ثقافتنا اليوم والأخلاق ...؟

د. حسن طاهر أبو الرُّب

د. حسن طاهر أبو الرُّب /نابلس

الحقّ ، إني لم أكتب مقالا منذ ثلاث سنوات للنشر ، منذ مقالتي عن الراحل الكبير والناقد الفذّ عز الدين إسماعيل رحمه الله ؛ وذلك لانشغالي في أمور علمية وأكاديمية تملك عليّ وقتي جُلّه .

ولكني الآن كغيري من المهتمين بقضايا المجتمع ، ثقافته وأخلاقه ، المراقبين للظواهر التي تطفو على سطحه ، ألحظُ ظاهرة  تتسع دائرتها مع الزمن ، ويزداد حجمها مع تكاثر الناس ، وتعمق جراحها ، وينتشر نتنها مع الريح ، ويكبر هولها في العقول والصدور ... ظاهرة لا أقول يمارسها البسطاء في العيش والتفكير ، أو الغارقون في الجهل بحجة هذا نصيبهم من العلم والوعي ؛ بل الذين إن أردتَ أن تبحث لهم عن وصف ، قلتَ هم النخبة ، أو هم الصفوة ، حاملو أمانات العلم والمعرفة ، الرافلون بثياب الدعة والهيبة والوقار ..الذين يتقلدون مراكز هي حياة الناس ، وشريان المجتمع ، وقلبه النابض الدّال على الوجود ، أتعلم من هم ؟ أم ما تزال بحاجة إلى إبانة ؟؟؟ إنهم المتعلمون المثقفون . أو الذين يدّعون الثقافة والعلم ، وليس لهم من الأخلاق إلا  وجعها أو حسرتها ..وتراهم في كلّ حين يجادلون ويثرثرون ، وما أكثر جدالهم !! وما أكثر ثرثرتهم ...!!

  إنّ الثقافة أوسع من أن نقيّدها في كلمات قليلة ؛ هي في أصلها الحذق بالأمور ، والمعرفة والاطلاع ، والاستقامة ،والوعي بما حولك من أشياء ، وثقّفتُ الرمح قوّمته وجعلته مستقيماً من الاعوجاج ، ونظيفاً من النتوءات والعُقّد ، لذا سموه بالمثقّف والرماح بالمثقّفة ، وربما كان لتسمية الرجل اليوم بالمثقف علاقة دلالية بالرمح المثقّف ، وهي علاقة مجازية ، فكأن الرجل حين يتعلم بالقراءة والاستماع والمجالسة والمشاهدة ، ويفيد مما يتعلم ، يثقِّفُ عقله وسلوكه ، فيعالج ما فيه من جهل ، ويداوي ما فيه من نقص ، ثم يستقيم تفكيره وسلوكه بتثقفه أو بثقافته ..

    وهكذا.. فالثقافة لا تنفصل في حال من الأحوال عن السلوك ، الذي هو غالباً صورة لما يشير به العقل ، والسلوك عند الممارسة وبمضي الوقت يصبح جزءاً من الأخلاق التي هي مكتسبة في الأغلب ، وقابلة للتعديل

مع الأيام . والأصل في المثقف أن يكتسب أخلاقاً مميزة على قدر ثقافته ؛ لأنه يملك دربة ومراساً زيادة عن غيره ، وليس المثقف مثقفاً في شيء إذا لم يستطع أن يغيّر في سلوكه ، اللهم إلاّ إذا كانت ثقافته ساقطة تتشاجر وعادات الناس وطبائعهم ، فتكون عندئذ كالعملة القديمة التي يسمع بها الناس ولا يتعاملون بها أو يعترفون لها بقيمة في حياتهم الحاضرة ، لذا فالثقافة كما يقول د. كمال الحمصي :" سلوك بوصلته الأخلاق " وهو قول صائب وصحيح .

  إنّ الأصل في الثقافة أن تعزز الأخلاق المحمودة التي هي رأس مال المجتمع ، وكابح حركته المتهورة ، ومانع طيشه ، وآسرُ شرّه ، وحافظ عقله وقلبه ومعتقده ، ومنظم علاقته بغيره ..وقد كان عنوان دعوة الإسلام القول المأثور عن النبي عليه السلام :" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " .

