شيء عن الطائفية.. والمسارات..

عقاب يحيى

عندما استفاق وعينا السياسي.. والدنيا أوج زخم شعبي : نهضوي، توحيدي، تحرري، حماسي بكل خزين العقود، وردود الفعل على الهزائم، والتجزئة، والتخلف ..فسرنا في ركب الحداء صغاراً.. وما كان أحد يسأل أحداً من أين أنت ليعرف ـ عبر ذلك ـ دينه، أو مذهبه..كان الانتماء للعام هو السائد، وكانت هناك بحبوحة في التسامح، أو التجاوز لأصول المعتقدات، وحرية الناس في اعتناق وممارسة ما يؤمنون.. حتى بالنسبة للمتشددين حيث كان العام، المشترك يرتفع فوق كل شيء، والفضاءات مفتوحة على الوطن، والعالم، والأممية.. وعلى التوق ـ كالموج القوي ـ لبناء دولة العرب، ودخولهم العصر..

ـ وجاءت الوحدة ومعها نظام الأحادية مطعّماً ببصمة عسكرية، وبالاعتماد على الإدارة بديلاً، والمخابرات ركيزة.. فتخلخلت الآمال.. واختلطت الأحلام... ومع سقوط حكم الوحدة.. سقطت كثير الأفكار.. والاندفاعات..

***

حين " وصل البعث للحكم" عبر انقلاب عسكري.. اعتماداً رئيساً على ابناء الريف الذين يشكل فيهم" ابناء الأقليات الإسلامية" نسبة عالية،والمحسوبين على الطائفة العلوية ـ ولأسباب تاريخية ـ الحصة الأكبر، وكان تعبير" عدس" يعكس هذه الحالة من جهة، ويعبّر عن ضيق أبناء المدن لما جرى وتموضع، خاصة وأن التصفيات المتتالية : داخل الحكم، ف"الحزب" طالت العديد من المحسوبين على السنة، والفئات غير العلوية.. ليحدث ذلك التركيز الواضح على ثقل علوي.. كان يترافق مع هسيس شعبي عن تحولات بنوية تغذيها أفكار الأحادية، والحزب الواحد القائد، والتفرّد بالحكم، والقيضة المركزية بالكثير من المعطيات لنشر مناخات مذهبية كانت تجد مسوغاتها في تصرفات عديد المسؤولين الرافعين لشعارات كبيرة، يمزقونها بممارسات فئوية تقرّب العائلة وأهل الضيعة، والطائفة، وتمركزها في المواقع الحساسة..بينما تغلف الأمور بقشور من ديكورات كثيرة الأصباغ لوضعها واجهة، ومنحها امتيازات كبرى في الاقتصاد والثراء.. لكن شرط : الا تكون صاحبة قرار، أو مشاركة فيه..

ـ كان ذلك فصيحاً في البيئة التي شكّل فيها الطاغية، النرجسي، الفئوي حافظ الأسد تكتله، وتقدّم به وصولاً لانقلابه التفحيحي عام 1970 ...

***

لم يكن الطاغية خجولاً ليحكم خلف الستار.. فأعلن ترشحه رئيساً للجمهورية، مترافقاً مع تركيز طائفي قوي في المؤسسات الفاعلة : الأمن الذي بات حصنه الحصين، ومعقل استمراره، وجبروته، والجيش بمفاصله المهمة كحامي حمى الحكم وليس البلاد. وبالوقت الذي كانت تسري فيه الهسهسة الخائفة عن الطائفية في أركان المجتمع.. كانت الواجهات من السنة محاولة للتمويه والتغطية .. والتمرير.. وفقاً لتحولات نفاقية وانتهازية كبرى شهدها المجتمع.. بقوة عنف الأجهزة، وعمليات التدجين، والعجن.. خاصة بعد مجزرة حماة الشهيرة وتداعياتها، والسيطرة المطبقة للنظام على الوضع ورقاب الناس وإرادتهم..

