"إشهار موقف" الرؤية والرسالة

وأحدث مقالي بالأمس "إشهار موقف" ارتدادات متضاربة في حوض مائي القليل..

ومع أن حدوث هذه الارتدادات مطلب أصلا، ولكن ردود الفعل على ماكتبت بالأمس، كانت أكثر مما توقعت حدة وعمقا وتضاربا أو تشاكسا..

كان عنوان مقالتي "إشهار موقف". ولكنني أعلم وكل من حولي يجب أن يعلم، أنني أقل وأضعف من أن أشهر موقفا وطنيا بالحجم الذي ذكرت. وعندما أتحدث عن إشهار موقف، فهذا يعني أنني أحلم أو آمل أو أتطلع أو ربما أطالب بإشهار موقف من أهل الموقف ، يؤكد القطيعة مع الغلو والتطرف بفقهه وفكره ومرتكزاته، وليس فقط مع تنظيماته ومؤسساته وفصائله وممثليه. أقول يؤكد القطيعة ولا يعلنها فقط، مع كل مرتسمات الغلو والتطرف في عالمنا أو في واقعنا. مع كل المرتسمات والمساقات والتعابير والمدخلات والمخرجات أيضا. ورغم ما كتبت، وما يمكن أن يكتب غيري؛ فإن الحاجة ما تزال ملحة، والثغرة ما تزال فاغرة فاها..

المطلوب تأكيد القطيعة...من الجميع، وجماعة الإخوان المسلمين أول المطالبين..

 وأنا أعلم أن جماعة الإخوان المسلمين قد أعلنت هذه القطيعة مرارا وتكرارا، في مراحل التأسيس الأولى، ثم من جديد كلما اقتضى الموقف ذلك، حدث هذا في أواسط الثمانينات، ثم في مطلع الألفية مع "ميثاق الشرف الوطني" ثم في "المشروع السياسي" ثم مع تباشير الثورة في وثيقة "عهد وميثاق" 2012 ...

وكان إعلان القطيعة هذا وتأكيده مرة بعد مرة؛ يتم بطريقتين: سلبية بتعبير لسنا مع... وإيجابية بطريقة نحن نتنبى، الرؤية المستقبلية الإسلامية، في إطار المشروع الوطني، في صيغة الدولة المدنية التعددية التشاركية الديموقراطية..

ومع أن هذا جميعا قد تم إعلانه وتأكيده من قبل، إلا أنني أحببت أن أذكر، أن وسط كل ما حصل في سورية وما يحصل، من هرج، ومن تداخلات، ومن اشتباكات، ومن تسللات وهذه التسلسلات مهمة، منذ انطلاقة هذه الثورة حتى اليوم، يقتضي من أكبر جسم وطني شعبي منظم في سورية أن يعيد التأكيد على موقفه أو على سياساته ومواقفه..

فهل كانت مطالبتي هذه حزبية، أو كانت وطنية ؟؟!!

 لعل المفاهيم تكون كعجينة من تمر بأيدي بعض الناس يصورونها ويسمونها كما يشاؤون....

ستون سنة، وأنا في جماعة الإخوان المسلمين، لم أعش لحظة ثنائية (الجماعة الوطنية - الجماعة الحزبية) !! ولا أعرف هذه الثنائية كيف تكون!! أتكلم كثيرا فأضرب المثل بما تعرض له الشيوعيون وأظل أحكي للناس عما تعرض له فرج الله الحلو حسب رواية حزبه أنفسهم، وأظل أحكي للناس، حكاية معلمنا المسيحي الشيوعي رزق الله دقي، ونحن طلاب في الصف السادس، وكيف عاد إلينا بعد أربعين يوما من الاعتقال بنصف الوزن الذي راح فيه، أحكي عن عبد الناصر كشخصية وطنية بيننا مسافة لا يطغى عليها الاختناق التاريخي. وبدون ادعاء دائما كانت المصلحة الوطنية هي الوعاء الأكبر والحاضر الأول. ومنذ الأيام الأولى للثورة شخصي الضعيف ظل يرفض الاعتراف بالعناوين الطائفية للثورة، ومصادرتها تحت عنوان الحرب الأهلية. وأرد كل من يقول: الحل في قصف كفريا والفوعة ونبل. و بفرق بين سوري مقيم وسوري مهجّر أو مهاجر. وبين سورية محررة وسورية مبتلاة بالظالمين. ويرفض القبول إلى أن القصف الصهيوني يخدم مصالح السوريين، وما زلت متمسكا بذلك، وأعيّر به وعنه ...

وكما أطالب كل السوريين أن يقبلوا ببعضهم. وأن يعتقدوا المساواة بين القابل والمقبول. وكما أبشر دائما أن علينا أن نتفاهم مهما كان متعددين، وأن نجعل اختلافنا سلما لائتلافنا. وكما أقول يجب أن أقول يجب أن نقبل كل المتعددين أليس من حق أن أقول لكل المتعددين وعليكم أن تقبلونا!!

