالأوصاف التالية ومن الأعلى إلى الأدنى

مثل قولهم : أوثق الناس -أضبط الناس – اثبت الناس – لا نظير له وهكذا..

ويليه قولهم

حجة – ثقة ثقة- أو - ثبت ثقة – أو -ثبت ثبت- و ثقة – أو ثبت- أو- صالح الحديث-

ويليه قولهم: ثقة – ثبت – متقن –

ويليه قولهم صدوق – لا بأس به – مأمون - ..

ويليه قولهم: جيد الحديث – صالح الحديث – حسن الحديث

ويليه قولهم: لا بأس به – قريب من الصواب – أرجو أنه .. يُكتب حديثه

المهم أن نعرف أيضا مع معرفتنا أن هذه الأوصاف اجتهادية، أنها في الوقت نفسه مصطلحات تكاد تكون فردية، اختص كل محدث تقريبا ببعض وخصها بدلالة، وكل ذلك من العلم الذي يتداوله المحدثون بينهم.

أسأل الله لي ولكم مقام العدول الضابطين...

اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وعقولنا وذاكرتنا أبدا ما أحييتنا واجعله الوارث منا...

ثقافة حديثية ميسرة – 13

الجرح

اللهم سلّمنا وسلّم منّا وسلّم بنا يا كريم..

والجرح أن يقال في الراوي قول، يُنال فيه من ديانته واستقامته وأمانته ومروءته، أو يُقال فيه قولٌ، يقدح في ضبطه ووعيه، فينسبه إلى غفلة أو نسيان أو ضعف ذاكرة إن كان يروي من حفظ، أو اضطراب كتاب إن كان يروي من كتاب.

وأبدؤكم بفائدة أولى، نصوا عليها متضمنة في سياقات متعددة فغابت عن الأذهان، وأراها تحتاج إلى إشهار وتقديم. ألا وهي أن الراوي المجروح في دينه وأمانته ولاسيما إذا تمادى الجرح إلى نسبته إلى تعمد الكذب، أو لا مبالاته بالرواية عن الكذابين، يختلف حاله وحال ما يرويه عن الراوي المجروح بضعف ذاكرته أو قلة ضبطه أو اضطراب كتابه، فتأمل هذا واحفظه، وهذا له انعكاس بعدُ على الحديث المروي، وكيف يتعامل معه المحدثون..

يقول لك: حكم المحدث على الحديث: ضعيف، نعم ضعيف، ولكن كم هو الفرق بين حديث يؤتى من رجل مشبوه مدع قليل أمانة، وحديث يؤتى من رجل يحاول ولكن لا تسعفه ذاكرته؟؟!!

لاشك أننا نضع الأول في دائرة "السخط والمقت" ونضع الثاني في دائرة الشفقة والعطف. وأننا نحلّق على حديث الأول بالدائرة الحمراء أو البرتقالية، وعلى حديث الثاني بإشارة استفهام كبيرة نرجو أن يكون له متابع أو مساند أو شاهد ، أو نجعل منه – الحديث – متابعا أو مساندا أو شاهدا. فاحفظ هذا ولا تنسه.

وهذا باب من العلم سنصير إليه –إن شاء الله – عند بحث العمل بالحديث الضعيف.

المهم في علم الجرح أن نميز بين المجروحين، مجروح الأمانة ومجروح الضبط، حتى في موقفنا العاطفي.

ثم أثني عليكم بقولهم: "الجرح مقدم على التعديل..!!"

لأقول وهذه قاعدة شديدة العموم، يطلقها أرباب الصنعة لعلمهم بمدلولها، أما أن ُتحمل كسيف في أيدي بعض "البغاة" يسقطون به كل عباد الله الصالحين، فهذا أمر من المنكر الذي لم يرتضه عالمٌ رضيّ.

ولأعيد صياغة القاعدة بطريقة أكثر ضبطا وأكثر تفصيلا سأقدمها لكم بالطريقة التالية: "كل جرح مبين مفسر معلل مقبول أو متفق عليه مقدم على التعديل المبهم"

يدخل معنا في السياق مصطلحان: المبهم والمفسر، وكلاهما يستعمل في الجرح وفي التعديل.

المبهم: أن يقول الجارح : ضعيف أو متروك، دون بيان السبب، وأن يقول المعدل : ثقة أو ثبت دون بيان السبب.

