فولكلور حلبي في شهر شعبان

وأقول مقدما أنا أحكي عن عمل أهل حلب، وليس عن عمل أهل دار الهجرة، في عصر الامام مالك. فلا أحد يعارضني عند كل قول..

ويعتقد أهل حلب بفضل الشهور الثلاثة: رجب وشعبان ورمضان، ويقدمون شهر شعبان على رجب، ويتأخرون به عن رمضان. بل يعتبرونه الشهر المدخل الى رمضان..

واعتقاد أهل حلب بفضيلة ليلة النصف، وصباحها كبير. يسامي اعتقادهم بفضل ليلة القدر، بل أدركتهم واحتفالهم بليلة النصف من شعبان أكبر.

ومنذ تشكل وعيي وأنا صبي مميز، وحتى تجاوزت الثلاثين، يوم أخرجت من وطني مكرها بفعل فاعل وتسبب متسبب، ظللت أصوم نهارها، وأقوم ليلها في مسجد من مساجدها، بحضرة عالم من علمائها..

وكثير من العامة وعامة اهل العلم، ينزلون قوله تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) على ليلة النصف من شعبان.. وظاهر النص انها ليلة رمضانية أنزل فيها القرآن..

يعتقد العامة في حلب ان شهر شعبان شهر للتغافر والتصافي وإصلاح ذات البين، وتقلقهم كثيرا رواية "فيغفر لجميع خلقه الا لمشرك او مشاحن" فيخافون ان تفوتهم المغفرة.

اللهم إني قد غفرت على قلة البضاعة..

فيبادر كثير من الخصوم الى الاصطلاح. وللاصطلاح عندهم طرائق عملية، ومنها الدعوة الى طعام، أو إقراء السلام، أو يقول ابن العم لابن عمه يا ابن عمي، أو يسلم الجار على جاره منهم: صباح الخير يا جار الرضا، كانوا يحبون ان يضفوا على جارهم هذا الوصف "جار الرضا" ولا أعرف لها مأخذا!!

ويصطلحون بمن فيهم مع الاسف بعض من في الحلقات الأقرب، وينادي الوالد المكلوم من بعض أبنائه، وهذا ما يحصل، اللهم اني قد رضيت عنهم، خوفا عليهم، وأحيانا يكون الوالد أو الوالدة، مقاطعين للولد من أجل زوجته، غالبا فيسعيان إليه بالرضا خوفا عليه.. أو هو يسعى إليهما.. تصعب المعاصي على بعض العصاة من أبناء حلب في شعبان، فيبادرون الى التوبة، وأحيانا تكون التوبة شعبانية رمضانية، على طريقة احمد شوقي:

رمضان ولى هاتها يا ساقي … مشتاقة تسعى الى مشتاق..

لا تسخر فهؤلاء عباد لله وهو أدرى بهم وأولى بهم، وليس فيهم من هو عبد لي أو لك..

يبادر قاطع الصلاة الى الصلاة، وتارك صلاة الجماعة الى الجماعة، كما يبادر المعاقر للإثم من خمر ونحوه الى الإمساك، توقيرا للشهر الفضيل. شعبان ورمضان..

في حلب وفي سائر بلاد المسلمين- كما أقدر- يعتبرون شهر شعبان شهرا للتدارك والاستعداد وأنه لم تبق فرصة للتفريط

فننشد ونحن نتمايل، وما زلنا:

وإذا العشرون من شـــعبان ولت

فواصل شــــــرب ليلك بالنهــــــار

ولا اشــــــــرب بطاســات صغـــار

فقد ضاق الزمان عن الصغـــــار

ظاهر الأبيات لشارب الخمر ، ليستوفي وقد ترصده رمضان بالانقطاع.. وحقيقتها ما يفهمه ابن السبعين وهو يقول هل بعد هذا الشعبان من شعبان، وهل بعد هذا الرمضان إن أنا أدركته من رمضان..!! وأحيانا هل بعد هذا المساء من إصباح!!

ومن طقوس اهل حلب في صبيحة النصف من شعبان، زيارة القبور، وتذكر أمواتهم بالصدقات وقراءة القرآن. ثلاثة أصبحة في العام تزار فيها المقابر، بشكل جماعي، في حلب؛ صباح العيدين وصباح النصف من شعبان.

يعتقد أهل حلب ان شهر شعبان موسم للصدقات، فعلى مستوى الطبقات العامة يتواصل الناس بصحون من السمبوسك، ولا سيما في النصف الثاني من الشهر، وعلى المستوى الأعلى يتعاهد الرجل القادر ذوي رحمه بأكياس القمح او الدقيق او البرغل او السكر في أواخر شعبان، أو بين يدي رمضان، لكي يدخل المقلّ شهر رمضان ويشعر ببعض الوفر.. ولعله يعين الصائم على الصيام، ولعله يعين الصائم على الصيام.

وكان لليلة النصف من شعبان في يوم ما، بعض الهيبة، تتوقف فيها دور السينما عن العرض، وكذا ما فوقها، وتغلق محال بيع المنكر أبوابها، وكل ذلك بأمر رسمي، واحتراما لفضيلة الوقت، ولمشاعر الأكثرين.

أدركت بعض هذا..

وسمعت أكثر منه من جيل سبقني..

ويعتقد أهل حلب أن شهر شعبان شهر يكثر فيه الموت. ويقولون: "شعبان حضّروا الأكفان" وهذا مبني عندهم على اعتقاد أن آجال المقبوضين تحدد في ليلة النصف من شعبان.

وكل من انتهى اجله في عام قابل، يكتب اسمه على ورقة معلقة على شجرة الحياة.

وتتساقط أوراق هؤلاء كل واحدة في وقتها، على مدى العام.

وأن شهر شعبان هو شهر تصفية حساب العام الذي مضى، والهزة الأخيرة لما بقي ممن انتهى أجله..

يكثر الأموات في شعبان، وتكتب آجال من سيموت في عام قابل... هكذا يعتقدون.

اللهم بلغنا رمضان، وأعنا على صيامه وقيامه، وتقبله منا كاملا غير منقوص..

وسمى الناس أبناءهم من الأشهر العربية:

محرم- صفر - ربيع- رجب- شعبان- رمضان.. تبركا وتيمنا..

وأتساءل : هل صفر محرفة من سفر، فإن العرب كلها تتخوف من صفر. حتى جاء في الحديث، ولا صفر…!!

أحكي عن عادات أهل مدينتي..

أحبهم ولست بالضرورة مدافعا عن كل ما اعتقدوا..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1022