الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـ(فولتير) (دراسة مقارنة-10)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رأينا في المقال التاسع من هذه السلسلة الدراسيَّة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، حكاية البطل مع ذلك الناسك الغريب الأطوار. ونكمل اليوم القول إنها كانت قد انتهت بهما الرِّحلة إلى أرملةٍ محسِنة، يعيش معها فتًى قريبٌ لها في الرابعة عشرة من عمره، جميلٌ محبٌّ، كان أملها الوحيد. فضيَّفتْهما بأحسن ما استطاعت. ولمَّا كان الغد أَمَرَت الفتى أن يَصحب المسافرَين إلى جِسرٍ أصبح عبوره خطرًا. مضى الفتَى أمامهما، حَفِيًّا بهما، فلمَّا بلغوا الجِسر، قال له الناسك: "أَقْبِلْ؛ فإنِّي أُريد أن أشكر لعمَّتك صنيعها." ثمَّ أخذ بشَعره وألقاه إلى النهر. فصاح به (صادق): "يا لكَ من وحش! يا لكَ من مجرم، لم يرَ الناس مثله!" قال الناسك: "لقد وعدتَني أن تصبر على ما ترَى. فتعلَّمْ أنَّ تحت هذه الدار، التي دمَّرتْها القُدرة الإلهيَّة، كنزًا عظيمًا، قد ظفِر به صاحبها. وتعلَّمْ أنَّ هذا الفتَى، الذي قتلتْه القُدرة الإلهيَّة، لو عاش، لقتلَ عمَّته بَعد عام، ولقتلكَ أنت بَعد عامَين."

ثمَّ تحوَّل الناسك إلى مَلَكٍ كريم، هو المَلَك (جسراد)، وأخذ يفسِّر لصادق الأسئلة التي كانت تشغل فكره حول القَدَر، ثمَّ صعدَ إلى السماء العاشرة.(1)

وقِصَّة (صادق) مع الناسك واضحة الشَّبَه بقِصَّة النبيِّ (مُوسَى) مع (الخِضْر)، التي قصَّها "القُرآن" في "سورة الكهف"(2). ويُلحَظ أنَّ (فولتير) قد صاغ القِصَّة كما هي في "القُرآن"، مع بعض التغييرات، مثل جعله الناسك- الذي أورده في دَور (الخِضْر)- مَلَكًا. إلَّا أنَّ دَور (الناسك والخِضْر) في القِصَّتين كان واحدًا، وهو تنفيذ القَدَر الإلهيِّ في المخلوقات. في خِطابٍ يسعى- بحسب منطقه الخاصِّ- إلى الحِجاج بأنَّ وراء بعض الأحداث أسبابًا غيبيَّة، يعجز عقل الإنسان عن إدراكها، بل قد يراها بنقيض حقيقتها. وأمام الاستغراب والتساؤل يقوم بطل الحكاية (الخِضر/ الناسك) بالتبرير والتفسير لما اقترفَه من أعمال، تبدو في ظاهرها خاطئة. وإنْ ظلَّ التبرير والتفسير نفساهما ميدانَي تساؤلٍ أيضًا واستغرابٍ من (مُوسَى/ صادِق).

ومع أنَّ (فولتير) قد جعل من الناسك مَلَكًا، ممَّا لا نجده في «القُرآن»، فإنَّ شخصيَّة (الخِضْر) القُرآنيَّة قريبةٌ من صِفَة الملائكة. بل تَذْكُر بعض التفاسير القُرآنيَّة، التي تطرَّقت إلى الخلاف حول حياة الخِضْر: أنَّ الخِضْر حَيٌّ؛ لأنَّه شَرِب من عَين الحياة واغتسل من مائها.(3) وأيًّا ما كان الأمر، فإنَّ شخصيَّة الناسك الملائكيَّة تُشْبِه شخصيَّة الخِضْر في تصوُّر بعض المسلمين إلى حدٍّ بعيد.

وقد جعل (فولتير) الناسكَ هو الذي يسعَى لصُحبة الفتَى (صادق)، على حين أنَّ ما في قِصَّة «القُرآن» قد جاء على العكس؛ فالفتى (مُوسَى) هو الذي سعَى إلى أن يصاحِب (الخِضْر) ليتعلَّم منه ما لم يُحِط به عِلمًا.

ويُلحَظ أنَّ الأعمال التي قام بها الناسك أربعة:

  • سرقة الصَّحن الذَّهبي المرصَّع بالجوهر من قَصر الغنيِّ المتكبِّر الذي أكرمهما.
  • تقديم الصَّحن مع دينارَي الذهب إلى الغنيِّ البخيل وخادمه.
  • حرق دار الفيلسوف الفاضل الذي أكرمهما.
  • قتل فتَى الأرملة المُحسِنة الفاضلة.

أمَّا الأعمال التي قام بها (الخِضْر)، فثلاثة فقط، هي: خَرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وإنْ كان العملان الأوَّلان للناسك بمثابة عملٍ واحدٍ، هو: سرقة الكريم وإعطاء البخيل؛ للحكمة التي زعمها.

ومهما يكن من أمر، فسنعرف، في المقال الحادي عشر من هذه السلسلة، كيف تصرَّف (فولتير) في هذه القِصَّة القُرآنيَّة وحوَّرها لتلائم مراميه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 125- 126.

(2) الآيات 65- 82.

(3) لكنَّ فريقًا من المفسِّرين يحتجُّ في الردِّ على ذلك بحديثٍ للرسول، هو أنه: "رُوِي أنَّه صلَّى العِشاء ذات ليلةٍ، ثمَّ قال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنَّ رأس مئة سنةٍ منها لا يبقَى ممَّن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"؛ فيقول هذا الفريق: إنَّ (الخِضْر) لم يكن ليعيش بعد مئة عام من تاريخ وجوده. (يُنظَر: أبو السعود، (د.ت)، تفسير أبي السعود، (بيروت: دار إحياء التراث العَرَبي)، 5: 239). وهو احتجاجٌ لا معنى له لدَى من آمَنَ بأنَّ الخِضْر شخصيَّةٌ استثنائيَّةٌ، وليس كسائر الناس.

وسوم: العدد 1017