ـ كثيرة الموضعات الطائفية التي لا يمكن إيفاؤها حقها في مقال سريع           .. وهي صارخة وتشمل محاولات التدخل في البنى والأفكار والثقافة وعلاقات البشر.. وانتماءاتهم الفكية السابقة واستبدالها بوافد جديد من منتوج النظام والمرحلة..وإن أضفنا آثار انتصار الحالة الشيعية في إيران.. وزخمها، وقوة تأثيرها، وركوبها المجنح على قضية فلسطين، ودمج القومي بالديني ـ المذهبي.. بواقع انهيار وتخاذل النظام العربي.. أدركنا جزءاً من التغييرات التشويهية التي حدثت عبر العقود، وموقع الدين والمذهبية في المحورة، والصراع، والخيار، وحتى الانتماء..

ـ هنا أيضاً وبحث" الصحوة الإسلامية" طويل بعواملها ومناصريها ودعاماتها ومدعميها.. وكرد على فشل، وسقوط المشروع الوحدوي ـ التحرري على يد حملته، وعلى محاولات التحول اليسراوي.. وغيرها.. وموقع ذلك في موازين الصراع الإقليمي والعالمي...وبروز العامل الديني بقوة إلى معادلة العمل السياسي، واستثماره تضادّاً مع قواعد النهوض، والانتماء المافوق ديني ومذهبي..

***

ـ ومع ذلك.. الثورة السورية التي انطلقت شعبية، عامة.. طرحت منذ البداية شعارات وطنية فوق دينية ومذهبية، وأعلنت ذلك بوضوح في ملخصاتها، وفي تسمية أيام الجمع.. مع اٌلإقرار بأنها، ورغم ما يحكى عن غلبة سنية فيها ـ وهو أمر طبيعي، ومنطقي ـ أنها لم تكن فئوية، ولا مذهبية، ولا حتى دينية.. وهو ما يفسر مشاركات ملموسة فيها من عديد المحسوبين على مناطق المكونات الدينية والمذهبية، واستقبالها بأمل حتى عند الحائرين، المرعوبين من سطوة النظام وجبروته، ويمكن أن نسحب ذلك بشيء من التفاؤل على وسط شعبي مهم في الطائفة العلوية..

ـ لكن.. من جديد، وبتضافر، وتداخل مجموعة عوامل : داخلية ـ إقليمية ـ خارجية ـ بالأخذ بعين الاعتبار موقع ردّ الفعل، ودور إيران، وعمليات الإبادة وشبه التطهير المذهبي، والدخول الغازي لحزب الله... وإيران.. وأذرعها.. جرت تحولات واضحة في أطروحات ومسار الثورة السورية تجنح نحو تحويل الصراع من صراع شعب ضد جبروت طغمة قاتلة.. غلى صراع مذهبي.. بكل ما في ذلك من مخاطر على الثورة ومستقبلها، وحواضنها الاججتماعية ليس بين" المكونات الدينية والمذهبية" وحسب، بل داخل " الحالة السنية" وقوفاًً، وتركيزا..وهو أمر يحتاج إلى وقفة شجاعة للمراجعة والبحث.. قبل أن تغرق البلاد في أتون حرب مذهبية خططوا لها بخبث ودهاء..

***

ملحوظة : للأمانة والموضوعية وضعت " عندما وصل البعث للحكم" بين هلالين تأكيداً على أن البعث" المسكين" لم يكن حاكماً يوماً ابداً..رغم بعض فترات المحاولات المليئة بالصراعات.. وكانت المؤسسة العسكرية : بدءاً، وعلى امتداد مسافات الصراع هي القوة الحاسمة.. وصولاً لحكم الطاغية الأسد وما أفصحه من موبقات تأسيسية في جميع المجالات، وما فعله بالبعث من تلويث وتمريغ واغتيال ومرمطة..