الإمام حسن البنا والقضية الفلسطينية ٢

dghdgh1001.jpg

مقدمة:

منذ سنة 1968 تقود حركة فتح ساحة العمل الوطني الفلسطيني، وسنة 1987 أخذت حركة حماس تقاسمها النفوذ على هذه الساحة. وإذا ما علمنا أن الحركتين كلتاهما قد خرجتا من رحم الإخوان المسلمين (مع إدراكنا أن فتح اتجهت منذ مرحلة مبكرة اتجاهاً علمانياً)، فلعلّنا ندرك إلى أي مدى كان تأثير الإمام حسن البنّا وفكره في العمل للقضية الفلسطينية.

لقد حقّق الشيخ البنا ومدرسته ثلاثة نجاحات متميزة قلّما تتحقّق لشخص من الشخصيات أو حركة من الحركات:

الأول: نجح البنا في تقديم خطاب إسلامي يتّسم إلى جانب كونه شاملاً وناضجاً بأنه بسيط سهل الفهم؛ وهو ما جعل الخطاب الإسلامي ينطلق من أَسْر الفئات المثقفة والنخبوية (التي ميزت خطابات الأفغاني وعبده ورشيد رضا...) إلى الفئات الشعبية وإلى جميع طبقات المجتمع، والتي أخذت تتبنّاه وتترجمه في سلوكها وحياتها اليومية وممارساتها الاجتماعية ومواقفها السياسية.

الثاني: نجح البنا وحركته في تجاوز الخصوصية الإقليمية التي كانت عادة ما تطبع حركات التجديد والإحياء الإسلامية التي سبقته أو عاصرته، كالوهابية في الجزيرة العربية، والمهدية في السودان، والسنوسية في المغرب العربي، والنورسية في تركيا، وماشومي في إندونيسيا، والجماعة الإسلامية في القارة الهندية. ونجح البنا في بناء حركة تتجاوز الإطار الجغرافي المصري، ويتوزع أفرادها على معظم بلدان العالم الإسلامي، وتجمعات المسلمين في المهجر. بل وحقّقت حركته نجاحات كبرى لتصبح أقوى التيارات الشعبية في عدد من البلدان. وفلسطين هي أحد هذه النماذج.

الثالث: نجح البنا في تقديم حركة قابلة للحياة والتجدّد والاستمرار عبر الأجيال، ولا تزال هذه الحركة تتمتّع بالقوة والحيوية واتساع الانتشار (بعد أكثر من 57 عاماً على استشهاده)، على الرغم من كثرة الصّعاب التي واجهتها وعلى الرغم من محاولات سحقها وإضعافها وحرفها عن مسارها.

وعلى ذلك، فإننا عندما ندرس موقف الشيخ البنا من القضية الفلسطينية، لا نقوم بمجرد نفض الغبار في ملفات التاريخ عن سيرة مفكر أو مجاهد، وإنما نتعامل مع رجل نجح في صناعة الأحداث في عهده، ولا يزال فكره ومدرسته وحركته تشارك في صناعة تاريخ المنطقة المعاصر حتى بعد وفاته بأجيال. ولذلك، لا غرو أن حركة حماس (الذراع المجاهد للإخوان المسلمين الفلسطينيين) التي فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية بأغلبية كبيرة في كانون الثاني/ يناير 2006، كانت تطلق على أحد صواريخها (التي استخدمتها في انتفاضة الأقصى) اسم "البنا"، وتهدي انتصاراتها السياسية والعسكرية إلى الشيخ البنا ورجال مدرسته.

وقلما تجتمع لحركة تلك النجاحات الثلاث في الجمع بين البعد الاجتماعي/ الطبقي والبعد المكاني الجغرافي والبعد الزماني، خصوصاً إذا ما كانت تسير عكس تيارات الحكم والسلطان، وتتعرض للملاحقة والمطاردة.

أولاً: رؤية الإمام البنا للقضية الفلسطينية:

  1. أمة واحدة... وطن واحد... همٌّ واحد:

أراد الشيخ حسن البنا من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين إحياء معاني الإسلام الصحيحة في النفوس والالتزام بتعاليمه عقيدة وسلوكاً ومنهج حياة، وبناء الفرد المسلم والبيت المسلم والمجتمع المسلم والدولة المسلمة، وتخليص البلاد الإسلامية من الاستعمار بكافة أشكاله، وإقامة الخلافة الإسلامية الواحدة على بلاد المسلمين، وسيادة العالم [2]. وقدّم البنا طرحاً شاملاً للإسلام يغطي جوانب الحياة المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية... وغيرها. وهو ما جعل هذه الحركة متفاعلة مع الواقع ومع هموم المسلمين وقضاياهم. كما عبّر شعارا: "الجهاد سبيلنا"، و"الموت في سبيل الله أسمى أمانينا" عن رغبة في تحقيق جاهزية نفسية عالية لدى الأفراد في الدفاع عن أرض المسلمين وحمايتها وتحريرها.

وقد عدَّ الشيخ البنا الوطن الإسلامي وطناً واحداً وأمة الإسلام أمة واحدة. وكان من الطبيعي بناءً على هذا الفهم أن يهتم الإخوان المسلمون بقضايا المسلمين المختلفة، فيذكر الشيخ حسن البنا "إن كل أرض يقال فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله هي جزء من وطننا، له حرمته وقداسته، والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره"، ولأن فلسطين كانت أسخن القضايا الإسلامية الحساسة في ذلك الوقت -وما تزال- فقد أولاها الإخوان المسلمون دائماً "المقام الأوفى في عنايتهم واهتمامهم"[3].

وقد رأى الإمام البنا أن الوطنية والعروبة والإسلام هي دوائر متكاملة غير متعارضة، وأن الشخص يسعه أن يعمل بكلّ إخلاص لمصلحة وطنه، ويعمل في الوقت نفسه لعالمه العربي ولعالمه الإسلامي[4].

وحسب البنا فإن المسلمين هم "أشدّ الناس إخلاصاً لأوطانهم...، ولكن الفارق بين المسلمين وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية المسلمين العقيدة الإسلامية. فهم يعملون لوطن مثل مصر، ويجاهدون في سبيله ويفنون في هذا الجهاد، لأن مصر من أرض الإسلام وزعيمة أممه. كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها، بل يشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطنٍ إسلامي... وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط في أي شبر أرضٍ يقطنه مسلم جريمة لا تُغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا"[5].

  1. فلسطين... المكانة والمسؤولية:

وعلى ذلك فإن اهتمام البنا بقضية فلسطين جاء في السياق الطبيعي لفهمه الإسلامي وفي صميم برنامج عمله، بل ومحكّ لاختبار مصداقية وجدّية فكره ودعوته. ولذلك يؤكد البنا أن "فلسطين وطنٌ لكلّ مسلم باعتبارها من أرض الإسلام، وباعتبارها مهد الأنبياء، وباعتبارها مقرّ المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله"[6]. ويرى البنا أن "قضية فلسطين هي قضية كل مسلم"[7]. ولفلسطين في تصوّر البنا مكانة خاصة فهي حسب قوله "تحتلّ من نفوسنا موضعاً روحياً قدسياً فوق المعنى الوطني المجرّد، إذ تهبّ علينا منها نسمات بيت المقدس المباركة، وبركات النبيين والصديقين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، وفي كل ذلك ما ينعش النفوس ويغذّي الأرواح"[8].

وفلسطين في فهم الإخوان "أرض وقفٍ إسلامي على جميع أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم إلى يوم القيامة، لا يجوز لأحد كائناً من كان أن يفرّط أو يتنازل ولو عن جزء صغير جداً منها ولذلك فهي ليست ملكاً للفلسطينيين أو العرب فحسب، بل هي ملك للمسلمين جميعاً... فعلى المسلمين في كلّ مكان أن يساهموا عملياً في تقديم المال والدم للدفاع عنها"[9].

وفلسطين "قطعة من الجسد الإسلامي العام، ولبِنة قيّمة من بنيان الكيان الإسلامي"[10]. ويربط طرح الإخوان بشكل مُحكم بين الإسلام وفلسطين، وهو طرح لا يقرّر فقط المكانة الدينية لفلسطين أو الترابط العاطفي والتاريخي معها، ولكنه يعمل لتحمّل مسؤولية العمل والجهاد، ويعدّ التخاذل عن نصرتها تخاذلاً عن نصرة الإسلام نفسه... ولذلك فحسب الإخوان فإن القول "مالي ولفلسطين في هذه الظروف" معناه مالي وللإسلام... ليست قضية وطن جغرافي بعينه، وإنما هي قضية الإسلام الذي تدينون به، فما فلسطين إلا قطعة مصابة من الجسد الإسلامي العام، ولبنة مزعزعة من لبنات بنيانه، فكل قطعة لا تتألم لألم فلسطين ليست من هذا الجسد، وكل لبنة لا تختلّ لاختلال فلسطين ليست من هذا البنيان"[11]. ويتكرّر هذا الربط المُحكم في موضع آخر عندما ينصّ الإخوان على القول "وما الشعب الفلسطيني إلا أخٌ لنا، فمن قعد عن فلسطين فقد قعد عن الله ورسوله، وظاهر على الإسلام، ومن أعانها وبذل لها وأمدّها فقد انتصر لله ورسوله ودافع عن الإسلام"[12].