المفسر: أن يقول الجارح ضعيف أو متروك أو ساقط الحديث لأنه.... وأن يقول المعدل ثقة عدل ولا صحة لما يقال عنه، أو يشاع عنه فينقل التهم التي أثارها الجارح وينفيها أو يفندها. أما أن يُطلب من المعدل أن يذكر أسباب التعديل، فهذا أمر لا يحاط به.

إذن أولا لا يقبل الجرح على إطلاقه. هذا واحد

ثانيا -ويقبل الجرح المبين بذكر إحدى النقائص أو العيوب مبينة مفسرة.

ثالثا- وإذا اجتمع في الراوي جرح وتعديل، نظر في حجة الطرفين، وقبلت الحجة الأقوى، وإن تساوتا قدم التعديل على الجرح.

وإذا كان الجرح في الرجل المجهول، فلا يُقبل فيه، ولكن يجعلنا نتوقف في قبول حديثه. ويبقى الحديث وراويه تحت قبة إشارة الاستفهام.

بقيت عندنا في هذا الموضوع نقطتان..

الأولى من ثبتت إمامته من علماء الأمة لا يقبل فيه طعن..

 من ثبتت إمامته من علماء هذه الأمة، لا يؤثر فيه جرح ولو مفسرا. وهذا من أهم الأمور وأخطرها في عصر الظلمات الذي نعيش.

وهناك جمهرة من أئمة المسلمين هم العدول لا ينال منهم جرح جارح. بل يقال في الواحد منهم: هو البحر يضيع كل ما يُلقى فيه. ولو أخذنا بقاعدة: الجرح مقدم على التعديل على إطلاقها، لما سلم من أئمة المسلمين أحد. وهذه الجمهرة من علماء المسلمين هي لسان الميزان، تقول ولا يقال فيها ، بل ويهدر كل ما يقال فيهم. وكان بعض الأئمة يتأثم أن يروي ما قيل في مثل هؤلاء.

 وما أرقى الإمام الذهبي رحمه الله تعالى عندما ألف في تراجم الرجال. قال وهناك طبقة من العلماء أجللتهم عن أن أترجم لهم في كتابي، مثل الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام البخاري ...!!

إن دواعي قول البشر ببعضهم كثيرة ومتكاثرة، وبعض الناس يقول في الناس لأنه متشدد، وبعض الناس يقول في الناس لأنه متعصب، وبعض الناس يقول في الناس لأنه متعنت، وبعضهم يدفعه إلى القول اختلاف مذهب أو بلد أو يبلغه عن صاحبه قولا لا يدركه أو يظن فيه ظنا فيحققه، من غير بينة. ومن هنا قالوا لا يقبل الطعن في أئمة المسلمين وعدوا رجالا سموهم بأسمائهم، وأعدكم بهم في قابل الأيام إن شاء الله..

والنقطة الثانية: وتأملها فهذه قويمة ولذيذة أيضا ترد الروح..

ولا يقبل قول كل جارح ولو كان الجارح من الأئمة في حق إمام...

 يا الله ما أقوم هذا المنهج الذي يشهد واضعوه على أنفسهم، فيشهد التلميذ على شيخه والتابع على متبوعه..

فهذا الإمام السبكي ينتقد شيخه الإمام الذهبي فيقول عنه: كان مع غاية توازنه وورعه، يحط على الأشاعرة والصوفية..!!

وقالوا ولا يقبل كلام الإمام الثوري وهو إمام حق في الإمام أبي حنيفة!!

ولا يقبل قول ابن أبي ذئب وهو حجة في الإمام مالك!!

ولا يقبل قول ابن معين وهو إمام حجة في الجرح والتعديل في الإمام الشافعي..!!

وهكذا تجد هذه القاعدة المكملة للقاعدة السابقة، فحتى عندما يصدر القول في حق إمام يبقى القول محمولا على بشريتنا وضعفنا في كل حال..

يقول الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ "كلام الأقران بعضهم ببعض لا يُعبأ به. ولاسيما إذا لاح لك إنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد – قال زهير أو لاختلاف بلد- رجع القول إلى الإمام الذهبي فقال: ولا ينجو منه – يقصد العصبية والحسد – إلا من عصمه الله تعالى..

وما زال للقول في الجرح بقية فنتابع...