     العلم مجموعة الحقائق والنظريات التي توصل إليها العقل البشري ، وتلك العلوم التي إنْ درس الإنسان بعضها  حصل على شهادة ما ، تؤهله للعمل ، كالمدرس أو المهندس أو الطبيب ...كلّ في مجال تخصصه .. أما الثقافة فهي أوسع من ذلك بكثير ، هي تاريخ أمة من الأمم وآدابها  ومعتقدها وعاداتها وتقاليدها وذوقها وطريقة فهمها للأمور ، ويدخل في ذلك الأخلاق التي تميّز أمّة ما عن سائر الأمم ..فأخلاقنا نحن المسلمين في بلاد العرب تختلف عن أخلاق اليابانيين أو الصينيين أو الفرنسيين ، لذا فالثقافة جزء من الهُوية القومية لأمة ما ، ونقول على سبيل المثال ، إن اليابان بعد الحرب العالمية الثانية أرادت اللحاق بالغرب ، دون أن يمسّ ذلك ثقافتها ، فاطلعت على علومه ومعارفه وسرّ تقدمه ، واستطاعت اليوم أن تكون منافساً حقيقياً له في جلّ الصناعات ، ولكنّ ذلك لم يكن على حساب ثقافتها التي بقيت حيّة نشطة ، لم يحدْ عن دربها أحد ، وما ذاك إلاّ لأنها  أمة تحترم تاريخها ، وآدابها وعاداتها وذوقها . وفي المقابل نجد أن تركيا اطلعت على الغرب فأخذت عنه كل حَسَنٍ وقبيح ، ولم تأبه بثقافتها التي تهاوت أمام ثقافة الغرب التي غزتها في عقر دارها ، فأصبحْتَ لا تفرق بين تركي وغربي لا في الهيئة ولا في الأفكار ، اللهم إلا قليل ممن كظموا غيظهم ، وأغلقوا النوافذ على أنفسهم فعاشوا مع ثقافتهم القديمة في قلق وضجر ...!!

     لكني ، ويشهد الله أني لم أقصد أن أحدّثك عن الثقافة في اليابان ولا في تركيا ، لأني ما أزال قلقٌ ،  على تلك التي الفئة التي تعيش معنا في ضيق هذا الوطن ، تلك التي حدّثتك عنها في البدء ، وهي التي تحمل الدرجات العلمية العالية ، وتصف نفسها ، وتوصفُ من غيرها بالمثقفة ، وهي بحقّ معاولُ تهدم من حيث تدري أو لا تدري .!!؟ ألم أتفق معك منذ البدء أن العلم والثقافة مفهومان يحملان دلالات مميزة ؟ ويجوز أن يتوحداً ، فيعطيا وجهاً مشرقاً مورقاً لهذه الأمة ..ويجوز أن يشتبكا فيصطرعاً ، فيقتل الواحدُ الآخر ..ليأخذ المنتصرُ سمة أخرى تبعده عن لون مجتمعه ، وتفصله عن روح ثقافته .

   الأخلاق يا صاحِ ، هي حديقة الثقافة الواسعة والغنّاء ، وجنّة الأرض ، وطريق السماء ، وهي العظّْمُ الذي من دونه لا تتحرك الثقافة على قدمين وبيدين ، ولا تجدد هواءً ، ولا تشمّ حياةً  ، أم أنّك تستطيع أن تتخيل ثقافة من غير أخلاق تُمَثِّلها ، وسلوك يزيّنها ، وذوق يهذّبها ..؟؟ أنا لا أستطيع أن أراهما إلاّ أفكاراً تدبّ على الأرض ، ولا أستطيعُ أن أفصلَ بينهما ؛ لأني سأطالبُ بعدُ بالفصل بين الشمس والحرارة ، والثلج والبرودة ، واللحم والعظم ..وذاك ما لا أستطيع له سبيلا..!!؟

   وأظنك توافقني بعد هذا كله على أنّ الإنسان لا يعيش بمعزل عن غيره من الناس ، فهو في أسرته فرد من مجموع ، وأسرته جزء من عائلة ، وعائلته فرع من قبيلة أو عشيرة ... ومجموع ذلك يجعله كياناً من كيانات مجتمعه الواسع الذي يتألف منه ويتآلف معه ، ويشتمل عليه ويشمله بخيره العام .. فهل يستطيع هذا الفرد بعد هذا كله إلا أن يكون في مضمونه غصناً غريباً عن شجرته التي تفرع منه ؟؟ هل يستطيع أن يتمرد على قانون الطبيعة الذي خلقه خالق الكون ؟ قد تجد على أغصان شجرة البرتقال أحياناً حبة تختلف في شكلها وحجمها ، لكنّك لا تستطيع أن تعثر على فرق واحد في الطعم بينها وبين سائر ثمار الشجرة ؟؟ وكذا الفرد في مجموع ، فقد يختلف في لونه وشكله وحجمه ، لكن طباعه وعاداته ستبقى تشير إلى تلك الشجرة التي فرُعَ منها ..!!

      ... أنا يا صاحبي لم أقرأ يوماً أو أسمع أن الأخلاق تختلف مع الثقافة !! ولم أتخيل أن الذين منّ الله عليهم بسعة في العلم فحملوا الدرجات العالية نقص قدرهم حين تزينوا بالأخلاق ، وساروا على الأرض ملائكة ، ورحموا صغيرهم وأجلوا كبيرهم !! أو قلّت مهابتهم ، وذاب وقارهم حين يرحمون المساكين ، ويحسنون إلى الفقراء ، ومدّوا يد العون للغلابى والمحرومين !! ولا أعلم أن العلم كان يوماً ضد الصدق والوفاء والأمانة والتواضع والنصيحة والمحبة إلاّ في هذا العصر ..!! ألا يحزنك أن يكون كلّ ذلك حاصل من حولك ؟؟ ألا يقلقك أن ترى جزءاً من هذا النفر من المتعلمين الكبار ، قد أشاح وجهه عن سماع الحقيقة ؟ وبدا كالطاووس يصول ويجول مظهرا الزهو والخيلاء على من يراهم حوله عبيداً هو سيدهم !!؟؟؟ لا يسمع لناصح ، ولا ينصت لمتكلم ، يريدك أن تبقى أذناً صاغية لمغامراته وآماله ، يظن الدنيا قد خلقها الله مع أنسها وجنّها لخدمته وطاعته ، ولا يتورع عن الإساءة لوالديه، فما ظنك بأصدقائه ومجالسيه ؟ ما ظنك بعامة الناس ؟؟ ورحم الله خليفة المسلمين أبا الحسن علي حين قال :" الشريف إذا نودي تواضع ، والوضيع إذا نودي تكبر ..".