  1. مشروع النهضة ومشروع التحرير:

ولذلك رأى البنا وجوب الجهاد لتحرير فلسطين ونصرة أهلها، وذكر في رسالة بعثها إلى السفير البريطاني في القاهرة "إن الإخوان سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلامياً عربياً حتى يرث الله الأرض ومن عليها" [13]. وقال في رسالة بعثها إلى رئيس وزراء مصر محمد محمود "إن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة، وهي لغة الثورة والقوة والدم"[14].

عبَّر فكر البنا عن حالة نضج مبكرة ومتقدمة في جدلية العلاقة بين مشروع النهضة الإسلامية وبين تحرير فلسطين. فقد رأى البنا أن حلّ قضية فلسطين سيكون بتلازم خطى الوحدة والجهاد [15]. فالمشروعان بالنسبة له يمكن أن يسيرا جنباً إلى جنبٍ بحيث يسند بعضهما بعضاً ويكمل أحدهما الآخر. إذ إن تحرير فلسطين يستدعي العمل على نهضة الأمة لتستكمل عناصر قوّتها ووحدتها وبالتالي تكون مؤهلة للاستجابة لتحدي التحرير وهزيمة المشروع الصهيوني. وكذلك فإن الجهاد في فلسطين ومقاومة العدو تمثل بحدِّ ذاتها عنصراً هاماً في عملية استنهاض الأمة وتقديم النماذج وبثّ معاني الجهاد والعزّة والكرامة وكشف أعداء الأمة وفي توحيدها تجاه التحديات الكبرى. ويظهر أن البنا رأى في الخطين خطان متوازيان يمكن أن يعملا جنباً إلى جنب، فلا يُشترط توقف الجهاد بانتظار الوحدة، أو إقامة الخلافة، ولا يتوقف العمل لتحقيق الوحدة بحجة الانشغال بمشروع الجهاد أو التحرير. وهو الخط الفكري الذي تطرحه حماس. إذن، فليس ثمة تعارض بين المشروعين، ولا ينبغي تعطيل مشروع بانتظار إنجاز الآخر. ولذلك نجد في أدبيات الإخوان التي يعود بعضها إلى سنة 1936 أن العمل لقضية فلسطين لن تقف بركته عند تحقيق الوحدة العربية، بل إنها ستحقّق أيضاً الوحدة الإسلامية [16]. ورأى البنا أن قضية فلسطين وثورتها كان له أثر كبير طيب على بلدان المسلمين، فعندما قامت الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936 أعادت الجهاد إلى الواقع مرة أخرى، وقام الفلسطينيون "يحسنون من جديد صناعة الموت". وسرى هذا التيار "من نفس الفئة المجاهدة القليلة في جوار الحرم المقدس إلى شباب الإسلام والعرب". وخاطب البنا أهل فلسطين "أيها الفلسطينيون، لو لم يكن من نتائج ثورتكم إلا أن كشفتم غشاوات الذلة وحجب الاستسلام عن النفوس الإسلامية، وأرشدتم شعوب الإسلام إلى ما في صناعة الموت من لذة وجمال وروعة وربح لكنتم الفائزين" [17].

ويربط البنا بين عدم القدرة على تحرير فلسطين وبين ضعف المسلمين وتخلفهم عن دينهم، وبمعنى آخر فإن عملية التحرير مرتبطة بعملية استنهاض الأمة فيذكر أن "قضية فلسطين لم تحل، ليس لأن المسلمين لا يقدرون، بل لأنهم لا يريدون، وهم لا يريدون لأنهم لا يشعرون، وذلك لأنهم مسلمون أدعياء" [18]. وبتعبير آخر نُشر في جريدة الإخوان سنة 1937 "لا قيام للباطل إلا في غفلة الحق، وإن أشد ما يمكّن لأعدائكم في دياركم قعودكم عن نصرة إخوانكم" [19].

وفي سعيه لتشجيع التواصل بين المسلمين والدفع باتجاه مشروع الوحدة، اتصل البنا بعدد من القيادات العربية والإسلامية للحصول على دعمهم لعقد مؤتمر لنصرة فلسطين، وكتب البنا في 4/10/1937 في النذير إنه لا يكفي الاستماع لمطالب الفلسطينيين الشجاعة بتقرير المصير وتحقيق الوعود...، وإنما يجب عقد اجتماع للقادة للاعتراف بحقوق المجاهدين... بهذا المؤتمر نتجه نحو الوحدة والتقدم... أيها المسلمون لا تضيعوا دقيقة دون التحضير للتحرير، ولتكونوا قادرين بعد ذلك على اختيار ميدان المعركة بدل أن تُساقوا كالخراف... أيها المسلمون أنتم تحتاجون القوة وتحتاجون الوحدة التي هي أول خطوة لتحقيق القوة [20]. وهي رسالة تعبر عن فهم البنا للجمع بين مشروعي الوحدة والتحرير.

كما أدرك حسن البنا والإخوان خطورة المشروع الصهيوني على نهضة مصر والعالم العربي والنهضة الإسلامية بشكل عام، حيث إن وجود الكيان الصهيوني سيعطل مشروع الوحدة، ويمثل خطراً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً على المنطقة. ويتحدث الإمام البنا بوضوح حول هذه المسائل فيقول:

نريد أن نؤمّن حدودنا الشرقية بحلّ قضية فلسطين حلاً يحقق وجهة النظر العربية أيضاً ويحول دون تغلب اليهود على مرافق هذه البلاد. إن مصر والعالم العربي والإسلامي كله يفتدي فلسطين، فأما مصر فلأنها حدّها الشرقي المتاخم، وأما بلاد العرب فلأن فلسطين قلبها الخافق وواسطة عقدها، ومركز وحدتها، وهي ضنينة بهذه الوحدة أن تتمزق مهما كانت الظروف، ومهما كلّفها ذلك من تضحيات. وأما العالم الإسلامي فلأن فلسطين أولى القبلتين وثاني الحرمين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الحقيقة يجب أن تضعها الدول المتحدة نصب عينيها فصداقة المسلمين والعرب في كفة، ومطامع اليهود في فلسطين في الكفة الأخرى.

نحن نطالب بهذا لأنه تأمين لحدودنا ومصلحة مباشرة لنا، ونطالب به كذلك لأنه حق أمتين عربيتين في الشرق والغرب، هم منا ونحن منهم، ولن يفرق بيننا شيء [21].

لذلك حذر البنا المصريين منذ سنة 1938 بأن عدم مساندة الثورة في فلسطين يعني أنهم "سيضطرون إلى أن يدفعوا عن أنفسهم في غائلة الخطر اليهودي الصهيوني بعد أن ترسخ أقدامه قيد خطوات من الحدود المصرية، وحينئذٍ لا تنفع الجهود ويصدق علينا المثل السابق (أُكلت يوم أكل الثور الأبيض)" [22]. ولا تخلو أدبيات الإخوان المسلمين المنشورة في الثلاثينيات والأربعينيات (والتي هي انعكاس لفكر البنا) من إشارات إلى الأهمية الاستراتيجية لفلسطين واعتبارها نقطة الاتصال بين البلاد العربية وآسيا وأفريقيا، وإلى أن قيام دولة لليهود في فلسطين يعني أن تكون تلك الدولة قاعدة للاستعمار الغربي، وسلاحاً مسموماً لطعن البلاد العربية، كما أنها تنذر البلاد العربية بالتمزق والتفرق، وتهددها من ناحية الوجود والكيان [23]. كما تحدث الشيخ البنا عن الخطر الاقتصادي الصهيوني وما ينتج عن محاولات اليهود تصريف منتجاتهم في البلاد العربية مما سيؤدي إلى "خراب اقتصادي واضطراب مالي"[24]. وبالإضافة إلى ذلك فقد رأى الإخوان المسلمون/ البنا أن إقامة الدولة الصهيونية سينتج عنه أيضاً خطر اجتماعي يهدد البلاد العربية بالانحلال لأن الصهيونية ستعمل على نشر الإلحاد والإباحية [25].

  1. الموقف من اليهود:

على الرغم من أن الكثير من أدبيات الإسلاميين لم تكن تفرق (إلى سنوات قريبة) بشكل واضح بين معاداة أو محاربة اليهود لكونهم يهوداً وبين معاداة ومقاتلة اليهود المعتدين في فلسطين، إلا أن البنا ومنذ مرحلة مبكرة جداً قدّم تصوراً واضحاً يفرق بين اليهود بكونهم أهل كتاب تجرى عليهم الأحكام العامة ولهم حقوقهم المعروفة في الفقه الإسلامي، وبين اليهود الصهاينة المعتدين الذين تجب محاربتهم لقيامهم باغتصاب أرض المسلمين وحقوقهم. أي أن قتالهم لا يكون لمجرد كونهم يهوداً وإنما ينحصر بقتال من قام منهم بالاعتداء على حرمات المسلمين. ولذلك قال البنا أمام لجنة التحقيق البريطانية - الأمريكية في 5/3/1946 "إن خصومتنا لليهود ليست دينية... والإسلام شريعة إنسانية قبل أن يكون شريعة قومية... ونحن حين نعارض بكلّ قوة الهجرة اليهودية نعارضها لأنها تنطوي على خطر سياسي اقتصادي، وحقنا في أن تكون فلسطين عربية" [26].

