وأبحث في فضاء الناس عن لواء

وكان حمل اللواء في التاريخين العربي والاسلامي قيمةً مضافة، يزيد في شرف حامليه، ما أدوا حقه، وقاموا بواجبه. ويديّثهم بالصغار، ما فرطوا وضيعوا.

وحين أعاد بنو قصي بن كلاب اقتسام معاقد الشرف من قريش، مع بني عمومتهم من بني عبد مناف.. حازوا شرف السدانة ودار الندوة وحمل اللواء، لواء قريش في حروبها.

وقد أقرهم رسول الله على كل ذلك بعد الاسلام.

المهم ان العرب كانت تفاخر أو تتفاخر، بحمل الألوية والرايات، في الحروب، وكان المقاتلون بعد أن ينتشروا في مساحة واسعة من الأرض، فيلتحموا مع عدوهم، ثم يرفع أحدهم رأسه، ليعرف اين راية قومه، ومثابتهم ليرجع إليهم.

وكان من معاني ان تظل الراية مرفوعة أن الجيش ما زال صامدا وثابتا، ومن معاني سقوط الراية أو اللواء، أن العقد قد انفرط، وأن الهزيمة كل حلت. وأن الكارثة قد وقعت، وأن أمر القوم قد إلى إلى بوار.

ولذا نقرأ في كتب السيرة عن يوم مؤتة، أن سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، كان يحمل راية رسول الله صلى عليه وسلم بيمنه في ذلك اليوم وكان هو قائد الجيش، قالوا: فقطعت يمينه، فما ترك راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تسقط، واشتغل بيمينه المقطوعة، بل أخذها بشماله، فكر عليه جندي من جنود العدو، وكانوا مصممين على إسقاط راية المسلمين، وهو تكتيك حربي في ذلك الزمان، فقطع شماله أيضا، فاحتضن سيدنا جعفر رضي الله عنه الراية بعضديه، ولم يدعها تسقط، ومنه لقب بذي الجناحين. والجناحان هما تعويض ربه كما في الحديث عن الذراعين المقطوعين، ومن الجناحين ومن حديث يطير بهما في الجنة حيث يشاء أيضا، اشتق الناس لقب: جعفر الطيار، رضي الله عنه وأرضاه..

وقد أدرك قادة الأمة المعاصرون أهمية ودلالة ورمزية عناوين، مثل الراية، واللواء، وما يعني كل منهما من معاني الرشد والثبات والعزيمة والتضحيات فسميت بذلك أحزاب ومؤسسات وجماعات وصحف ومجلات.

وكانت العرب قد عرفت قيمة كل ذلك، وعضدّته بأشعارها تكريما وتعليما..

فقالت في المديح:

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاهــــــا عُرابة باليمين

وعُرابة هو الممدوح. واليمين: رمز الفأل والقوة والاقتدار.

وقالوا في الاستحقاق:

إن علـــــــــى حامل اللواء حقا

أن يخضب الصعدة أو تندقا..

والصعدة: هي العصا الغليظة يرفع عليها اللواء، فعلى حاملها أن يثبت في تحتها حتى إن اقتضى الأمر ولو تخضبت بدمه، أو انقصفت في يده. يعنون أن لا عذر لحامل اللواء، أو لمن رشح نفسه لحمل اللواء أن يتخلى عنه، وأن يلقيه أرضا عند أول صوت…

على طريقة الذين (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ)

وكان من النشيد الذي تعلمناه في المسجد ونحن فتيان صغار:

في سبيل الله ثرنا نبتغي رفع اللواء..

وأقلّب وجهي في الفضاء أبحث عن لواء...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1013