وأحب أن أشير أنني نقلت في هذا المقال نصوصا كثيرة من مدونة عندي محفوظة من كتب أصحاب الشأن

 فجزى الله أصحاب الفوائد خير الجزاء ورحم الأحياء منا والأموات..

ثقافة حديثية ميسرة -14

معجم مصطلحات المحدثين..

وسيظل يَبْهرنا ويُبْهرنا هذا العلم المنيف برواده وأساطينه، ونحن نتابع عطاءات الجهابذة من الرجال العظام الذين قاموا عليه.

وحتى القرن العشرين تقريبا تنبهت مدارس النقد الأدبي حول العالم إلى أنّ لكل أديب أو شاعر أو مبدع، معجما خاصا، وألفاظا خاصة، واستعمالات خاصة لمفردات اللغة، العامة والاصطلاحية، وأنه ينبغي للناقد الذي يسبر أعماق الفنان، أو يستطلع آفاقه، أن ينتبه إلى معجم هذا الشاعر، أو هذا الفنان، وأن ينتبه إلى طريقة تأتيه في استعمالاته لمفردات اللغة، كما يستعمل الساحر قبعته أو عصاه..

ولكننا الآن ندرك أن علماء مصطلح الحديث من رجال أمتنا قد سبقوا إلى ذلك أكثر من عشرة قرون..

نحن الآن نذكر أقسام الحديث ومصطلحاته. نحفظ متن البيقونية أربعة وثلاثون بيتا، تقرب لنا هذه المصطلحات، ثم نقرأ شرحها بشرح الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله تعالى أو غيره من أهل العلم، فنظن أننا قد استوفينا!!

عنوان مهم من عناوين إعجاز القرآن الكريم. هو وفرة المصطلحات الشرعية الخاصة به، وتمكنها وانتشارها حتى تغلب أحيانا على الأصل اللغوي للكلمة...

استحضر ذلك عندما تذهب إلى كتب الفقه، فيقول لك الفقيه: الزكاة : لغة : النماء. وشرعا....الحج لغة القصد: وشرعا... الجهاد لغة: بذل الجهد: وشرعا...وهكذا ستجد منظومة من المصطلحات القرآنية قد شكلت البنيان العملي للغة هذا الدين الخاصة به. لعلها تحتاج إلى الإفراد والتتبع.

في تاريخنا الثقافي الثري أكثر من معجم للمصطلحات الثقافية والفكرية لعل أكثرها انتشارا معجم التعريفات للشريف الجرجاني/ القرن الثامن. يقدم لك حدودا وتعريفات لأغلب المصطلحات الشرعية والعلمية والصوفية السائدة في عصره.

ونعود..

نشأ علم الحديث رواية ودراية..

واشتغل به رجال؛ رواة ومحدثون ونقاد. وفرضت لغتُه نفسها على المشتغلين به. ولو سألنا أنفسنا الآن من هو المبدع الذي وضع مصطلحات: الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، والمتصل والمقطوع والمعضل ، والموقوف والمرفوع، والمرسل والمتصل، والشاذ والمنكر والمعلول والمسلسل..؟؟ بل من وضع مصطلح الجرح والتعديل ومصطلح العدل والضابط والثقة والثبت والليّن ومن قالوا فيه : ليس بشيء، ولا يُنقل عنه...؟؟

سؤال علمي لو طرحناه لما وجدنا جوابا دقيقا غير أن نقول: إن الذي وضع هذا المصطلحات وأقرها وتداولها وعمل عليها هو "العقل الجمعي" للمشتغلين في رواية الحديث الشريف وجمعه، من جيلي التابعين وتابعيهم من خير القرون. اقترحوا المصطلحات (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ) وسموا كل أنواع الحديث الشريف بشتى مراتبه، وجعلوا هذه الأسماء عناوين للاختصار. فإذا قال لك: شاذ ، علمت أن راويه ثقة خالف الثقات. وإذا قال لك منكر: علمت أن راويه ضعيف قد خالف الثقة. أو لعله قد خالف من هو أوثق منه.