ورفض البنا الظلم الذي تعرض له اليهود في أوروبا، لكنه رفض أن يتحقق إنصافهم عبر ظلم أهل فلسطين والعرب، وذكر البنا "لا شك أننا نتألم لمحنة اليهود تألماً شديداً ولكن ليس معنى هذا أن يُنصفوا بظلم العرب وأن ترفع عنهم بهلاك غيرهم والعدوان عليه. وفي الأرض مندوحة وفي الأوطان مُتسع" [27].

  1. الموقف من الاحتلال البريطاني لفلسطين:

رفض الشيخ البنا وعد بلفور، ورأى بأن بريطانيا نكثت عهودها للعرب بالحرية والاستقلال (مراسلات الحسين - مكماهون) والتي خاضوا على أساسها الحرب ضد العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. كما رفض البنا مشروع تقسيم فلسطين الذي أوصت به لجنة بيل سنة 1937، وعدَّ أن معنى هذا المشروع هو "القضاء على حقوق العرب كلها، ولن يخطر ببال عربي واحد أن يفكر فيه فضلاً عن أن يقبله" [28]. وقال البنا إن فلسطين "دينٌ على انجلترا للمسلمين لا تهدأ ثائرتهم حتى توفيهم فيه حقّهم... وإننا ننتهز هذه الفرصة فنذكرها بأن حقوق العرب لا يمكن أن تُنتقص" [29]. وعبّر البنا عن سخطه على السياسات القمعية البريطانية ومصادرتها للحريات وإرهاب الآمنين ونفي الزعماء، التي مارستها في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، وطالب بإطلاق سراح السجناء وإعادة الزعماء المنفيين وإرجاع الحقوق إلى المجلس الإسلامي الأعلى، وأعلن تضامنه مع الحاج أمين الحسيني زعيم فلسطين وطالب بالسماح له بالعودة، كما حذّر الوفود الإسلامية إلى مؤتمر لندن (شباط/ فبراير – آذار/ مارس 1939) من المكر والخداع البريطاني [30] .

البنا في مقال له في النذير في 6/12/1938 ذكر أن المشكلة الحقيقية ليست مع اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين والذين اعتبرهم مجرد سفّاكي دماء ومغتصبين قدِموا تحت ظلال الرماح والخداع... المشكلة الحقيقية هي بين العرب مالكي الأرض في فلسطين وبين البريطانيين الذين سيطروا على البلد ووضعوها تحت هذه الظروف [31]. ويعكس هذا الفهم النتيجة نفسها التي وصل إليها العرب في فلسطين إثر ثورة البُراق (آب/ أغسطس 1929) وفي مطلع الثلاثينيات من أن بريطانيا هي "أصل الداء وسبب كلّ بلاء" حيث أخذت معارضتهم وثوراتهم تتركّز ضد البريطانيين.

وطالب البنا الحكومة المصرية بالضغط على بريطانيا للإفراج عن المعتقلين والاعتراف بحقوق الفلسطينيين كاملة غير منقوصة. وفي مذكرات الدعوة والداعية نصّانِ لرسالتين رفعهما البنا إلى رئيس الوزراء المصري علي ماهر بهذا المعنى سنة 1939 [32].

تبنى البنا طرح الحركة الوطنية الفلسطينية فيما يتعلق بمطالب الشعب الفلسطيني من بريطانيا وبحلّ قضية فلسطين. فقد طالب بريطانيا بوقف الهجرة اليهودية وقفاً تاماً، وبإطلاق السجناء، وإعادة المبعدين، وتعويض المتضررين، وباعتراف بريطانيا باستقلال فلسطين استقلالاً تاماً عربية مسلمة، ويمكن أن يكون ذلك بناءً على اتفاق يضمن حقوق العرب، ويعامل فيه اليهود معاملة الأقليات [33].

ثانياً: الجهود العملية لنصرة فلسطين:

عندما تحرك الإخوان في مصر لنصرة فلسطين لم يكن هناك اهتمام مصري شعبي أو رسمي ذي بال بالقضية الفلسطينية، ما عدا نشاط بعض الرموز والجمعيات الإسلامية مثل عبد الحميد سعيد زعيم جمعيات الشبان المسلمين، ومحمد رشيد رضا صاحب المنار الذي كان أستاذاً للحاج أمين الحسيني، ومحمد علي علّوبة...

وقد لاحظ البنا أنه عندما "ثار الشعب الفلسطيني... كانت الهيئات السياسية والأحزاب في مصر منصرفة كل الانصراف عن مناصرة فلسطين مناصرة جدية بحكم النعرة الوطنية الخاصة التي لم تكن قد تطورت إلى ذلك الشعور الدفّاق بحق العروبة والإسلام. ولم يكن المتحرك لفلسطين أو نحوها من الأقطار الشقيقة في ذلك العهد إلا الهيئات الإسلامية. ومن هنا تقدم الإخوان المسلمون إلى مناصرة فلسطين الثائرة المجاهدة بكل ما فيهم من قوة، ووقفوا على ذلك جهودهم مادياً وأدبياً..."[34].

وكان من نماذج السلوك الرسمي السلبي المصري أن رئيس وزراء مصر محمد محمود عندما سُئل عن سياسته حول قضية فلسطين أجاب في خبر نشرته جريدة الأهرام في 20/6/1938 أنه رئيس وزراء مصر وليس فلسطين. وكان من المفارقات أنه بينما كانت الثورة مشتعلة على أشدّها في فلسطين 1936-1938 كان لا يزال القنصل المصري في القدس يدعو الزعماء الصهاينة إلى حفلات الاستقبال في الذكرى السنوية لميلاد الملك وفي ذكرى اعتلائه العرش!! [35].

في سنة 1927 أرسل الإمام البنا رسالة دعم وتأييد إلى الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى فيها [36]. تعكس هذه المبادرة اهتمام البنا المبكر بقضية فلسطين وارتباطه النفسي بها وهو لا يزال في الـ 21 من عمره وفي سنة تخرجه من دار العلوم وقبل أن يبدأ حياته العملية. كما أنه من جهة ثانية أرسل هذه الرسالة قبل نحو عام على تأسيسه الإخوان المسلمين وهو ما يؤكد أن اهتمامه بفلسطين بعد ذلك من خلال عمل الجماعة لم يكن مجرد برنامج من برامجها أو أداة لكسب الشعبية والرأي العام، وإنما كان اهتماماً أصيلاً صادقاً. ومن ناحية ثالثة فإن هذه الرسالة أُرسلت في ظرف لم تكن تشهد فيه فلسطين في تلك الفترة أياً من الأحداث الجسام أو الثورات، ولا حتى الحراك السياسي، مما يدلّ على أن الرسالة لم تكن انفعالاً بحدث بقدر ما كانت انشغالاً بالهمّ الفلسطيني نفسه.

وعندما انعقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس في كانون الأول/ ديسمبر 1931 وحضره مندوبون من 22 بلداً، أرسل البنا رسالة تحية وتقدير ومؤازرة للمؤتمرين باسم الإخوان المسلمين. ولا تنحصر أهمية الرسالة في كونها تحمل دلالات الوعي والتفاعل المبكر لجماعة الإخوان مع قضية فلسطين، وإنما في مضمون الرسالة الذي تجاوز المشاعر والمواقف إلى الاقتراحات العملية الممكنة التنفيذ، والتي تحمل دلالات هامة على انغماسٍ حقيقي بالقضية. وكان أحد الاقتراحات إنشاء صندوق إسلامي أو شركة لشراء الأراضي الفلسطينية لحفظها وقطع الطريق على شرائها من قِبل اليهود. وكان من الطريف أن البنا قدّم باسم الإخوان تبرعاً بقيمة خمسة جنيهات مصرية كبداية لعمل الصندوق مع الاعتذار عن ضآلة المبلغ الذي تمّ تقديمه لإعطاء الفكرة أهميتها وبُعدها العملي. واقترح البنا إنشاء لجان للدفاع عن الأماكن المقدسة في كل بلدان العالم الإسلامي، كما اقترح توحيد وتحديث الثقافة الإسلامية، وإنشاء جامعة فلسطينية تجمع بين العلوم الشرعية والعلوم المعاصرة، وإصدار جريدة إسلامية يومية، واقترح إنشاء مركز إعلامي إسلامي. ولم ينس اقتراح استعادة السيطرة على خط الحجاز الحديدي واستكماله لِما له من أهمية في ربط المسلمين ببعضهم. وقد أبدى الحاج أمين الحسيني اهتمامه بالرسالة، وفي ردّه على البنا ذكر بأن اللجنة التنفيذية للمؤتمر ستعطي الاقتراحات الاهتمام اللازم [37].

