مرارة الحرب إذا افتُقد المنهج الأمل !

لم يكن الأمر سهلا ، وكانت – حقيقة- مغامرة نتائجها مجهولة .

كنت أحاول فهم كل واحدة منهن ... طريقة تفكيرها ، سلوكها ، ردود أفعالها تجاه كل حدث يواجهها . و جميعهن مررن بظروف صعبة ، تلك الصعوبة التي لايمكن تجاهل مرارتها. إنها الحرب اللعينة اقتصّت من أحلامهن وواقعهن على حد سواء ‘ وآثارُها جعلت لديهن الكثير من المشاكل ، والعقد النفسية التي أرهقت تفكيرهن ، وجعلت منهن أحيانا كثيرة فتيات  ذوات سلوكيات سيئة/بغيضة ( ربا )  تلك الفتاة التي اعتُقل والدها في ظروف غامضة منذ بداية الحرب ، هي لا تعرفه أبدا ، ولا تتذكر حتى ملامحه . عاشت مع والدتها في بيت جدّها وتنعّمت بدلال مبالغ فيه من أمها وأخوالها لتعويض فقدان وجود الأب . وعاشت  تلك الفتاة حسّاسة تجاه أيّ حديث يذكر عن الأب لاسيما نصوص التعبير تلك التي تتحدث عن الأسرة والعائلة  وفقدان والدها  من جلسات أهل البيت . ولقد كان لأمها الدور الأكبر في تشويش ملامح  ماجرى لأبيها ، وتغيير صورته في ذاكرة تلك الطفلة ، فتارة تخبرها أنه توفي ، وتارة أنه مفقود ولا نعلم مكانه اليوم ... فقد عجزت الأم عن غرس صورة الأب البطل في ذاكرة تلك الطفلة المسكينة التي يزداد حزنها يوما بعد يوم . وربما لتجعلها تخجل من ذكر حتى اسمه! فأيّ شيء عساها تتذكر ... وأي شخصية سيكون حالها حين تكبر ! ما بين أنانيتها وغرورها وأحزانها ، وفيضان موجات الأسى في نفسها ... بل حتى لا مبالاتها والتي تصل إلى الوقاحة في بعض الأحيان .

كل ما تبحث عنه هو أمان الأب ... و( سارة ) تلك التي تكبر زميلاتها في الصف بسنوات ثلاث . يبدو ذلك واضحا في جسدها المكتمل ، وفي خجلها الظاهر جليا في سلوكها . فحجمها أكبر لكن مشكلتها في الفاقد التعليمي رغم أنها في السنة الثانية عشرة إلا أنها لاتزال تجد صعوبة بالقراءة والكتابة وإن تميزت في باقي المواد . وبدا ذكاؤُها واضحا في استيعاب المعلومة والتفاعل مع معانيها ومقتضياتها .لم يكن لها يدٌ في تأخرها في دخول المدرسة ، هي الحرب المشؤومة مرة أخرى . التي طالت أبسط حقوقها في الحصول على حقها في التعليم . وهاهي تدفع ثمن ذنب لم ترتكبه ولا تملك إلاَّ أن تعيش مأساتها وحدها ، فتعاني تارة من تنمّر زميلاتها في الصف ، وتارة تنمّر المجتمع البغيض الذي ينتقد وجودها بين مَن هم ليسوا من أقرانها . رباب ابنة المديرة كلما رأيتها عُدت بالأيام سنوات إلى الوراء ، فأتذكر ليلى صديقة الطفولة ومقاعد الدراسة ، كم كانت تبكيها تصرفات الطالبات داخل الصف كم رددوا على مسامعها كلمات مؤذية... انتِ بنت المديرة طبعا) ماحدا يستجري يحكي معك كلمة وأسئلة الامتحان تجيكي محلولة( وكأن الأحداث تُعيد نفسها بذات السيناريو فقط بشخصيات مختلفة .