محط مقالنا اليوم أن هذه المصطلحات أول ما وضعت وأقرت وتم تداولها لم تكن تجري على ألسنة المحدثين، وفي مصنفاتهم؛ بمعنى واحد. بمعنى أن هذه المصطلحات لم تصدر عن مجمع علمي موحد. ولم تنشر بمعناها المحدد الدقيق في جريدة رسمية تحدد أبعادها. ومن هنا تعددت استعمالات أصحاب الشأن لها، وصرنا بحاجة إلى نقاد من طبقة علمية أكثر استشرافا وتدقيقا تخبرنا ماذا يريد الإمام أحمد مثلا عندما يقول حديث منكر، أو عن راو إنه منكر الحديث!! وماذا يريد الإمام البخاري عندما يقولها، وكلا الرجلين إمام؟؟

لا نستطيع في هذه المقالة الثقافية أن أمضي بكم في طريق الاستقراء أو الاستقصاء، وسأكتفي بعرض نماذج من اختلافات المحدثين في استعمال المصطلحات التي تتعلق بالجرح والتعديل خاصة. حتى لا يظن ظان أن هذا العلم لين الجانب على المتكئين على الأرائك. وإنما يؤتى هذا العلم في هذا العصر من فريقين من الناس؛ الأول فريق يستسهل ضرب أحكام الشريعة ببعضها، بانتزاع الأحاديث الشريفة من سياقاتها الشريفة واستخدامها كأداة للإغراب أو الإنكار على الناس. وفريق صعب عليهم الرقي فقالوا هذا حصرم فأنكروا السنة الشريفة التي هي في حقيقتها طود لا يرام.

في الاحتياطات اللفظية في علم الجرح والتعديل يحذرون مثلا من قولهم: فلان كذاب، وهي من أقسى التهم كما ترون. أن يتعثر بها إنسان. ويقولون لا بد لهذا الوصف من بيان. وأن هذا الوصف قد يطلقه الراوي ويقصد به الخطأ . وهذا جار في اللسان العربي. ولذلك قالوا لا بد من البيان أو التبين عند الوصف بالكذب. هل يريد الواصف مجرد الخطأ ، أو حقيقة الكذب. ويستشهدون على ذلك العربي كذب سمعي، أي ظننت أني قد سمعتُ. وكذب بصري أي ظننت أنني قد رأيت.

أنموذج آخر في التغاير في استعمال المصطلح..

 كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى يقول في الحديث أو في الراوي "فيه نظر" أو "في حديثه نظر" أو "في أحاديثه نظر" فيشير إلى أن الحديث أو الراوي إلى الضعف ما هو، فإذا قال في الراوي "منكر الحديث" أو "حديثه منكر" قصد من لا تحل الرواية عنه. أو ما لاتحل روايته. أي هو عنده إلى الموضوع أقرب. بينما نجد الإمام أحمد رحمه الله تعالى يطلق لقب "المنكر" ويحقق المحققون في قصده فإذا هو يطلقه على الحديث الفرد الذي لا متابع لراويه. وهو على ذلك من درجات الضعيف.

ثم انظر إلى تعريف الجمهور للحديث المنكر: راو ضعيف يخالف الثقات. أو من هو أوثق منه. فتحصل لنا في المنكر ثلاثة أقوال من غير تتبع مني، ولا استقصاء

منكر الحديث عند البخاري : راو لا يحل الرواية عنه، وحديث لا تجوز روايته.

منكر الحديث عند الإمام أحمد: راو متفرد في الرواية لا أحد يتابعها، وهو يُغرب عن غيره من الرواة، ويغرد منفردا.

منكر الحديث عند الجمهور: الراوي الدون يخالف من هو أوثق منه، فردا كان أو مجموعة ثقات..

 أردت فقط أن أبين أن اختلاف المصطلحات في أذهان أو على أقلام المحدثين، يؤدي إلى اختلاف الأحكام. وأردت أن أؤكد أن جهابذة المحدثين من أساطين هذا العلم تنبهوا لذلك وعرفوه ودققوا فيه. وأعطوه حقه من الاعتبار ليبقى حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محاطا بالحفظ..

وأمثلة ذلك كثيرة في كتب المحدثين فقد عرف فريق من المحدثين بالتشدد في التعديل وعن آخرين الإفراط في الجرح، وأحيانا يسبق وصف "الضعف" إلى وصف الراوي إذا ذكر من هو أوثق منه. وهكذا تجد أن جهابذة المحدثين يتتبعون المحدثين في كتبهم فيحذرونك من قبول تضعيف هذا أو توثيق ذاك، وكثيرا ما ينسبون ذلك إلى إفراط أو تفريط أو حمل على سياق كلام.