وقد لاحظنا أن المؤتمر تبنى في قراراته بالفعل تأسيس شركة لإنقاذ الأراضي في فلسطين، والمطالبة بتسلم خط السكة الحديدية الحجازية، وإنشاء جامعة باسم جامعة المسجد الأقصى، والتعهد بالدفاع عن إسلامية البراق...[38]. وهذا يعني أن عدداً من اقتراحات الإمام البنا قد تمّ اعتمادها، غير أنه من المحتمل أن بعض هذه الاقتراحات قد توافق مع اقتراحات مشابهة قدّمها المشاركون في المؤتمر.

وعندما حدثت انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1933 في فلسطين والتي راح ضحيتها في القدس ويافا 35 شهيداً و255 جريحاً [39]، والتي أصيب فيها زعيم فلسطين موسى كاظم الحسيني، طالب البنا، في مقال نُشر في جريدة الإخوان المسلمين في 21/10/1933، بإيقاف الهجرة اليهودية وتنفيذ بريطانيا لوعودها للعرب بحكم أنفسهم، ودعا العالم الإسلامي للضغط بكل ما يملك من وسائل وتقديم الدعم والتبرعات لفلسطين [40].

ومن الملاحظ أن جماعة الإخوان أخذت تستخدم المناسبات الإسلامية، وخصوصاً الاحتفالات بالإسراء والمعراج للدعاية لقضية فلسطين في سنة 1933 والسنوات التي تلتها. وقبل الثورة الكبرى في فلسطين بنحو عام، دعا الشيخ البنا في أثناء انعقاد المؤتمر الشوري الثالث للجماعة في آذار/ مارس 1935 لجمع التبرعات لفلسطين [41].

اندلعت الثورة الكبرى في فلسطين في منتصف نيسان/ أبريل 1936 واستمرت مرحلتها الأولى حتى تشرين الأول/ أكتوبر 1936، ثم ما لبثت أن انفجرت مرحلتها الثانية في أواخر أيلول/ سبتمبر 1937 واستمرت حتى أواخر سنة 1939. وفي 16/5/1936 ترأس البنا اجتماعاً للإخوان وقال إنه يخشى أنه إذا ما كانوا بطيئين في مساعدة الفلسطينيين، فإن مقاومتهم لن تحقق أهدافها، وبالتالي "فسنتحمل المسؤولية أمام الله والتاريخ". ولذلك قرر المجتمعون إنشاء اللجنة المركزية العامة لمساعدة فلسطين، وتشكلت من 29 عضواً برئاسة البنا نفسه وكان من الملفت للنظر مشاركة سبعة من أعضاء مكتب الإرشاد العشرة في عضويتها. وقد نشطت هذه اللجنة في دعم قضية فلسطين بمختلف الوسائل [42]. وفي نهاية مايو/ أيار 1936 شاركت اللجنة في تشكيل اللجنة العليا لمساعدة ضحايا فلسطين، حيث دعت جمعية الشبان المسلمين في القاهرة المنظمات الإسلامية والأفراد لتشكيل هذه اللجنة، وقد مثّل الإخوان في هذه اللجنة كل من حسن البنا وحامد عبد الرحمن [43].

   وقد نشط الإخوان المسلمون في الدعاية الإعلامية لقضية فلسطين في مصر نشاطاً كبيراً، ودعوا إلى مشروع "قرش فلسطين" لدعم أهل فلسطين وثورتهم، وطبعوا المنشورات التي تهاجم الإنجليز وسياستهم في فلسطين، وركزوا في مجلتهم "النذير" على خدمة قضية فلسطين وإبرازها إعلامياً، واستفادوا من منابر المساجد للدعوة للقضية، وأرسلوا الطلاب في الصيف إلى أنحاء القطر المصري للدعوة للفكر الإسلامي وإلى مساعدة فلسطين، كما دعوا إلى مقاطعة المحلات اليهودية في مصر، ووزعوا كتاب "النار والدمار في فلسطين" (الذي أصدرته اللجنة العربية العليا) بشكل واسع في مصر فكان له أثر إعلامي عظيم، وقد اعتقل البنا لفترة وجيزة بسبب توزيع الكتاب.

ودعا البنا وإخوانه إلى القنوت في الصلاة من أجل فلسطين. وجاء في تعميم لمكتب الإرشاد العام أن نازلة فلسطين من أشد النوازل بالمسلمين جميعاً وأعظمها وقعاً على قلوبهم وأشدها نيلاً من إخوانهم وأوطانهم ونفوسهم.

ولهذا اقترح مكتب الإرشاد أن يقنت المسلمون في الركعة الأخيرة من كل صلاة بعد الركوع قنوتاً يدعون فيه بنصرة أهل فلسطين وخذلان أعدائهم ومناوئيهم، بالصيغة التالية مثلاً: "اللهم غياث المستغيثين ونصير المستضعفين انصر إخواننا أهل فلسطين، اللهم فرج كربتهم وأيد قضيتهم واخذل أعداءهم واشدد الوطأة على من ناوأهم واجعلها عليهم سنين كسني يوسف وارفع مقتك وغضبك عنا يا رب العالمين، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم".

   كما أرسلوا الرسائل والبرقيات إلى المسؤولين في الدولة وأصحاب النفوذ للتدخل لمساعدة فلسطين، والعمل الجاد على حل قضيتها [44].

وعندما انعقد المؤتمر العربي لنصرة قضية فلسطين في "بلودان" في 10/9/1937 أبرق حسن البنا باسم الإخوان المسلمين في مصر إلى المؤتمر برقية يعلن فيها استعداد جماعة الإخوان المسلمين للدفاع عن فلسطين بدمائهم وأموالهم [45].

وعندما انعقد المؤتمر البرلماني للبلاد العربية والإسلامية في 7/10/1937 أولاه الإخوان عناية خاصة، وحرصوا على توفير سُبل نجاحه بالرغم من أنهم لم يشاركوا في أعماله حيث لا يملكون أعضاء برلمانيين. وأقام الإخوان حفل استقبال للوفود في مركزهم الرئيسي في القاهرة حيث ألقى البنا كلمة فيهم، وأرسلت فروع الإخوان 13 برقية تدعم المؤتمر وتطالب بإصدار قرارات بحلّ القضية الفلسطينية بناءً على مطالب العرب [46].

ونظم "الإخوان" وجمعية الشبان المسلمين مظاهرة كبرى في مصر في حزيران/ يونيو 1938 لنصرة فلسطين، وقد اصطدمت بالشرطة مما أدى إلى اعتقال 34 من المتظاهرين [47]، كما نظموا مظاهرة كبرى بمناسبة وعد بلفور في تشرين الثاني/ نوفمبر 1938، شملت جميع أرجاء مصر، فكانت تنبيهاً قوياً للشعب المصري على أهمية قضية فلسطين [48].

كما رحّب البنا بالقادة الفلسطينيين الذين أنهت السلطات البريطانية إبعادهم إلى سيشل (أُبعدوا من تشرين الأول/ أكتوبر 1937 إلى كانون الأول/ ديسمبر 1938)، وسمحت لهم بالعودة إلى مصر، وأقام لهم مكتب الإرشاد حفل استقبال في 11/1/1939 [49]. وقد أصبح من الواضح أن مركز الإخوان المسلمين صار ملتقى ومزار القيادات الفلسطينية القادمة إلى القاهرة.

وعندما عقد الإخوان مؤتمرهم الخامس في 2/2/1939 قرر المؤتمر إرسال تحياته للحاج أمين الحسيني وللمجاهدين ولأعضاء اللجنة العربية العليا. كما تقرر إرسال برقيات للحاج أمين والوفد المصري إلى مؤتمر لندن، ولوزير الخارجية البريطاني تدعم مطالب العرب في فلسطين [50].

ويبدو أن الإخوان المسلمين المصريين قد شاركوا بشكل محدود في الثورة الكبرى في فلسطين (1936-1939)، فيذكر كامل الشريف أن عدداً من شباب الإخوان قد استطاعوا التسلل إلى فلسطين والاشتراك مع المجاهدين في جهادهم خاصة في مناطق الشمال [51] (حيث جماعة القسام)، كما يبدو أن المفتي (الحاج أمين) قد شهد بصحة هذا الكلام [52]. وفي مقابلة للباحث مع الدكتور عصام الشربيني يذكر أن الدكتور إبراهيم أبو النجا (عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان سابقاً) أخبره أن الإخوان في مصر قد احتفلوا بذهاب بعض الإخوان إلى فلسطين للجهاد في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) [53]، كما أن في حديث محمود عبد الحليم عن قضية أحمد رفعت ما يشير إلى اتصال الإخوان بمجاهدي فلسطين والتنسيق معهم [54]، وعلى هذا فنحن لا نستبعد مشاركة الإخوان بشكل فردي في الثورة الكبرى.