رباب أيضا طفلة ذكية ومجدة .. أن تكون أمها مديرة تلك حقيقة لا يد لها فيها ، لكنها وقعت ضحية تلميذات لديهن مشاكل -هنّ الأخريات - لاذنب لهن فيها ! ولمياء تلك التلميذة الغنية والتي تنحدر من عائلة زادتها الحرب ثراء فزادها ذلك طغيانا وتبجّحا ، وسارية تلك الفتاة اللطيفة تحاول كسب رضا الجميع فهي فقيرة وتبحث عمن تستند إليه عند الحاجة  ،وغادة وسعاد وداليا وهبة...  كيف لي أن أكون لكنّ عونا ومنقذا من آفة الحرب التي فتكت بأحلامكن الصغيرة وأحالت واقعكن إلى عاصفة تبحثن عن ملاذ بعيد عنها وليس أمامكن  إلاّ أبواب ليس بإمكانكم فتحها  ! هذه صور مصغرة جدا لما تسببه الحروب والاقتتال بين الناس ، وإذا أبحرنا في يــمِّ المآسي التي خلفتها الحروب فلن نصل إلى شاطئ ، فالأمر أكبر من تفكيرنا ، وأهم بكثير ممـا يدور في مجالسنا ، فعدد الوفيات الناجمة عن الحروب هائل ومرعب ، والحروب تجلب اللأواء في نفوس الناس ، لتنوُّع المآسي المحزنة في البيوت خاصة ، وفي المجتمع بشكل عام ، والحروب تخلق المحن التي تلازم مَن يكتوون بنارها ... نار الحروب الأيامَ الطوال ، بل ربما السنين ، ومهما حاولنا أن نجسد في عباراتنا مقدار المرارات التي تخلفها الحروب فلن نستطيع ، إن قنبلة نووية أهلكت سكان مدينة فكانوا أثرا بعد ، وإن قنابل كيماوية قلبت حياة الناس إلى جحيم ــ كما يُقال ــ بل إن الملايين قُتلوا في الحربين العالمتين السابقتين ، ومشاعرنا لاتتحمل وطأة نتائج تلك الحروب المدمرة ، والحروب الأهلية التي تكون غالبا حروبا ظالمة  تستعمل فيها أسلحة الأحقاد التي تخلق أنواع القتل والتعذيب بما لايخطر على بال الإنسان الذي يشعر بإنسانيته . إن وفاة نفس واحدة تشكل مأساة محزنة لأولاد وبنات وأمهات وأخوات وإخوة وأعمام وأخوال وجيران ، وربما تمتد المأساة لتنال من العشيرة أو بجمع من الناس الآخرين . وهكذا تعظم المصيبة مصيبة الموت أمام الأعداد الهائلة من القتلى والمفقودين ... ولا حول ولا قوة إلا بالله . إنها المعاناة ... معاناة نتائج الحروب  ، ولا شك بأن انحراف معاني الإنسانية  وقيمها السامية هي التي أوجدت هذا الواقع المفزع ، والرحمة الإلهية نزلت على جميع الأنبياء لتنقذ الناس من مرارات الأحقاد ، وفظائع الحروب ، وأهوال التنكيل .

  وفي كتاب قيم الإسلام وأخلاقيات الحرب والسلام  للكاتب إبراهيم  محمد العناني : ( وإذا كنــا نلمس في زماننــا الحالي اهتمامــا الدولي باحترام آدمية الإنسان ـ بغض النظر عن جنسه أو دينه أو لغته ـ فإن نظرة  محللة لأسس وأبعاد هذا الاهتمام يتضح منها أنها لا تخرج عن المبادئ العامة ذاتها التي سبق وأرســتها الشريعة الإسلامية، وإن كانت هذه الشريعة  تحتفظ بكونها أعمق وأشمل من أي تنظيمات وضعية، محلية كانت أو دولية لقد كانت حاجة الأمم إلى الإصلاح عامة بســبب تفشــي الفســاد في مشــارق الأرض ومغاربها ، وفي مختلف مناحي الحياة، فجعل الله سبحانه رســالة محمد صلى الله عليه وسلم ، خاتــم الأنبياء عامة كذلــك، ويندهش عقل الناظــر في أحوال البشر حين يرى أن الدين الإســلامي قد جمع إليه الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها في أقل من ثلاثين ســنة ) ، ثم فُتحت البلاد والأمصار في بقاع الدنيا غربها وشرقها في سنين ليست بالطويلة ولا هي بالثقيلة على الوجود البشري ، فالناس فتحوا قلوبهم في ظلال الإيمان والإخاء ، واسترعى انتباههم أن الإسلام هو الرحمة المهداة للبشر ، وأن الشعوب ماخُلقت إلا للتعارف والتآلف والتآخي ، وليس للحروب المدمرة ، ولا لصناعة المآسي المفزعة . وَلْنُصغ إلى كلام الله البارئ للبشر حيث خاطبهم : قال تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) 10/ الحجرات ، وفي تفسير هذه الآية يقول القرطبي : ( إنما المؤمنون إخوة ) أي في الدين والحرمة لا في النسب. ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب . فاعتصام البشرية بحبل الله ، وعدم تفرق الناس من خلال العداوات التي تؤجج نيران الحروب ، بدلا من تأليفها ، هي المنهج الصحيح القويم لهم ، ولكـــن أين هــــم من قوله سبحانـــه وتعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا )103 /آل عمران .

وسوم: العدد 1009