الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـ(فولتير) (دراسة مقارنة-12)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

أشرنا في المقالات السابقة إلى أنَّ قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787) قِصَّةٌ شرقيَّةٌ، على نحوٍ ما، بل هي أُسطورةٌ بابليَّةٌ قديمة، ويُذكَر في مستهلِّ هذه القِصَّة- في رسالة إهداءٍ إلى السُّلطانة (شعرا)، من (سَعْدي)(1)، مؤرَّخة في الثامن عشر من شهر شوَّال سنة 837 هجريَّة- أنَّ هذه القِصَّة كُتِبت أوَّل الأمر باللُّغة الكلدانيَّة، ثمَّ تُرجِمت إلى العَرَبيَّة ليتلهَّى بها السُّلطان (أولوج بوب)، وكان ذلك في الوقت الذي أخذ العَرَب والفُرس فيه يكتبون "ألف ليلة وليلة" و"ألف نهار ونهار".(2) ومن هذا يُستشفُّ أنَّ علاقةً ما قد لوحِظت قديمًا بين هذه القِصَّة و"ألف ليلة وليلة". لكنَّ ما يعنينا هنا تلك العلاقة الملتبسة بين النَّصَّين؛ من حيث إنَّ فولتير قد أخذ قِصَّةً، أو قصصًا، قديمةً فصاغها بطريقته وأسلوبه، وربما حوَّر فيها؛ ليَصحَّ القول: إنها قد أصبحت قِصَّةً فولتيريَّة، كأيَّة قِصَّةٍ أخرى تُنسَب إلى (فولتير).

أما وقد سبق في مقالات الأسابيع الماضية عرض علاقة (فولتير) بالشَّرق، وبـ"ألف ليلة وليلة" خاصَّة، فأين آثار ذلك في قِصَّته "صادق أو القَدَر

إنَّ أوَّل ما يُلحَظ أنَّ الجَوَّ العامَ في قِصَّة "صادق" شبيهٌ، إلى حدٍّ كبيرٍ، بالجَوِّ العامِّ في "ألف ليلة وليلة". فهناك، مثلًا، وصفٌ للهجوم الذي شنَّه الفتَى (أوركان) على (سمير)، حبيبة (صادق)، ليخطفها، وما صاحبه، في بيئة الحدث، من مَشاهد سيوفٍ، وسِهامٍ، ونخيلٍ، ومن خِصيانٍ، ورقيق. وكذلك تجد في الوصف الذي ساقه (فولتير) لسمير قوله: "وأسالوا بذلك دم حسناء، كان منظرها وحده خليقًا أن يُشيع الحنان في (أنمار)، جبل (إيمايوس)، وكانت تشقُّ السماء بصيحات الشكاة"(3). ومثل ذلك تلك الصورة عن بطولة صادق في الدفاع عن معشوقته، وما استتبعته من عواطف. وكلُّ ذلك يُذكِّرنا ببصماتٍ من أساليب السَّرد في الليالي العَرَبيَّة.

ثمَّ هناك صورة القَصر الملَكي بـ(بابل)، بكلِّ أجوائه، ووصف الحُبِّ الذي نشأ بين (صادق) والمَلِكة (أستارتيه)، والمواقف التي كانت تحدث بينهما، من نحو قوله:

"وكانت (أستارتيه) أروع جمالًا وأبرع حُسنًا من (سمير)، تلك التي كانت تكره العَوَر، ومن تلك المرأة التي كادت تجدع أنف زوجها. وما هي إلَّا أن يثير تبسُّط أستارتيه مع (زديج)(4)، وحديثها الرقيق الذي أخذ يُسبِغ على وجهها شيئًا من حُمرة، ولـحْظها الذي كانت تريد أن تحوِّله، ولكنَّه كان يستقرُّ على لـحْظه هو فيذكي في قلبه نارًا دَهِشَ لها دَهَشًا شديدًا... وكان إذا لقي المَلِكَة غَشيتْ عينَيه سحابةٌ، وتقطَّع حديثه واختلط، فكان يغضُّ بَصَره، فإذا تحوَّل لـحْظُه على رغمه نحو المَلِكَة، رأى عينيها يبلِّلهما الدمع، وتنطلق منهما في الوقت نفسه سهامٌ من نار." (5)

ثمَّ بعد هذا نلحظ طريقةَ معرفة المَلِك بما بينهما، وطريقة فرارهما.(6) فهذا كلُّه من الصُّوَر المتكرِّرة في "ألف ليلة وليلة". ولا حاجة للتدليل عليه؛ فـ"ألف ليلة وليلة" كلُّها عليه مثال.