ويذكر الإخوان المسلمون عادة أن أهم أسباب إنشاء الإمام البنا للنظام الخاص داخل جماعة الإخوان هو مشاركة أعضائه في الجهاد لتحرير فلسطين من الانتداب البريطاني، وإفشال المخطط اليهودي الصهيوني في بناء الوطن القومي على أرضها، وقد كان أعضاء هذا النظام -الذي أُنشئ في مطلع الأربعينيات- يُختارون من خلاصة الإخوان، ويُنظَّمون في عضويته في سرية تامة، ويتم تربيتهم على معاني الجهاد، ويخضعون لتدريبات بدنية شاقة والتدريب على السلاح [55].

  1. نشأة حركة الإخوان في فلسطين:

في سنة 1935 ظهر توجه الشيخ البنا لنشر دعوة الإخوان خارج مصر، وكان ذلك إحدى قرارات المؤتمر الشوري الثالث للجماعة في آذار/ مارس 1935. وكانت فلسطين هي أول بلد مرشح لتنفيذ هذه المهمة، وفي 3-6/8/1935 زار القياديان في الجماعة عبد الرحمن الساعاتي ومحمد أسعد الحكيم فلسطين، ولقيا ترحيباً هناك من الحاج أمين، حيث قاما بنشر دعوتهم، ثم تابعا سفرهما إلى سوريا ولبنان [56]. وخلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وبتكليفٍ من البنا، زادت زيارات الإخوان لفلسطين، وخصوصاً عبد المعز عبد الستار وسعيد رمضان، وأخذ عدد من أبناء فلسطين ينضمون للإخوان، غير أن تشكيل فروع للإخوان لم يتم -على ما يظهر- إلا بعد انتهاء الحرب، حيث خفّت ظروف القهر والتشديد البريطاني، ونشطت الحركة السياسية الفلسطينية. ويبدو أن أول فروع الإخوان إنشاءً كان فرع غزة برئاسة الحاج ظافر الشوا، ثم تأسس فرع يافا برئاسة ظافر الدجاني، أما فرع القدس فقد أنشئ سنة 1945، ثم جرى حفل افتتاح مميز له في 5/5/1946 وحضره الزعيم الفلسطيني جمال الحسيني، وأنشئ فرع حيفا برئاسة الشيخ عبد الرحمن مراد، وتتابع إنشاء الفروع في قلقيلية، واللد، ونابلس، وطولكرم، والمجدل، وسلواد، والخليل، حتى زادت الفروع عن عشرين فرعاً [57].

أبقى الإمام البنا على متابعته اللصيقة لفلسطين، ولم يعامل فرع الإخوان فيها كقطر مستقل تماماً، وقد ظلّ الحضور الإخواني المصري فيها كثيفاً ومتواصلاً، وأشرفوا بأنفسهم على افتتاح عدد من الفروع وخصوصاً في المدن الكبيرة. وقد نشطت جماعة الإخوان في فلسطين في مجالات الدعوة والتربية والتوعية الإسلامية، والتعريف بالخطر الصهيوني، والمؤامرة على فلسطين، والتعبئة للجهاد.

وقد عقد الإخوان الفلسطينيون مؤتمراً عاماً في حيفا في 18/10/1946 حضره ممثلون عن لبنان والأردن. وحملت القرارات أبعاداً تنظيمية داخلية وسياسية محلية وخارجية تؤكد الوعي والتفاعل السياسي مع الأحداث. وقد جاء في القرارات: اعتبار حكومة الاحتلال البريطاني في فلسطين مسؤولة عن الوضع السياسي المضطرب، وتأييد مطالب مصر بالجلاء ووحدة النيل، وتأييد المشاريع التي ترمي إلى إنقاذ الأراضي، وعدم الاعتراف باليهود الطارئين على البلاد، وتعميم شعب "الإخوان المسلمين" في فلسطين [58]. وبعد عام من انعقاد المؤتمر السابق عقد الإخوان المسلمون مؤتمراً آخر كبيراً في حيفا في 27/10/1947، حيث أعلن الإخوان تصميمهم على الدفاع عن بلادهم بجميع الوسائل. واستعدادهم للتعاون مع جميع الهيئات الوطنية في هذا السبيل. كما أعلنوا أن هيئة الإخوان المسلمين ستتحمل نصيبها كاملاً من تكاليف النضال[59].

ونلاحظ في هذه القرارات مدى جديتها وقوتها ومتابعتها للأحداث السياسية والواقعية، حيث كان للقرارات السياسية نصيب الأسد فيها، كما نلاحظ المضمون الجهادي الذي تمخضت عنه هذه القرارات، والتي كانت متفوقة في مضمونها وطبيعتها عن الاتجاهات السياسية السائدة في تلك الفترة.

وقد نشط الإخوان الفلسطينيون في تعبئة الجماهير للجهاد ضد الإنجليز واليهود، واعترفت الرواية الإسرائيلية الرسمية لحرب فلسطين 1947-1948 بذلك، حتى إن المؤسسات القومية اليهودية احتجت واشتكت عليهم للسلطات البريطانية [60]. ولكن لا ينبغي المبالغة في قدرة الإخوان الفلسطينيين وإمكاناتهم. إذ كانوا جديدين إلى حدّ ما على الساحة، ولم يبلغ انتشارهم حجماً سياسياً كبيراً يؤهلهم للتأثير في القرار السياسي الفلسطيني المحليّ. وكانوا بشكل عام أنصاراً للحاج أمين الحسيني الذي كان صديقاً شخصياً للشيخ حسن البنا. كما أن إمكاناتهم كانت محدودة جداً مقارنة بما لدى اليهود أو بما تحتاجه فلسطين في عملية الدفاع عنها. غير أن هذا لم يمنع أن يمثلوا في تلك الفترة حالة جهادية مضحية واعية، ذات روح وطنية قوية منفتحة.

  1. دور الإخوان المسلمين في حرب فلسطين 1947-1948:

شارك الإخوان المسلمون الفلسطينيون في الجهاد عندما اندلعت حرب 1947-1948، إلا أن حداثة تنظيمهم وعدم نموه واستقراره بشكل مناسب وقوي جعلت مشاركتهم محصورة ضمن قدراتهم المحدودة وإمكاناتهم المتواضعة.

ومع ذلك فقد شكلت شُعب الإخوان في فلسطين قوات غير نظامية منذ بداية الحرب، عملت في أماكن استقرارها في الشمال والوسط تحت القيادات العربية المحلية هناك (التي تتبع جيش الإنقاذ أو جيش الجهاد المقدس). وقد قامت بغارات ناجحة على مستعمرات اليهود وطرق مواصلاتهم، على الرغم من الضعف الشديد الذي كانت تعانيه سواء في التسليح أو التدريب، ولذلك لا نجد ذكراً رسمياً لدور الإخوان في هذه المناطق بشكل عام. أما في المناطق الجنوبية وخصوصاً غزة وبئر السبع فقد انضم العديد من إخوان فلسطين إلى قوات الإخوان (المصرية) الحرة بقيادة كامل الشريف، وشاركوا بقوة وفاعلية في معارك فلسطين هناك. ويذكر كامل الشريف أن قوات الإخوان المصرية الحرة كان معدل عددها 200 مجاهد في مناطق جنوب فلسطين، وأنها كان يشاركها الجهاد حوالي 800 مجاهد آخر من أبناء فلسطين، تحت قيادتها، حيث إن كثيراً منهم تأثروا بفكر الإخوان المسلمين وأصبحوا منهم [61].

وكانت أنشط شعب الإخوان مشاركة في الجهاد شعبة الإخوان المسلمين في يافا، وقد كان هناك (تنظيم عسكري سري خاص) ضمن أعضاء الإخوان في يافا، شارك فيه عدد محدود من الإخوان ممن يصلحون لهذا العمل، ولم يكن باقي الإخوان أعضاء فيه أو يعلمون شيئاً عنه، وقد ظهر نشاطه الجهادي مع بداية الحرب [62].

وعندما جاء كامل الشريف إلى منطقة يافا مع سرية من شباب الجامعات، تولى هو قيادة مجاهدي الإخوان حيث تجمع تحت قيادته حوالي 100 مجاهد[63]، وتولى كامل الشريف قيادة منطقة في يافا اسمها (كرم التوت) وتقع بين يافا وتل أبيب، حيث تقع معارك يومية بين المجاهدين واليهود. كما شارك الإخوان المجاهدون في الهجوم على مستعمرة بتاح تكفا، ثم ما لبث كامل الشريف أن انتقل إلى منطقة النقب [64].

ويذكر عارف العارف أنه كان للإخوان المسلمين في يافا قوات متحركة يبلغ عددها 30 مجاهداً بقيادة حسن عبد الفتاح والحاج أحمد دولة، وكان عندهم 30 بندقية ورشاش و2 ستن، وقد كانوا يهبون لنجدة المواقع كلما دعت الحاجة [65].

