لقطات من معاناة معتقل -13-

تحت عنوان "من تدمر إلى هارفارد" كتب الدكتور براء السراج، الأستاذ في قسم زراعة الأعضاء في كلية الطب في شيكاغو، مذكراته عن سجن تدمر. ونسجّل هنا بعض فقرات من مذكراته الغنية، في حلقات قصيرة متتابعة:

الأول من تموز 1989م:

كانت المؤشرات كلها تصبّ في أن أياماً قاسية بانتظارنا، وحتى مناماتي منذ أول العام كانت بحاراً مظلمة وغيوماً داكنة. وكان رعباً عظيماً عندما أخرجونا إلى التنفّس عصراً. كان ضابط أمن السجن محمد نعمة في الباحة وبلباس عسكري جديد، وعلى عضده الأيسر إشارة رتبته الجديدة: مساعد. كان يمسك ببورية مياه أطول منه وكان يدقّها على الأرض، وأمرنا أن نلمّ الحصى من الباحة دون أن يضربنا أحد. بدءاً من هذا اليوم أصبح التعذيب لا يُطاق، ليلاً ونهاراً. وكان الضرب بالعفس بالبسطار العسكري، أو بالرفس على كل مناطق الجسم، وأصبحت خياطة الجروح بإبرة الخياطة أمراً اعتيادياً إثر كل فتحة باب. كانوا يخرجوننا تماماً بدءاً من التاسعة صباحاً، والخامسة مساءً، لنبقى تحت التعذيب نصف ساعة. كانوا يأمروننا أن نرش الباحة ببدونات الماء، ثم نخرج بسرعة، كل خمسة ممسكين بأيدي بعضنا بعضاً لنجلس فوق حفر الماء وندفن رؤوسنا للأرض تقريباً، ثم يبدأ انتقاء الضحايا للضرب والعفس والرفس. صرت أصلّي ركعتي الشهادة قبل كل فتحة باب، وصرتَ ترى الرجال تبكي مما نحن فيه من البلاء. كان وقت العصر أثقل علينا من الصبح وأشد تعذيباً، وكنتُ أمضي الوقت بقراءة القرآن مع صديقي مازن بتأن وتنغيم بينما الصراخ يتعالى في الباحات.

10 تموز 1989م:

كان يوماً من أصعب أيام السجن، فقد أصيب أكثر من نصف المهجع البالغ عدده 130 سجيناً بكسور مختلفة، فقد كُسر 36 في تنفّس الصباح و38 في تفقّد المساء.

15 آب 1989م:

قُرئت أسماء معظم شباب الطليعة للإعدام. كان مصطفى زلخي (أبو حمود) من جسر الشغور الوحيد منهم في مهجعنا. لم يُرِد أن يودّع أحداً قبل أن يخرج. كنتُ متلهّفاً لرؤية صديقي نهاد البوشي لإلقاء النظرة الأخيرة عليه وهو يخرج من المهجع المقابل. كنتُ أنظر من شق الباب السفلي عندما خرج أصدقائي جميعاً، وكان نهاد رافع الرأس ممسكاً بخصر مَن أمامه. تذكّرتُ بيتاً كان يُنشده دوماً بصوته الجميل:   ومَن نزلتْ بساحته المنايا     فلا أرض تَقِيه ولا سماء

استمر الإعدام حوالي السبع ساعات قبل أن تعود الشرطة من جريمتها. أصابتني حالة من الحزن لم أجد لها فكاكاً، وكنتُ أخفي رأسي بين ركبتيّ حتى لا يلاحظني أحد. وجدت تفسيراً أراحني فيما بعد، وهو أننا عندما نبكي على من نُفارق فإنما نبكي أنفسنا أن بقينا وراءهم ولم نذهب أيضاً، ربما نوع من الأنانية، وعلى كلٍّ هناك يوم قيامة وهناك لقاء فَلِمَ الحزن؟!.

وسوم: العدد 982