دعوت إلى تأكيد القطيعة مع الغلو في لحظة علا فيها صخبه، وطمّت ثماره المرة، وما زلت أتطلع أن يشهر فيؤكد، وعندما أتحدث عن "تسللات" أقصد كثيرا ما يريبني من لحن القول المؤسس للغلو، الداعم لأهله!! هذه التسللات ما زلت أقصدها، وأعيشها، ويتصل بي أحدهم يشكو لي ما يلقى من جماعة الإخوان المسلمين، وأسأله ممن تعاني منهم، فيذكر لي شخصا، أو أشخاصا ما مروا يوما بواديها..فكيف أقول.؟؟ ولا يفهم من كلامي أن ليس في صفوف الجماعة من تصح الشكوى منه، ويصدق عليه القول..

كتبت فكثرت المصادرات...

ومن دلني على مركب أجمع وأوسع وأبلغ قصدته..

وليس من حبٍ لثوبي رقعته..

وأن ترد الماء بماء أكيس

وضوضاء الجماعة ولا أنس الوحدة . فأنس الوحدة هو بعض الشقاء الذي نعيش.

وبعض من كتبت إليهم أعرضوا ..

وأحدهم كتب لي دائما كما عهدتك تحب الشغب..!! وبين الجد والمزاح تشتفي الأرواح

فريق ثالث: رفع الإبهام وأرسل وورودا وتحيات..

أهل الغلو المفاصلون منهم والمخالطون رموني جميعا عن قوس واحدة.. هل تعلمون أني آخذهم على قدر عقولهم فلا أرد عليهم. ويرسل لي أحدهم "سلميتكم أقوى من الرصاص" وكرهت أن أسأله عن رصاصهم إلى أين قاد الناس!!

المثير للعجب أكثر أن بعض من يحسبون أنفسهم "وطنيين" أو كما يقولون عن أنفسهم "علمانيون أو ليبراليون" غاظهم أنني أطالب الجسم الأكبر في المنتظم الوطني الشعبي أن يؤكد ابتعاده عن مدارس الغلو والماضوية والطوباوية، وأن يعلن عن وضوح في موقفه الزمني أكبر ..!!

الأخ أو الصديق الذي أعتبره معيارا في تقويم ما أكتب: كتب إليّ أرجو أن تتوجه فيما تكتب لمصلحة كل السوريين!!

لو علمت موقع هذا "الكل" لجعلته قبلة خطاب، وأصبح القوم أيدي سبا، ومن المجتمع الأهلي جربنا فلانا وفلانا وفلانا، ومن المجتمع المدني كان لنا فلان وفلان وفلان .. مرة أخرى لا يعني كلامي أنني أقدم نفسي أو احدا من الإخوان على من ذكرت فأنا لا أقارب هذه الطريقة أبدا، ونحن الذين أنشد أولنا..

بكلٍ تداوينا فلم يشف ما بنا ..

قصف حافظ الأسد كل القامات، كذا نقول . نتحدث عن العصر الوطني الأول في النصف الأول من القرن العشرين، هل قامات الرجال كانت سامقة، ونذكرهم فنرفع رؤوسنا ، ونفتح أفواهنا ونقول :شكري القوتلي ورشدي الكيخيا وهاشم الأتاسي ، أو أن الذي جاد عليهم بهذا هو من حولهم !!!

لم يكن مقالي غامضا إلى هذا الحد، وبعض الذين تأملوه اتخذوا موقفا واضحا منه. ولكن أحيانا العناوين المحببة أو المرفوضة، تقطع الطريق على الفهم...

أنا من جيل تعالج كثيرا بشربة زيت الخروع. كانت أمهاتنا يعتقدن أنه دواؤنا الأمثل..

تعلّم أن تتجرعه. أسهل طريقة، تملآ حلقك وتسد أنفك.. أجمل ما قال أبو نواس في وصف العلاج المر : أصبحت في دار بليات أدفع آفات بآفات...

الغلو والتطرف لا يكون فقط على الخلفية الإسلامية والدينية !! الملك البريطاني تشارلز الثالث، أعرض عن يد إنسان أسود يده ممدودة لمصافحته!! اليوم في حي تسكنه أغلبية انكليزية في لندن. لاحظت لأول مرة ملاحظة ذكرتني بالزمان الأول. أهل بيت أخرجوا من بيتهم حنفية، وثبتوا بجانبها وعائين لسقيا الكلاب!! إن شئت قلت سبيل، وإن شئت قلت سبيل.

 أنا لا أكره الغلاة ولا المتطرفين على كل الخلفيات، أنا أشفق عليهم فقط، وإن اشتدوا عليّ، وأكره مناهجهم، وأرفضها، وأدعو الله أن يشرح صدورهم للحق، وأن ينير سبلهم، ويجعلها مستقيمة فسبل الله كلها مستقيمة، وأسأله أن يتوب عليهم وعلينا منها ...

(ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ) ..آمين.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1002