ويقول يوسف عميرة إن الإخوان تولوا في أثناء الحرب الدفاع عن مناطق البصة وتلّ الريش والعجمي والنزهة في يافا، فضلاً عن المحافظة على الأمن داخل المدينة، كما يؤكد على الدور المشرف الذي قام به الإخوان في يافا، حيث كان الالتزام بالإسلام من سماتهم، وكان الدفاع والقتال عن إيمان بالله [66].

وفي منطقة القدس شارك إخوان فلسطين في القتال مع إخوانهم القادمين من البلاد العربية أو مع قوات الجهاد المقدس.

  1. دور الإخوان المسلمين المصريين في حرب فلسطين 1947-1948:

تذكر بيان نويهض أن اهتمام الإخوان المسلمين بتحرير فلسطين كان اهتماماً صادقاً ومرتكزاً على الإيمان الديني العميق [67]. ولأن الإخوان في مصر قد أصبحوا في تلك الفترة من أنشط وأقوى الاتجاهات فيها فقد كان لهم الدور الأكثر قوة من بين إخوان الدول العربية المشاركين في حرب فلسطين.

فقبل إعلان الحرب، قام الإخوان في مصر بمهمة تهيئة الشعب لفكرة الجهاد، وانطلقوا في أرجاء القطر المصري داعين للجهاد في سبيل الله لإنقاذ الأرض المباركة [68]، كما قاموا بالعديد من المظاهرات القوية والتي كان لها أثرها في زيادة وعي الجماهير بقضية فلسطين[69]، وقاموا بحملة لجمع التبرعات لفلسطين [70]، كما أخذوا يجوبون صحراء مصر الغربية لتوفير السلاح من بقايا الحرب العالمية الثانية للجهاد في فلسطين [71].

وأسهم الشيخ البنا في توحيد أكبر منظمتين شبه عسكريتين في فلسطين وهما منظمتا النجادة والفتوة، حيث كان الصراع والتنافس قد احتدم بينهما، واختير باتفاقهما محمود لبيب وكيل الإخوان المسلمين للشؤون العسكرية مسؤولاً عن تنظيم هذه التشكيلات، التي توحدت تحت اسم "منظمة الشباب العربي"، لكن السلطات البريطانية أجبرت لبيب على مغادرة فلسطين [72].

وفي 9/10/1947 أبرق الشيخ حسن البنا إلى مجلس الجامعة العربية يقول إنه على استعداد لأن يبعث كدفعة أولى عشرة آلاف مجاهد من الإخوان إلى فلسطين، وتقدم فوراً إلى حكومة النقراشي طالباً السماح لفوج من هؤلاء المجاهدين باجتياز الحدود ولكنها رفضت [73]. وفي 15/12/1947 قام الإخوان بمظاهرة كبرى، وممن خطب في هذه المظاهرة رياض الصالح، والأمير فيصل بن عبد العزيز، وجميل مردم بك، وإسماعيل الأزهري، وقد خطب أيضاً حسن البنا الذي أكد "أن الإخوان المسلمين قد تبرعوا بدماء عشرة آلاف متطوع للاستشهاد في فلسطين... وهم على أتم استعداد لتلبية ندائكم" [74].

بدأ الإخوان المسلمون المصريون بالتوجه فعلاً للجهاد في فلسطين منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1947، أي قبل بدء الحرب في فلسطين بأكثر من شهر، وقد سافرت أول كتيبة من الإخوان بإمارة محمد فرغلي وقيادة محمود لبيب [75]، لكن التضييق الشديد من الحكومة المصرية على سفر الإخوان قد جعل مشاركتهم محدودة، وقد اضطر الإخوان للتحايل فاستأذنوا بعمل رحلة علمية إلى سيناء، فأذنت لهم الحكومة بعد إلحاح شديد ومن هناك انطلقوا إلى فلسطين. وأخذ الإخوان يتسللون سراً حيث تجمعوا في معسكر النصيرات، وأخذوا يقومون بالعمليات الجهادية. وبهذا بدأت العمليات الجهادية العسكرية في صحراء النقب وانضم للإخوان الكثير من المجاهدين من عرب فلسطين، حتى صاروا أضعاف عدد الإخوان أنفسهم فيما بعد. وبدأت حرب عصابات تُبشر بنجاح رائع، إلا أن الحكومة المصرية طلبت من المركز العام للإخوان سحب قواته من النقب، فرفض فقطعت عنهم الحكومة الإمدادات والتموين، وراقبت الحدود، إلاّ أنهم وجدوا من عرب فلسطين كل مساعدة وعون [76].

ولما اشتد الضغط على الحكومة المصرية سمحت للمتطوعين بالمشاركة في الجهاد تحت راية الجامعة العربية، حيث تدربوا في معسكر "هاكستب"، وكان يشرف على حركة التطوع محمود لبيب وكيل الإخوان للشؤون العسكرية، وتألفت ثلاث كتائب من المتطوعين يقدر عددها بـ 600 مقاتل، نصفهم تقريباً من الإخوان المسلمين، وقد طبعوا هذه الكتائب بطابعهم الخاص، وكان أبرز قادة هذه الكتائب أحمد عبد العزيز وعبد الجواد طبالة [77].

ولم يكْفِ معسكر هاكستب لاستيعاب المتطوعين، إذ إن المتطوعين كانوا عشرات الأضعاف بالنسبة للمشاركين، فأرسل الإخوان 100 من أفرادهم ليتدربوا في معسكر "قطنا" في سوريا، وهم كل ما استطاع المركز العام للإخوان أن يقنع الحكومة المصرية بقبوله [78].

وقد سافرت هذه الكتيبة عن طريق ميناء بورسعيد في 10/3/1948، وقبل مغادرتها خرجت بورسعيد عن بكرة أبيها لتحيَّتهم وتوديعهم، وخطب البنا في الجميع ومما قاله "هذه كتيبة الإخوان المسلمين المجاهدة بكل عددها وأسلحتها تتقدم للجهاد في سبيل الله ومقاتلة اليهود أعداء الإسلام والوطن. ستذهب إلى سوريا حتى تنضم إلى باقي المجاهدين، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وفي هذا فليتنافس المتنافسون" [79].

وقد استقبلت هذه الكتيبة في سوريا استقبالاً شعبياً كبيراً، وكان في مقدمة المستقبلين المراقب العام للإخوان في سوريا مصطفى السباعي، وعمر بهاء الدين الأميري، والشيخ محمد الحامد وغيرهم، وفي ظهر يوم الثلاثاء 23 آذار/ مارس سافر حسن البنا إلى دمشق على متن طائرة لتفقد أحوال المتطوعين هناك [80].

قام الإخوان المسلمون بدور مشرف في حرب فلسطين اعترف لهم به كل من كتب عن هذه الحرب [81]، وكان لهم دور مشهود في جنوب فلسطين في مناطق غزة ورفح وبئر السبع، حيث كانوا يهاجمون المستعمرات ويقطعون مواصلات اليهود. ومن أبرز المعارك التي شاركوا فيها هناك معركة التبة 86 التي يذكر العسكريون أنها هي التي حفظت قطاع غزة عربياً، ومعركة كفار ديروم، واحتلال مستعمرة ياد مردخاي وغيرها، كما أسهموا بدور هام في تخفيف الحصار عن القوات المصرية المحاصَرَة في الفالوجا. كما كان للإخوان المصريين مشاركتهم الفعالة في معارك القدس وبيت لحم والخليل وخصوصاً صور باهر. وكان من أبرز المعارك التي شاركوا فيها في تلك المناطق معركة رامات راحيل، واسترجاع مار الياس، وتدمير برج مستعمرة تل بيوت قرب بيت لحم، والدفاع عن "تبة اليمن" التي سميت تبة الإخوان المسلمين نظراً للبطولة التي أبدوها... وغيرها [82].

وقد استشهد من إخوان مصر في معارك فلسطين حوالي مائة، وجرح نحو ذلك وأسر بعضهم [83]. وكانت وطأة الإخوان شديدة على اليهود، وقد سئل موشي ديان بعد الحرب بقليل عن السبب الذي من أجله تجنب اليهود محاربة المتطوعين في بيت لحم والخليل والقدس فأجاب "إن الفدائيين يحاربون بعقيدة أقوى من عقيدتنا... إنهم يريدون أن يستشهدوا ونحن نريد أن نبني أمة، وقد جربنا قتالهم فكبدونا خسائر فادحة... ولذا فنحن نحاول قدر الإمكان أن نتجنب الاشتباك بهم" [84]، ولذلك كان انتقام اليهود من الإخوان رهيباً إذا وقعوا أسرى في أيديهم، فقد كانوا يقتلونهم، ويشوهون أجسامهم [85].

لم يكن حسن البنا سعيداً بأداء الجيوش العربية وهزائمها وتراجعاتها، ولذلك قرر أنّ يعد قوة ضخمة للدفاع عن القدس، حيث كان اليهود يشنون هجمات عنيفة على مراكز الجيش الأردني بها، مما خشي معه أن يستولي اليهود على المدينة المقدسة، وأخبر كامل الشريف إنه يجهز قوات كثيفة ليدخل بها فلسطين، وأنه سيعلن الجهاد الديني والتعبئة الشعبية، بعد أن فشلت الحكومات وجامعتها، وكان يسوق له هذه الأنباء مردداً هذه العبارة "ما فيش فايدة، الناس دول مش عاوزين يحاربوا"، وكان فضيلته يرمي من وراء ذلك إلى إثارة الشعور الديني في العالم الإسلامي، ودفع الشعوب الإسلامية والحكومات الإسلامية لعمل شيء ما [86].

