حوّارة في مواجهة المغول

لا علاقة للشعر بالنبوّة، فآخر من ادعى النبوة من شعراء العرب قتلته قصيدة هجاء تافهة لا تليق بشعره. فالمتنبي لم يمت كما يموت الأنبياء أو كما يموت الفرسان، بل مات بسبب تردده وعجزه عن القتال أو عن الهرب من وجه ضبّة بطل أُهجية الموت التي كتبها.

عدت إلى المتنبي كي أؤكد الفرق بين الرؤيا الشعرية والنبوة، ومن أجل ألّا أحمّل الشعراء عبئاً لا يستطيعونه، موفّراً على النقاد احتمال السقوط في لعبة النبوة وتصديق الافتراض الذي يقرأ الحاضر بعيون ماضٍ متوهم.

كل هذا كي أقول إن الشاعر الفلسطيني توفيق زياد لم يتنبأ، بل قاده حدسه الفلاحي إلى استعارة أحد الأمثال الشعبية، من أجل أن يصف المسار الذي دخله الاحتلال الإسرائيلي بعد هزيمة الخامس من حزيران- يونيو 1967.

في تلك الأيام التي حملت صور المآسي التي سببتها قنابل النابالم، وصور اللاجئين الجدد، ومشاهد العار العربي في سيناء، عاد شاعر الناصرة إلى إرثه الفلاحي، مُستلهماً العلاقة بكائنات الطبيعة ليكتب عن “الواوي” (ابن آوى) الذي ابتلع منجلاً.

“عن جدنا الأول،

قد جاء في الأمثال :

واوي ..

بلع ..

منجل .. !!

كل ما تجلبه الريح

ستذروه العواصف

والذي يغتصب الغير

يعيش ..

العمر

خائف.. !! ”

لا أدري لماذا استعادت ذاكرتي هذا المقطع الشعري عبر تغيير كلمتين: استبدلت كلمة يغتصب بكلمة ينتهك وكلمة الغير بكلمة القبر، فحفظت السطر الشعري على الشكل التالي: “والذي ينتهك القبر يعيش العمر خائف”.

ربما يعود تلاعب الذاكرة بي إلى عامل أساسي هو كراهيتي لكلمة “اغتصاب” التي جرى ربطها بالنكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948، لما تحمله من قيم ذكورية. أما عبارة القبر فقد جاءت من شعوري بمرارات اللاجئين في مخيمات لبنان حين كانوا يروون عن انتهاك المقابر في قراهم المدمرة، أو عن جثث أحبائهم التي بقيت مرمية في العراء.

ماذا حصل لبنات آوى الإسرائيليين حين ابتلعوا المنجل الفلسطيني؟

عبّر وزير المالية الإسرائيلي بوضوح عن حالة الواوي، حين صرخ بأنه “يجب محو حوارة من الوجود”. بعد “البوغروم” الوحشي الذي نظمه المستوطنون اليهود الفاشيون، يأتي كلام الوزير ليقول الحقيقة عارية. سموتريتش عرّى لغة الاستعمار الاستيطاني، وقال ما سبق للدولة اليهودية أن قامت به تحت غطاء تنعّج الضحية.

غير أن الجديد هنا هو أن الاحتلال بدأ يبتلع المجتمع اليهودي في إسرائيل ويحطم مسلماته. فالاحتلال والمحو والاستيطان تعني أن “الديموقراطية” التي اقتصرت على اليهود تتلاشى. فالذي تحايل على التاريخ معلناً إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية يكتشف اليوم أن هناك تناقضاً جوهرياً بين الصفتين، فالدولة اليهودية لا تستطيع أن تكون دولة ديموقراطية والعكس صحيح. والذي يفرض قانونين على أرض واحدة، أحدهما عسكري على الفلسطينيين والآخر مدني على المستوطنين، لا يستطيع أن يكون ديموقراطياً، بل هو يمضي إلى الخيار العنصري الديني، أي إلى الفاشية.