وخلاصة هذه المقالة: أن أحكام الجرح والتعديل لا تؤخذ من تقريرات أفراد. وإن كانوا علماء أثباتا، وإنما تؤخذ من نتاج "العقل الجمعي" لجهابذة هذا العلم الذين تتبعوا ودققوا، وعرفوا كل لفظ أو وصف صدر عن واحد منهم بحقه وعلى حقيقته. ومن هنا تجد في عناوين هذا العلم موضوعات متباينة في محاولة جادة قاصدة لجمع شتات الأحكام على الرجل، وغربلتها وتدقيقها، واعتماد ما هو أقرب إلى الحق منها.

خلاصة مقالنا اليوم: لا تتسرع بنقل ألفاظ الجرح والتعديل. إلا بعد الاستيفاء والتتبع والتأكد ..وكن دائما متجردا كأنك قاضٍ

مقالنا القادم: حول الجرح بالبدعة، فما هي البدعة وما هو الموقف من المبتدعين..

ثقافة حديثية ميسرة – 15

أثر الابتداع في الدين في الجرح والتعديل...

حديث عن المعطلة في ثوبيهم القديم والجديد...

السؤال الذي سنعالجه في هذه المقالات هو ما هو أثر الابتداع في الدين، في مناهج علماء الجرح والتعديل؟؟ هل قبلوا رواية المبتدع مطلقا؟؟ أو هل رفضوها مطلقا؟؟ أو كانت لهم في ذلك معالم وحدود وشروط؟؟

وقدمنا في مقال سابق أن السلف حين يتحدثون عن الابتداع يقصدون، الابتداع العقيدي. وأن أشهر فرق أهل البدعة التي انتشرت في القرنين الثاني والثالث هي فرق المعطلة – والمشبهة- والمرجئة- والقدرية – والجبرية- وأهل الغلو من الخوارج، وأهل الغلو من الرافضة.

ولا أدري إن كان المقام يسمح بالتعريف بهذه الفرق التي نبتت كالشوك على ضفاف دعوة الإسلام الدين الحنيف الخالص؟؟ و الحديث عن هذه الفرق من الناحية العقيدية، مبسوط في مظانّه في كتب الفرق. وكتب العقائد أي علم الكلام. ولكنني سأجتزئ قدر الإمكان، قبل أن أجيب على السؤال الأهم المطروح في السياق.

 المعطلة: قوم زعموا تنزيه الله. فنزهوه تنزيه تعطيل ونقص، وليس تنزيه إيجاب وكمال. وما أقبح الإنسان يعتقد النقص كمالا !!

 نزهوه ، تعالى الله، حتى عن الأسماء والصفات والفعل والتدبير. وأنه تعالى لعلوه وتساميه فوق أن يقدر ويدبر. وفوق أن يكون قريبا قرب رحمة وود ولطف من مخلوق ضعيف أو كما يقولون حقير!! وهذا قول سبق إليه أرسطو من قبل ألف عام : بأن الله جلّ أن يفعل. وجل وهو خالق الأكوان أن يعنى بشأن الخلق. وأنه تعالى خلق الخلق، وخلق ما سماه أرسطو "العقل الأول" وأسند إليه أمر تدبير العالم. ستجد ظلال هذه النظرية الأرسطية، في إسناد تدبير العالم للعقل الأول، عند العديد من الفرق، استعارها بعض الرافضة، فقالوا بنظرية الأئمة الذين يدبرون الوجود نيابة عن الله. وأن أسماء أئمتهم محفورة على قوائم العرش. وأنهم مختارون معصومون.. واستعارها بعض المتصوفة فقالوا بنظرية القطب والأوتاد والأبدال الذين "يدبرون الأكوان" نيابة عن الله!!

الله ،جل الله، عند المعطلة مجرد وجود سببي، يحال عليه الخلق هو "العلة الأولى". ويعزل عن الأمر، وحتى تنكر عليه الأسماء والصفات، بطريقة لولبية متسفلة.