  1. دور الإخوان المسلمين السوريين:

قام الإخوان السوريون بدور مشهود خصوصاً في معارك منطقة القدس وقد تدربت كتيبة الإخوان السوريين في "قطنا" ثم سافرت إلى منطقة القدس وقد شارك من الإخوان السوريين حوالي 100 أخ، بقيادة المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا مصطفى السباعي، وقد اشتركوا ببسالة في معارك القدس مثل معركة باب الخليل التي أصيب فيها 35 منهم بجراح، وكان النصر معقوداً فيها للمجاهدين، ومعركة القسطل حيث شارك فيها فوجٌ، منهم عبدَ القادر الحسيني، ومعركة الحي القديم في القدس، ومعركة القطمون، ونسف الكنيس اليهودي الذي اتخذه اليهود مقراً حربياً وغيرها [87].

  1. دور الإخوان المسلمين الأردنيين:

تفاعل سكان شرق الأردن مع حرب فلسطين، وشكل الإخوان المسلمون هناك لجنة لجمع التبرعات والمساعدات، كما فتحوا باب التطوع للمشاركة في الجهاد، وكان تجاوب الناس رائعاً، فيذكر محمد عبد الرحمن خليفة أنه عندما فتح باب التطوع في شعبة السلط سجل أكثر من ثلاثة آلاف شخص أنفسهم[88].

وتكونت من إخوان منطقة عمان وما حولها سرية متطوعين تضم نحو 120 مجاهداً من الإخوان المسلمين، وسميت باسم سرية أبي عبيدة وقد تولى قيادتها الإخوانية الحاج عبد اللطيف أبو قورة المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن في تلك الفترة، أما قيادتها العسكرية فقد تولاها الملازم المتقاعد ممدوح الصرايرة، وقد دخلت فلسطين في 14/4/1948 وتمركزت في عين كارم وصور باهر[89]. وقد خاضت هذه السرية عدة معارك واستشهد عدد من أفرادها [90]. وفي إربد تولى مسؤول شعبة الإخوان هناك السيد أحمد محمد الخطيب قيادة الإخوان فيها في حرب فلسطين، وبلغ مجموع من شارك معه في الجهاد من إخوان إربد وأهلها المتطوعين حوالي مائة مجاهد [91].

  1. دور الإخوان المسلمين العراقيين:

بعد أسبوع واحد من قرار التقسيم أسهم الإخوان المسلمون في العراق بقيادة الشيخ محمد محمود الصواف بشكل فعال في تأليف (جمعية إنقاذ فلسطين) في بغداد، وكانوا من أبرز وأنشط عناصرها. ولقد لبى نداء التطوع 15 ألفاً معظمهم ممن تدرب في الجندية أو الشرطة. وكان للإخوان المسلمين في تلك الفترة دور أساسي في تعبئة الجماهير للجهاد، وكانوا على رأس المظاهرات التي خرجت للتنديد بقرار تقسيم فلسطين، والتي اشترك فيها 200 ألف عراقي في بغداد[92]. وتألف من المتطوعين للجهاد كتيبتا الحسين والقادسية (كل واحدة تتكون من 360 مقاتلاً) وقد وصلتا إلى فلسطين في مارس 1948 [93].

كما اشترك ضمن الأفواج التي ذهبت للجهاد الكثير من إخوان العراق الذين قاتلوا ضمن قوات جيش الإنقاذ، ورأوا الكثير من تخاذل وضعف وسوء إدارة قيادته وعلى رأسه فوزي القاوقجي، إلا أنهم بذلوا ما استطاعوا في المعارك التي شاركوا فيها خصوصاً في شمال فلسطين [94].

  1. حلّ الإخوان واغتيال البنا:

من الصعب الادعاء بأن حلَّ جماعة الإخوان المسلمين في 8/12/1948 واغتيال البنا في 12/2/1949 لم يكن له علاقة بجهاد الإخوان في فلسطين. وربما لا تكون مشاركتهم في حرب فلسطين هي السبب الوحيد، لكن القدرة العالية على التعبئة والحشد التي أظهرها الإخوان، والبطولات والتضحيات التي برزت في المعارك والصدامات، فضلاً عن الاستعدادات الحقيقية لتحشيد عشرات الآلاف وهو ما يفوق أعداد بعض لجيوش العربية...، كل ذلك أثار مخاوف الصهاينة والبريطانيين والعائلة الحاكمة في مصر... خصوصاً إذا ما وجدت احتمالات لتوجيه غضب الشارع المصري ضدّ نظامه الحاكم بسبب تخاذله وضعف أدائه في فلسطين.

لقد دفع الإمام البنا فاتورة حبه لفلسطين والتزامه الصادق بنصرتها وتحريرها، كما دفعت جماعة الإخوان فاتورة جهدها وجهادها في فلسطين. استشهد الإمام البنا، وحُلّت الجماعة وتعرضت للقهر والمطاردة... لكن الجماعة بقيت وسقط النظام الملكي...

ربح البيع...، لم يخسر البنا إذ ربح الشهادة...، وكان رجل المواقف ورجل القرار عندما جدّ الجدُّ...؛ ولم تخسر الجماعة... إذ كسبت مصداقيتها... وأصبحت تجربتها في فلسطين رصيداً تاريخياً، يكسب لها الأنصار ويفتح لها الآفاق.

ومن الملفت للنظر أنه عندما حُلّت الجماعة، ووصلت الأخبار إلى الإخوان المجاهدين في فلسطين، أرسل إليهم البنا يطلب منهم الاستمرار في جهادهم، مؤكداً على أن معركتهم هي في فلسطين. وهكذا كان، ولكن النظام لم يمهله ولم يمهلهم، فاغتالوه عليه رحمة الله، وساقوا المجاهدين إلى السجون بدل أن يحظوا بالإجلال والتكريم.

سوف يكتب التاريخ أن الإمام البنا كان من رجالات العصر النادرين، الذين أعطوا لفلسطين الكثير: فكرياً، وسياسياً، وإعلامياً، وتعبوياً، وخيرياً، وجهادياً، ومن أبرز من وسّعوا دائرة الاهتمام بها، وجعلوها محطّ أنظار المسلمين.

عليه رحمة الله.

* أصل هذه الدراسة بحث منشور في كتاب: بحوث مؤتمر مئوية الإمام البنا: المشروع الإصلاحي للإمام حسن البنا، تساؤلات لقرن جديد (القاهرة: مركز الإعلام العربي، 2007)، ص 274-292.

[1] المدير العام لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، والأستاذ المشارك في الدراسات الفلسطينية.

[2] حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ط 4 ( بيروت: المؤسسة الإسلامية للطباعة والنشر، 2004)، ص 177-178.

[3] كامل الشريف، الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، ط 3 (الزرقاء، الأردن: مكتبة المنار، 1984)، ص 31.

[4] انظر بتوسع حول هذه الفكرة في: عثمان عبد المعز رسلان، التربية السياسية عند الإخوان المسلمين (القاهرة: دار التوزيع الإسلامية، د.ت.)، ص 273-307.

[5] البنا، الرسائل، ص 180.

[6] المرجع نفسه، ص 150.

[7] حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1990)، ص 304.

[8] مجلة الإخوان المسلمون، 25/10/1947، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، تصور الإخوان المسلمين للقضية الفلسطينية (القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، د.ت.)، ص 28.

[9] مجلة الإخوان المسلمون، 25/10/1947، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 29.

[10] جريدة الإخوان المسلمون، 5/11/1937، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 21.

[11] مجلة النذير، 25/3/1937، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 5.

[12] جريدة الإخوان المسلمون، 16/6/1936، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 21.

[13] النذير، 26/12/1938، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 6.

[14] النذير، 31/5/1939، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 7.

[15] النذير، 18/10/1938، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 38.

[16] جريدة الإخوان المسلمون، 8/9/1936؛ والنذير 23/5/1939؛ ومجلة الإخوان المسلمون 22/5/1948، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 21.

[17] النذير، 27/7/1938، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 37-38.

[18] النذير، 27/7/1938، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 6.

[19] جريدة الإخوان المسلمون، 18/10/1938، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 6.

[20] Abd al-Fattah el-Awaisi, The Muslim Brothers and the Palestinian Question 1938-1947 (London: Tauris Academic Studies, 1998), p. 81.

[21] البنا، الرسائل، ص 263-264.

[22] النذير، 18/7/1938، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 40.

[23] انظر: جريدة الإخوان المسلمين، 19/12/1933، و23/6/1936، و25/8/1936، و27/9/1938، و25/10/1938، و8/11/1938، و24/1/1939؛ ومجلة الإخوان المسلمون، 25/3/1944، و20/9/1945، و13/10/1945، و3/11/1945، و14/6/1947؛ والإخوان المسلمون (اليومية)، 13/8/1946، و2/11/1946، 4/1/1947؛ ومجلة الشهاب، 14/11/1947، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 42.

