الرجال مواقف

في صباح أحد الأيام وأنا في طريقي لأتسوق بعض حوائج البيت استوقفني جار لنا محب للسوريين ومشفق على سورية وما آلت إليه حالها من تدمير وتخريب وما لحق أبناءها من قتل وحصار واعتقال وسجن ونزوح وتهجير، وبعد تحية الصباح قال لي بتفاؤل: هناك شيء ما يلوح في الأفق لحلحلة القضية السورية باتفاق المجتمع الدولي الذي بات يشعر بأن تداعيات الوضع في السورية بدأت تنعكس على الأمن والسلم العالميين، وأن الكبار يريدون إيجاد حل لهذه المعضلة التي أخذ دخانها يزكم أنوفهم ويدغدغ مخاوفهم وتوجساتهم، في أجواء مكفهرة حيث يلوح في الأفق صراع عالمي على خلفية الحرب التي شنها مجرم الحرب بوتين على أوكرانيا، فهذا هو قرار مجلس الأمن رقم (2245) سيفرض في النهاية على السوريين ليوقف شلال الدم حتى الانتخابات القادمة التي ستجري تحت إشراف دولي، وعلى السوريين جميعاً أن يقبلوا ما يتخذ المجتمع الدولي من قرارات، وأضاف قائلاً: الوصول إلى منتصف الطريق خير من أن لا تصل وأن تحصل على شيء أفضل من أن لا تحصل على شيء، فالفلسطينيون رفضوا قرار التقسيم فراحت فلسطين، والهند قبلت بمقتل مئة ألف هندي وحصلت على الاستقلال من بريطانيا.

استمعت إلى جاري بانتباه شديد حتى أنهى حديثه محترماً رأيه وما أبداه من محبة لسورية وإشفاق على السوريين، وكان بداية ردي على ما تحدث فيه أن تشبيهه الوضع في سورية كالوضع في الهند إبان الاستقلال وقبول الهنود بحل وسط ضمن لهم الاستقلال، ورفض العرب لقرار التقسيم جعلهم لا يحصلون على شيء هو تشبيه غير واقعي وغير منصف، لأن الهند وفلسطين تعاملت مع دول محتلة وعدوة أما في سورية فالأمر مختلف، حيث رفض حاكم جبار متكبر طلبات شعبه بالإصلاح والتغيير المتدرج، وصبَّ نار غضبه وحقده على الجماهير التي تظاهرت بشكل سلمي مطالبة بالحرية والإصلاح والتغيير، وداومت على هذا الأسلوب السلمي لأكثر من ستة أشهر، دون أن تجد عند هذا الحاكم إلا القمع والقتل والاعتقال والسجن والحصار والرصاص، يستهدف صدور المتظاهرين السلميين العزل، دافعاً بهم إلى عسكرة انتفاضتهم؛ ظناً منه أنه سيتمكن من قمعهم بحجة مكافحة الإرهاب والتمرد، إلى أن وصلت الثورة إلى ما وصلت إليه، حيث تمكنت بما غنمته من جيش النظام من سلاح وعتاد أن تبسط سيطرتها على مساحات واسعة من البلاد والمدن السورية، ملحقة بقوات النظام الهزائم والانكسارات مما دفعه للاستنجاد بحلفائه في قم وموسكو والضاحية الجنوبية والنجف الذين خفوا إلى دعمه ومساعدته بكل ما وصلت إليه ترسانتهم الحربية المتطورة، ولم يكتفوا بتزويد النظام بالسلاح والمال بل راحوا يتقاطرون إلى سورية بالآلاف من كل آفاق الأرض ليحاربوا نيابة عنه، بعد أن كاد ينفض يديه من كل من شايعوه ونصروه، وفي المقابل تحمل الشعب السوري ما لم يتحمله شعب آخر، فلم يوفر النظام أي نوع من السلاح المدمر القاتل إلا واستعمله في مواجهة الشعب السوري الأعزل، حتى تحدثت التقارير الدولية عن مقتل أكثر من مليون سوري ونصف مليون مفقود واعتقال وسجن أكثر من نصف مليون، ونزوح أكثر من ستة ملايين داخل البلاد، وتهجير نحو سبعة ملايين خارج الوطن إلى دول الجوار ودول العالم، ولا تزال آلته العسكرية المدمرة والمتجددة من قبل حلفائه تزرع الموت والدمار في طول البلاد وعرضها، في غياب أي فعل جاد للمجتمع الدولي لوقف نزيف الدم والقتل والخراب والدمار، الذي يدعو الثوار للقبول بالقرار رقم (2245) قبل أن تتحقق مضامين جنيف 1 التي تدعو إلى “تشكيل هيئة حكم انتقالية تحظى بموافقة الطرفين، ولديها صلاحيات تنفيذية كاملة، بما في ذلك على الأجهزة الأمنية والعسكرية وأجهزة المخابرات”، وأنه “عند تشكيل تلك الهيئة الانتقالية لن يكون للأسد، والمقربين منه ممن تلطخت أيديهم بالدماء، دور في سورية، ويجب أن تكون هناك محاسبة عن الأفعال التي ارتكبت خلال الصراع الحالي”.