هل سمعتم تصريح بابا النصرانية الأخير فرانسيس الأول : الله مجرد فكرة جميلة في القلوب!! فهذا هو التعطيل بعينه. التعطيل هو نوع من الإلغاء العملي لقيّوميّة الله على خلقه. ففي القرآن الكريم (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) القيّوميّة المطلقة على كل ما في الكون. وفيه (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ) (

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ما يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) ففي عقيدتنا أهلَ السنة والجماعة لا يسكن ساكن ولا يتحرك متحرك إلا بعلمه وإذنه وإرادته. سبّب الأسباب، ربنا تدبير تنظيم، فالأسباب فاعلة بإذنه وقدرته، لا تنفصل عن قيّوميّته، وقيّوميّته عليها لا تنقطع. ولا تحد. السبب يفعل بأمره وإذنه وتدبيره وقيّوميّته. وليس كالصانع صنع الآلة وغاب عنها كما يزعم المعطلون!! والقدريون

ومن التعطيل العصري الجديد ما يطرحه بعض "العلمانيين" أن الله حقيقة مكانها القلب. وأن لله السماء ولهم الأرض. وأن له الخلق ولهم الأمر!! وعقيدتنا نحن المسلمين (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) وعقيدتنا (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ) فليجادل كل امرئ عن نفسه. فهؤلاء المبتدعون يزعمون أنهم أصحاب القرار، وهم مالكو حق التشريع، ويتكرمون على الله ،جل الله، أن يفسحوا لهم مكانا في زوايا المعابد..

وهذه البدعة الجديدة في حياة الناس اليوم لم يكن لها سلف في عالم المسلمين من قبل. حتى صار الناس إلى حالة من الازدواج المرذول. الذي نعايشه ونراه...

المعطلة الأوائل الجهم بن صفوان ومن انسلّ من فرقته، يتمظهر اليوم في هذا الثوب الجديد من الدعوة إلى أن تنكر بعض الفرق على الله حق التشريع، وتدعيه لنفسها، تحت عناوين خلابة مزخرفة (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا). والأعجب أن فيهم من يصوم ويصلي، ويزعم أنه مسلم..!!

ولربنا تعالى "الأسماء الحسنى" و"الصفات العلى" ولا نقول عن ربنا "العلة الأولى" ونرفض أن يقال عن ربنا "مهندس الكون الأعظم"

أسأل الله أن نظل نستشعر رعاية الله وحفظه وقربه ووده... (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)

(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ)

نجلي عتمة الحديث عن أهل البدع عن قلوبنا بقراءة القرآن. وما أشد نكارة التعطيل بدعة في الافتراء على الله..

ثقافة حديثية ميسرة – 16

أثر الابتداع في الدين في الجرح والتعديل...

2- من فرق المبتدعة: المشبهة ..

والمشبهة فرقة أخرى من فرق أهل البدعة والضلالة في تاريخ الإسلام. وهي نقيض فرقة المعطلة التي عطلت كل النصوص الثابتة المتعلقة بالأسماء والصفات، وأولتها تأويلات بعيدة، خارجة عن التصور الإسلامي القويم..

والمشبهة فرق ومدارس، وقوام مذهبهم أنهم يشبهون الله بخلقه. ويتمسكون بظاهر نصوص آيات الأسماء والصفات، ويزعمون أن الله ،جل الله، جسم وله من الأعضاء ما ذكر في ظاهر الآيات. يد وعين ووجه وأنه يجلس العرش، ويصعد وينزل ويروح ويجيء !!. ويمرون كل هذه الآيات وربما زادوا واستفاضوا في التشبيه. اعتمادا على حديث أبي هريرة المتفق عليه "إن الله خلق آدم على صورته" فتحدثوا عن ..

وهنا حقيقة أخرى أخرى تتعلق بعلم الحديث أذكركم بها عندما نصير إليها. ونصير إلى مثل هذا الحديث وأمثاله من النصوص.

وتصل بهؤلاء ترهاتهم أن يقولوا في الله قولا منكرا عظيما، لا تكاد تحتمله العقول السوية، والقلوب النقية. وقد ألف في القرن السادس الهجري الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي كتابا في الرد عليهم سماه "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" وأورد فيه بعضا من مقالاتهم الشنيعة، التي تقشعر منها الأبدان، وردها عليهم ردا جميلا مفندا ما قالوا. والخطير في الأمر أن أصحاب هذه البدعة الشنيعة ما يزال لهم بقايا تعيش بين المسلمين، وينفثون جهلهم في عقول الأجيال. مدعين التمسك والالتزام.

مذهب أهل السنة والجماعة بين المعطلة والمشبهة...