دفع الفلسطينيون والفلسطينيات ثمن منجل الاحتلال من دمهم المراق، واليوم أتى الثمن الذي على الإسرائيليين اليهود دفعه. القسط الأول من الثمن هو تحجيم الديموقراطية الإسرائيلية في سياق إلغائها، أما الدفعة الثانية فستكون صراعاً مديداً يتفوق فيه الفلسطينيون لأنهم أصحاب الحق والأمناء على الحقيقة.

في سياق مختلف أخذنا محمود درويش إلى استحالة الهدنة مع المغول. حاول الشاعر الفلسطيني أن يستعيد قصيدة الشاعر اليوناني- الإسكندري قسطنطين كفافي: “في انتظار البرابرة”، حيث يكتشف كفافي أن لا وجود للبرابرة الذين كانوا فزاعة وحلاً في الآن نفسه:

“يقولون إن البرابرة لم يعد لهم وجود

والآن ما الذى سيحل بنا بلا برابرة؟

لقد كانوا، هؤلاء الناس، نوعًا من الحل”.

محمود درويش قلب المعادلة، فهو يقول إن المغول هنا، وليسوا مجرد حجة، كما هو حال برابرة كفافي، لكنهم لا يريدون الهدنة.

“وأخيراً، صعدنا إلى التل، ها نحن نرتفع الآن فوق جذور الحكاية، ينبت عشب جديد على دمنا وعلى دمهم

سوف نحشو بنادقنا بالرياحين، سوف نطوّق أعناق ذاك الحمام بأوسمة العائدين… لكننا لم نجد أحداً يقبل السلم، لا نحن نحن ولا غيرنا غيرنا

البنادق مكسورة والحمام يطير بعيدا بعيدا.. لم نجد أحدا ههنا

لم نجد أحدا…

لم نجد غابة السنديان”.

سبق للروائي الجنوب إفريقي كوتزي، أن قرأ قصيدة كفافي في روايته “بحثاً عن البرابرة”، ليكتشف أن برابرة كفافي هم المستوطنون العنصريون الذين يمارسون بربريتهم على سكان أفريقيا الأصلانيين.

أما درويش فقد أكمل قصيدة الشاعر اليوناني عبر قلب دلالاتها رأساً على عقب، المغول ليسوا وهماً لكن الهدنة معهم مستحيلة. فقد اقتلع المستوطنون غابة السنديان من جذورها بحيث لم يعد هناك مكان للقاء.

منذ أربعة وسبعين عاماً وإسرائيل تربي الوحش المغولي في بنيتها العميقة، فخرجت الهمجية اليوم بكل صفاقة، لا لتقتل أو تدمر فقط، فهذا ما فعلته دائماً، بل لتتغرغر بلغة القتل معلنة بأن الدولة الإسرائيلية لا تهدد الوجود الفلسطيني فقط، بل ترمي بنفسها وبشكل علني لا التباس فيه في وحول الدم.

كتب درويش بعد “أوسلو” قصائد من أجل تبدبد وهم السلام الذي لم يكن سوى غطاء لاستمرار الحرب بأشكال أخرى.

أما اليوم، ومع أزمة الهوية التي تقوم بتفتيت البناء المجتمعي الإسرائيلي، فإن المغول، الذين رفضوا الهدنة في غابة قطعوا أشجارها، قاموا بإحراق بيوت حوارة، وسيذهبون في حمى القتل والجريمة إلى النهاية.

لكن ما معنى كلمة نهاية؟

الفلسطينيون لهم تأويلهم الخاص للنهاية.

مقاومتهم وصمودهم وصبرهم تقول بأن كل نهاية افترضها المحتل قامت المقاومة بتحويلها إلى بداية.

المقاومون اليوم، يصنعون من الألم حلماً ومن الموت حياة، محولين رقصة الموت الإسرائيلية إلى بداية موت للمشروع الكولونيالي الإسرائيلي برمته.

وسوم: العدد 1022