فإذا لم يتحقق من بنود جنيف 1و2 أي بند فكيف للسوريين الذهاب إلى القرار رقم (2245)، وهم على يقين أنهم لن يحققوا أي شيء أو يحصلوا على أي شيء، وخاصة وأنه لا ضمانات حقيقية لما سينتج عن جنيف 1و2 وهذا ما حصل في جنيف، حيث اختلفت الدول الكبرى، خاصة روسيا والولايات المتحدة حول تفسير البند الثالث منه، والذي لم يحدد دور بشار الأسد في المرحلة الانتقالية وتضيق التفسيرات أو تتسع إذا ربطت الفقرة السابقة بفقرة أخرى في بيان جنيف – 1 جاء فيها: “إن النزاع في سورية ينتهي فقط عندما يطمئن كل الأطراف بوجود طريقة سلمية نحو مستقبل مشترك للجميع في سورية، وبالتالي من الضروري أن توفرّ أية تسوية خطوات واضحة وغير قابلة للإلغاء في العملية الانتقالية وفقاً لإطار زمني محدّد”، عطفاً على فقرة ثالثة أكدت على أن “الشعب السوري هو الذي سيحدد مستقبل بلاده، وعلى كل المجموعات وشرائح المجتمع في سورية أن تتمكن من المشاركة في عملية حوار وطني، يجب أن يكون ليس فقط شاملاً بل أيضاً مجديا”.

ولعل ما جاء مؤخراً على لسان أمير قطر الشيخ تميم آل ثاني من أن الحل السياسي في سورية مسدود بسبب عدم جدية النظام السوري وإصراره على القتل، هي مقولة حق تحاكي واقع النظام المجرم الذي استمرأ ذبح السوريين وتدمير مدنهم، وأنه يريد إضاعة الوقت دون الرغبة في إيجاد حل لوقف شلال الدم في سورية، وخروج المحتلين الروس والإيرانيين.

الحل في سورية (جاري العزيز) ليس بيد الكبار أو الصغار ولا في موسكو أو واشنطن أو طهران أو جنيف.. الحل بيد الثوار الذين لا يقبلون بالحلول الوسط، فهم يريدون حلاً شاملاً متكاملاً يحقق رغبات الشعب السوري وتطلعاته في الحرية والكرامة والديمقراطية، فما جرى في سورية هو دماء وليس مياه آسنة، ولهذه الدماء ثمن يجب أن يتحقق ويضمن تحقيقه مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والمتلخص في رحيل الأسد وجميع مكونات ومرتكزات نظام حكمه، وإحالة من تلطخت أياديه بدماء الشعب السوري إلى محاكم جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وضمانة مجلس الأمن بإعادة أعمار سورية وتأهيل السوريين لحياة طبيعية تكفل لهم الكرامة والحرية والديمقراطية والعيش الكريم، وإذا ما ضمن مجلس الأمن الالتزام بهذه المطالب فإن الثوار سيقبلون بالقرار (2245) ويلتزمون بكل ما جاء فيه إذا ما التزم النظام حرفياً به.

وسوم: العدد 1028