وصنف آخر ، يسرق العلم من أصحابه ليقال عالم جهبذ ، ويحلف الأيّمان كاذباً وهو ألدّ الخصام ..ويقتحم الكتب والرسائل فيأخذ ما يشاء ويغيب ما شاء الله له أن يغيب ويظهر بعد ذلك وقد نشرت باسمه المؤلفات ليبيعها في سوق البؤساء بثمن غير بخس .. وصنف عجيب غريب لا يتقن إلا الرياء ليصل إلى مقاصده الشخصية ، رياء متقن مغلَّفٌ بالكبرياء والعناد والمفاخرة ، لا يظهره إلاّ في مقامات تستحق أن يظهر ، فإن جالسته ، قلتَ من قال أن عهد الأنبياء والصالحين ولّى ؟ فهذا نبي لا يعرفه الناس ، وصالح لا يحبّ المدح ولا يعشق الثناء ، وإذا تولى في الأرض ، وهيأ له الحظّ موقفاً ما رأيته شيطاناً ملعوناً ، لم تلامسْ حياة الأنبياء قلبه أبداً ، هذا إن كان له قلب يتسع لمحبة واحد من خلق الله ..!! وصنف آخر اتخذ من العلم بضاعة للتجارة ، فهو لا يعرف منها إلاّ جمع المال وشراء العقارات ، وإن تطلب روحه أهونُ عليه من أن تطلب منه أن يساعد محتاجاً أو يقلّ عثرة فقير ، حتى لو كان هذا المحتاج وهذا الفقير أقرب الناس إليه ..!! وصنف آخر وآخر وأصناف بعدها كثير لن أحدثك عنها ، لأنك بعد اليوم ستتعلم كيف تجعل عينيك تنقدان الرجال كما تنقد الدرهم الزائف ، وستتعلم كيف تميز بين أنواع الناس كما تمايز عند الذوق الحلوى ، وغيرها من الأطعمة..

  وبعد ، ألا يحزنك أن يكون ما قلته موجوداً ورائجاً بين المتعلمين والمثقفين ، الذين لا همّ لهم إلاّ مراقبة بعضهم ، مراقبة الحاسد الحاقد .. أو مراقبة الصائد لفريسته !!؟ أتعلمُ يا صاحبي أن أكثر طائفة يحصل بينها التناجش والتباغض والحسد والاتهام والمراقبة هي الفئة التي يعلق جمهور الناس عليها آماله وأحلامه ، ويعتقدُ أنها هي التي ستقدم لنا الحلّ والعلاج ، وهي التي تبني ولا تهدم ، وهي التي تعمل الخير ليلا نهاراً ، وتنشر العدل وتنصف المظلمومين ... هي جزء من طبقة المثقفين من المتعلمين ، تعال واقضِ جزءاً من وقتك معها وسترى أين وصل الحلّ والعلاج ؟ وسترى من الذي يبني ويهدم ؟ ومن الذي يعمل الخير ؟ ومن الذي ينصف المظلومين وينشر العدل....!!؟؟ ستجد أنها  فئة بسيطة قليلة العدد ، ضاعت أصواتها وتضيع هباء منثوراً ، ولا يلتفت لها أحد ؟؟

   أتستطيع بعد اليوم أن تقنعني أن هناك علاقة بين الثقافة والأخلاق ؟؟ وأن هناك قيمة وروعة لبيتي شوقي حين قال :  وإنما الأمم بالأخلاق ما بقيتْ      فإنْ همو ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا

 وقوله :   صلاحُ أمركَ للأخلاق مرجعُهُ      فقوّمْ النفـسَ بالأخلاقِ تستقمِ 

إن العلم ، أقصد الثقافة ، بل الأخلاق ،أليست كلها ألفاظ تحمل دلالات متداخلة ومتقاربة في المعنى العميق ..كلها أصبحت نظريات تنام في بطون الكتب والمجلات ، فلا توقظها ..!! فهي لا تحبّ أن تفتح عينيها على أصحاب لها دفنوها ولم يقيموا لها مأتماً ..يليق بقيمها !!

 أعلمُ إنك ستقول إني سوداوي ، أنظُرُ بعيني أبي العلاء المعري المظلمتين ، لكنك لا تعلم أني أترحم عليه كثيراً ، وبخاصة حين أذكر قوله :

وقد عَدِمَ التيقنُ في زمانٍ      حصلنا من حِجاهُ على التّظنّي