وتَصِف قِصَّةُ (صادق) الرقيقَ، وسُوقَ النخاسة في (مِصْر) وفي غيرها، في صُوَرٍ "ألف ليليَّة". ولا شكَّ في أنَّ (فولتير) قد عرفَ كثيرًا عن هذه الأسواق، وعن تجارة الرقيق فيها، وعن عادات الشَّرق وتقاليده، من خلال قراءته لترجمات "ألف ليلة وليلة"، التي تَشيع فيها مثل هذه الأجواء.

وصُوَر الترحال، والشتات، وصروف القَدَر العجيبة، والتقلُّب في الأرض، ودوران الأحداث المتباينة في أصقاع متباعدة ولظروفٍ شتَّى، كلُّ أولاء تمثِّل جوانب من الجَوِّ العامِّ، الذي تتحرَّك فيه أحداث قِصَّة "القَدَر" و"ألف ليلة وليلة". وإلى هذا فإنَّ جوَّ الحُبِّ الملتهب، الذي ينتشر في تضاعيف قِصَّة "صادق"، تنتثر له مواردُ متعدِّدةٌ من الليالي العَرَبيَّة.

وكذا فإنَّ عنصرَي المفاجأة الغريبة، والمصادفة المدهشة، هما من أخصِّ ما تمتاز به الليالي العَرَبيَّة. ويظهران في قِصَّة "صادق" في مواضع عِدَّة. منها، على سبيل المثال: مصادفة المرأة المضروبة، التي عثرَ فيها حين كان متَّجِهًا إلى (مِصْر). ووقوعه في يدِ قاطع الطريق (أربوجاد). ثمَّ المفاجأة الكُبرَى، المتمثِّلة في التقائه بعشيقته الملِكة (أستارتيه)، بلا انتظارٍ أو توقُّع.

وفي مقال الأسبوع المقبل نتتبَّع المحاور المتوازية بين هذا النصِّ و"ألف ليلة وليلة"، مثل فكرة القدر، وعنصر المرأة والعشق، والفروسيَّة، وعلاقة نصِّ (فولتير) هذا بقِصَّة «السندباد البحري»، بنحوٍ خاص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) (سَعْدي) و(شعرا): شخصيَّتان فارسيَّتان. فسَعْدي: إشارة إلى الشاعر المشهور (سَعْدي الشيرازي). له "بستان الورد". (يُنظَر: غصوب، يوسف، (1961)، مقدِّمة ترجمته لـ"صادق أو القَدَر" لـ(فولتير)، (بيروت: اللجنة الدوليَّة لترجمة الروائع)، 25). وهناك من يزعم أن الكلمة هي: "شهرا Sherra"، وأنها إشارة إلى (شهرزاد)، بطلة "ألف ليلة وليلة" المشهورة. (يُنظَر: عصماني، نورية؛ حكيمة مجاهدي، (2013)، أثر الحضارة العَرَبيَّة الإسلاميَّة في الأدب الأوربي: ألف ليلة وليلة، نموذجًا، (مخطوط رسالة ماجستير، بإشراف: أ.د. عبدالعالي بشير)، (تلمسان- الجزائر: جامعة تلمسان، كليَّة الآداب واللُّغات، قِسم اللُّغة والأدب العَرَبي)، 64- 65).

(2) يُنظَر: فولتير، 12.

(3) م.ن، 16.

(4) كذا! لأنَّ المعرِّب قد آثر الاحتفاظ باللفظ الفرنسي للاسم. (يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 8). على الرغم من أنَّ الاسم معناه: "صادق"، أو "صالح"، إنْ في الفرنسيَّة، أو غيرها. وزعمَ الزاعمون أنَّ كلمة Zadig منحدرةٌ عن (العِبريَّة). (See: Fox, Margalit, (2018), Conan Doyle for the Defense, (New York: Penguin Random House), B.2, Ch.5, p.71.). ذلك لأنهم لا يعرفون العَرَبيَّة، أو لا يريدون أن يعترفوا بها! ومهما يكن من تأصيل، فلا وجاهة لاحتفاظ المعرِّب باللفظ الفرنسي، ما دام في مقام التعريب، فضلًا عن أنَّ الاسم ذو جذرٍ عَرَبي- أو سامي، إذا أبعدنا الشُّقَّة- كما هي قِصَّة (فولتير) برُمَّتها.

(5) فولتير، 51.

(6) يُنظَر: م.ن، الفصل الثامن عشر (الباسليك)، 102- 112.

وسوم: العدد 1019