إن الآية المفتاحية التي يتفق عليها أهل السنة والجماعة في فهم آيات الأسماء والصفات، وبناء التصور الإسلامي القويم عن الله سبحانه وتعالى هي قول الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). فكل التفسيرات والتصورات التي يعتقدها المسلم عن الله سبحانه وتعالى تقوم على أساس هذه الآية الكريمة، وتنضبط بها. ويقول أهل التفسير: إن الكاف في قوله "كمثله" للتوكيد، والمعنى المراد: ليس مثلَه شيء . بمعنى نفي المثل والشبيه والند والكفو والشريك عن الله تعالى. وكل آية في كتاب الله أوهمت غير ذلك، من اسم أو صفة أو نسبة حركة أو فعل مثل "يضحك ربكم ..يعجب ربكم .. يغضب ربكم" يجب أن ينضبط تفسيرها بها وأنه تعالى ربنا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ولا هو مثل شيء من خلقه. الله ربنا جل وعلا ليس جسما ولا تشبهه الأجسام، خلق الزمان والمكان فليس يحتويه زمان ولا مكان بل هو في سرمديته متعال عن الزمان والمكان..

ويتفق أهل السنة والجماعة على الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله تعالى من حديث عن أسماء وصفات. فهو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الغفار الوهاب الرحمن الرحيم الودود اللطيف الخبير مالك الملك القريب المجيب المتعال ..

ويمرون على آيات مثل قوله تعالى لسيدنا موسى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي). وقوله تعالى (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) وبقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وبقوله تعالى (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ) وبقوله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ) .. فيتفقون على أصل ويختلفون على فرع.

أما الأصل الذي يتفقون عليه فهو إثبات هذه الصفات لله تعالى على قاعدة أنه ليس مثله شيء. فيقولون عين ليست كالأعين، ويد ليست كالأيدي، واستواء يليق بجلاله. ومجيء يليق بتنزيهه وهكذا ...ثم يفترقون،

ففريق يسمى أهل التفويض يقول: نؤمن بكل ذلك لربنا، على المعنى الذي أراده منه، وفي إطار (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ونتوقف عن مراد الله فيه. من غير "تعطيل ولا تشبيه" في إعلان براءة من الفرقتين المبتدعتين اللتين نتحدث عنهما أقصد المعطلة والمشبهة .

والفريق الثاني ويسمى أهل التأويل يقول: نؤمن بكل ذلك لربنا، ونسلم به وفي حدود قول ربنا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) من غير تعطيل ولا تشبيه، ولكننا علمنا من دلالات اللغة أن لفظة العين تدل على رعاية وعناية وكلاءة فنفهمها من قوله ولتصنع على عيني. وأن اليد ترمز إلى القدرة ومباشرة التنفيذ، فنفهمها من قوله تعالى خلقت بيدي، واليد المبسوطة تشير إلى وافر العطاء. والوجه يشير إلى الإنسان حقيقته وذاته، والاستواء يفيد الاستيلاء والسيطرة، وهكذا يلتحم مذهب أهل السنة والجماعة على هذين القولين غير المتعارضين، بل ربما يتقدم أحدهما خطوة على أخيه.

إن مدرسة الإغراق في التشبيه أدخلت الوهن والفساد على العقل المسلم بحيث أدت في تاريخ التصورات الإسلامية إلى نوع من الوثنية. وكثير من عقائد أهل التشبيه إنما هو متسرب من الإسرائيليات ففي العهد القديم في الحكاية عن ربنا جل وعلا أنه خرج يتمشى في الجنة عند العصر، وأنه جل ربنا صارع يعقوب فلم يقدر على صرعته حتى ضرب حُق فخذه!!

إن التئام موقف أهل السنة والجماعة كان في كل العصور على اعتقاد أمرين: الأول الاتفاق على التنزيه المطلق لله تعالى، وأنه ليس كمثله شيء، وليس له ند ولا شبيه ولا شريك. وأنه ربنا لا يشبه أحدا من خلقه، ولا يشبهه أحد من خلقه. ثم التسليم بسائر الآيات والنصوص القطعية الواردة في ذكر أسماء ربنا وصفاته تعالى. ثم يعذر أهل التأويل أهل التفويض في توقفهم.

و ولقد كان لهذه البدعة بدعة القول بالتشبيه والتجسيد مساحة أوسع في مناهج علماء الحديث سنصير إليها عندما نعالجها في سياقاتها...

والله أعلم

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 977