[24] جريدة الإخوان المسلمين، 11/8/1936، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 42.

[25] جريدة الإخوان المسلمين، 11/8/1936، نقلاً عن عبد الفتاح العويسي، مرجع سابق، ص 43.

[26] محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ - رؤية من الداخل 1928-1948 (الإسكندرية: دار الدعوة، 1983)، ج 1، ص 456.

[27] البنا، الرسائل، ص 263

[28] البنا، مذكرات الدعوة والداعية، ص 303-304.

[29] البنا، الرسائل، ص 150.

[30] انظر: البنا، مذكرات الدعوة والداعية، ص 304؛ والبنا، الرسائل، ص 150.

[31] el-Awaisi, op. cit., p. 47.

[32] البنا، مذكرات الدعوة والداعية، ص 350-361.

[33] المرجع نفسه، ص 304، و360-361.

[34] البنا، مذكرات الدعوة والداعية، ص 279.

[35] انظر لمزيد من التفصيل حول الموقف المصري في: el-Awaisi, op. cit., pp. 21-27.

[36] Ibid., p. 28.

Ibid., pp. 28-30. [37]

[38] بيان الحوت، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1981)، ص 246-247.

[39] وثائق المقاومة الفلسطينية العربية ضد الاحتلال البريطاني والصهيونية، جمع وتصنيف: عبد الوهاب الكيالي (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1988)، ص 341-344.

el-Awaisi, op. cit., p. 31. [40]

[41] Ibid .

[42] انظر: البنا، مذكرات الدعوة والداعية، ص 280-285؛ وانظر: Ibid., p. 35-36.

[43] el-Awaisi, op. cit., pp. 37-38.

[44] عبد الحليم، مرجع سابق، ج 1، ص 173-177؛ والبنا، مذكرات الدعوة والداعية، ص 207-215، و224-226.

[45] أكرم زعيتر، الحركة الوطنية الفلسطينية 1935-1939 (من أوراق أكرم زعيتر)، سلسلة الدراسات رقم (55) (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1980)، ص 322.

[46] el-Awaisi, op. cit., p. 82.

[47] من أوراق أكرم زعيتر، ص 403.

[48] عبد الحليم، مرجع سابق ص ١٧٧ .

[51] الشريف، مرجع سابق، ص 31.

[52] ريتشارد ميتشل، الإخوان المسلمون، ترجمة محمود أبو السعود، تعليق صالح أبو رقيق (انديانا بوليس، الولايات المتحدة: دار النشر الأمريكية، 1980)، ص 142.

[53] مقابلة مع عصام الشربيني، الكويت، 16/10/1985. (الدكتور عصام الشربيني أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين منذ سنة 1943).

[54] عبد الحليم، مرجع سابق، ص 200-201.

أحمد رفعت: أحد أفراد "الإخوان" في مصر، وقد خرج من جماعتهم إثر فتنة وقعت كان هو من أسبابها، فأراد بعد ذلك الذهاب لفلسطين للجهاد فأشار عليه الإخوان بأن يأخذ بنصيحتهم فيلتحق بمن لهم به علاقة هناك فيزكونه لهم فرفض، وذهب باجتهاده فقتله المجاهدون الفلسطينيون ظناً منهم أنه جاسوس.

[55] المرجع نفسه، ص 258-260؛ وميتشل، مرجع سابق، هامش ص 108.

[56] البنا، مذكرات الدعوة والداعية، ص 198-199.

[57] انظر: محسن صالح، التيار الإسلامي في فلسطين وأثره في حركة الجهاد (الكويت: مكتبة الفلاح، 1989)، ص 438-445.

[58] الحوت، مرجع سابق، ص 503.

[59] المرجع نفسه، ص 794.

[60] حرب فلسطين 1947-1948 (الرواية الإسرائيلية الرسمية)، ترجمه عن العبرية أحمد خليفة (قبرص: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1984)، ص 14.

[61] الشريف، مرجع سابق، ص 64.

[62] مقابلة مع كامل الشريف، عمّان، 28/10/1985. (كامل الشريف من أصل مصري من سيناء من مدينة العريش، يحمل الجنسية الأردنية، أحد قادة الإخوان البارزين في حرب 1948 في فلسطين، وزير الأوقاف الأردنية الأسبق، رئيس مجلس إدارة جريدة الدستور الأردنية، توفي سنة 2008).

[63] عارف العارف، النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود (بيروت: المكتبة العصرية، 1954)، ج 1، ص 227-229.

[64] مقابلة مع يوسف عميرة، الكويت، 6/11/1985. (يوسف عميرة أحد أوائل المنتظمين في جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، شارك في حرب 1948 ضمن جماعة الإخوان في الدفاع عن منطقة يافا، أحد مؤسسي حركة فتح).

[65] العارف، مرجع سابق، ج 1، ص 234.

[66] مقابلة مع يوسف عميرة، 6/11/1985.

[67] الحوت، مرجع سابق، ص 504.

[68] الشريف، مرجع سابق، ص 34؛ ومقابلة مع عبد العزيز علي، الكويت، 27/9/1985 (عبد العزيز علي أحد مجاهدي الإخوان المسلمين المصريين في حرب 1948)؛ ومحمد علي الطاهر، معتقل هاكستب: مذكرات ومفكرات (مصر: المطبعة العالمية، 1950)، ص 61.

[69] انظر مثلاً: عبد الحليم، مرجع سابق، ص 412؛ ومقابلة مع عصام الشربيني، 16/10/1985.

[70] مقابلة مع عصام الشربيني، 16/10/1985.

[71] ميتشل، مرجع سابق، ص 151-152.

[72] الشريف، مرجع سابق، ص 33-34؛ وعبد الحليم، مرجع سابق، ص 414-415.

[73] العارف، مرجع سابق، ج 2، ص 398.

[74] عبد الحليم، مرجع سابق، ص 412.

[75] صلاح شادي، صفحات من التاريخ: حصاد العمر (الكويت: دار الشعاع، 1980)، ص 56.

[76] الشريف، مرجع سابق، ص 40-41، و71-74، و126؛ وشادي، مرجع سابق، ص 63.

[77] العارف، مرجع سابق، ج 2، ص 399؛ والشريف، مرجع سابق، ص 45، و78؛ ومقابلة مع عبد العزيز علي، 27/9/1985.

[78] شادي، مرجع سابق، ص 63.

[79] عباس السيسي، في قافلة الإخوان المسلمين (د.م.: د.ن.، 1986)، ص 152-153.

[80] المرجع نفسه، ص 153.

[81] زكريا سليمان بيومي، الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المصرية 1928-1948 (القاهرة: مكتبة وهبة، 1979)، ص 131.

[82] عن العمليات العسكرية للإخوان بالتفصيل انظر: الشريف، مرجع سابق.

[83] شادي، مرجع سابق، ص 63.

[84] حلمي سلام، "كان الفدائيون قوة فأضعناها،" مجلة المصور، عدد 1351، 1/9/1950، ص 19.

[85] الشريف، مرجع سابق، ص 39-40.

[86] الشريف، مرجع سابق، ص 213.

[87] انظر: مصطفى السباعي، الإخوان المسلمون في حرب فلسطين (د.م.: دار النذير، 1985)؛ والعارف، مرجع سابق، ج 1، ص 326، و329، و435-437.

[88] مقابلة مع محمد عبد الرحمن خليفة، عمّان، 30/10/1985. (محمد عبد الرحمن خليفة درس الزراعة والقانون، من أوائل المنتظمين في حركة الإخوان المسلمين في الأردن سنة 1946، المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن (1953-1994)، توفي سنة 2006).

[89] سليمان موسى، أيام لا تنسى: الأردن في حرب 1948 (الأردن: مطبعة القوات المسلحة الأردنية، 1982)، ص 44-45؛ ومقابلة مع محمد عبد الرحمن خليفة، 30/10/1985.

[90] موسى، مرجع سابق، ص 45.

[91] مقابلة مع أحمد محمد الخطيب، عمّان، 29/10/1985. (أحمد محمد الخطيب أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، شارك مع جماعة الإخوان المسلمين الأردنيين في حرب 1948).

[92] مقابلة مع محمد محمود الصواف، الكويت، 2/12/1985 (محمد محمود الصواف المراقب العام للإخوان المسلمين في العراق، شارك مع الإخوان المسلمين العراقيين في حرب 1948)؛ والحوت، مرجع سابق، ص 612.

[93] حرب فلسطين 1947-1948 (الرواية الإسرائيلية الرسمية)، ص 221.

[94] انظر لمزيد من المعلومات: محمد محمود الصواف، معركة الإسلام أو وقائعنا في فلسطين بين الأمس واليوم (لبنان: د.ن.، 1969)، ص 158-175.

المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 23/1/2012

المركز الفلسطيني للإعلام.

وسوم: العدد 1001