لكَيْلا نستسلم ولو طال الطريق

مجاهد ديرانية

(1 من 2)

-1-

اختلف الناس في الأيام الأولى من عمر الثورة: كم تطول؟ فمن متفائل رأى أنها ستنتصر في شهور ومتشائم مَدّ مداها إلى عامين أو يزيد، أما اليوم فلا يكاد يجادل أحدٌ في أن أي نهاية لها لا تبدو في الأفق المنظور. إن الثورة اليومَ كسفينة أبحرت في اليمّ ولمّا تبلغْ ميناء الوصول، وكلما نظر الربّان والركّاب أمامهم لم يروا بَرّاً في الأفق، فلا يعلمون أقَريبٌ هو أم بعيد؟

قرأت مرة حكمة لأحد القادة العسكريين تقول: "تفاءلْ بالأفضل وخطّطْ للأسوأ". وهذا حق، فإن المتشائم يقتل نفسه وإنّ مَن لا يَقْدر المعركة حق قدرها تقتله أخطارها. سوف نستمر بالتفاؤل والثقة بالله، ولكن علينا أن نأخذ بالأسباب لكي نكون متوكلين لا متواكلين. ينبغي أن يبدأ الناس بالاستعداد والتخطيط لثورة طويلة قد تستمر سنوات لا يعلم عددَها إلا الله، وقد يشتدّ فيها الحصار لدرجة الاختناق، لأن العالَم كله يسعى إلى إخضاع الثورة لحل سياسي مجحف، وبما أن الثورة ما زالت إلى اليوم صامدةً صابرةً فإنهم سيعمدون إلى الضغط عليها بشتى السبل، ولا سبيلَ خيراً لهم من الحصار والتجويع بهدف الإخضاع والتركيع.

إن العبء الذي تحمله الثورةُ اليومَ يتعاظم كلما طال عمرها، لأن إطعام الناس شهراً ليس كإطعامهم سنين، وهو يتعاظم أيضاً كلما زادت وحشية النظام وكثر ضحاياه، لأن إغاثة مليون ليست كإغاثة ملايين. فما بالكم والثورةُ تواجه الخطرين معاً: تَطاوُل الزمن واتساع الكارثة؟

لم يعد التحدي الأساسي الذي يواجه الثورةَ هو توفير السلاح، فإن أسوأ الاحتمالات هو أن يحصل عليه الثوار من مخازن العدو ومعسكراته التي تسقط في أيديهم؛ التحدي الكبير هو كفاية السكان الذين تكبر فاقتهم وحاجتهم كلما زاد بطش النظام وزادت وحشيته واستطال زمان المحنة. الملايين من الناس (الملايين حقيقة) يحتاجون إلى مأوى وغذاء وكساء ودواء ووَقود وتعليم، ليس ليوم ويومين بل لفترة قد تمتد إلى سنوات.

إن مشروع الثورة الحقيقي هو كفاية أولئك الناس، حاضنة الثورة وعمودها الفقري، فإنها تسقط إذا سقطوا وتنتهي إذا استسلموا، وهذا ما يريده النظام. ولكنْ مَن يستطيع إطعام وإيواء وكسوة ومداواة الملايين؟ إنها تبدو مشكلة بلا حل لأنها أكبر من طاقة أي مشروع إغاثي مفرد، بل إن هذا الحِمْل الثقيل لَيَنوء بالعدد العديد من الهيئات والمؤسسات الإغاثية. فماذا نصنع؟

-2-

يقول لنا علم الإدارة إن المشكلات الكبيرة تصبح قابلة للحل عندما يتم تفتيتها وتجزيئها إلى قطع صغيرة ثم تتعاون على تنفيذها فرقٌ يتّسم عملُها بالنظام والانسجام. إن أحداً لا يستطيع نقل جبل من الجبال كتلة واحدة، لكنه يصبح قابلاً للنقل عندما يقسَّم إلى أكوام من التراب وقِطَع من الأحجار، ثم يتعاون على نقل تلك القطع والأكوام العددُ الكبير من الناس.

في سوريا اليوم حاجة ملحّة لتوفير ضرورات الحياة كلها لملايين الناس، وإن توفيرها للملايين لأمرٌ ثقيل، أو أنه مستحيل. دعونا من الملايين؛ لنقسّم ذلك الجسم الكبير إلى قِطَع صغيرة، هي الجماعات التي تعيش في القرى والبلدات المتوسطة وفي أحياء المدن الكبيرة. لن تخلو جماعة من تلك الجماعات من "رواحل" أفذاذ كالذين وصفتُهم في المقالة الماضية (دعوة إلى الاعتماد على النفس). هؤلاء المتميزون لا ينتظرون من يعلّق الجرس فإنهم هم أنفسهم مختصون بتعليق الأجراس. إذا نهضوا فنظّموا مشروعات صغيرة يكفي كلٌّ منها حاجةَ الجماعة في أحد المجالات فإن تراكم الجهود واجتماع المشروعات سيكفي الناس.

لنأخذ الحاجة إلى التعليم كمثال: إن تعليم ثلاثة ملايين تلميذ في المناطق المحررة تبدو مهمة إعجازية، ولكنْ مَن قال إن هذا المشروع لا يُحمَل إلا كتلة واحدة؟ لو أنني كنت مقيماً في بلدة صغيرة فيها ألف تلميذ فماذا أصنع؟ هل أتركهم بلا تعليم لتضيع عليهم هذه السنة والتي بعدَها وبعدها؟ إنما يصنع ذلك العاجزون. ألا يوجد في البلدة معلّمون ومعلمات؟ بلى، لا يخلو مجتمع مهما يكن صغيراً من المعلمين والمعلمات. ألا توجد كتب مدرسية قديمة في أيدي الناس؟ لا بد أن توجد كتب قديمة عند كثيرين. ألا أستطيع أن أجمع بعض المتطوعين ونبدأ بالطواف بالبيوت لجمع تلك الكتب؟ ثم ألا أستطيع أن أستصفي بعض المثقفين الوُعاة فنراجع معاً ما كُتب في الكتب لتنقيته من مصائب العهد البعثي الأسدي، فنحذف منها ما هو شرٌّ موجود ونضيف ما هو خيرٌ مفقود؟ أخيراً: هل سنعجز عن توفير مكان مناسب يصلح ليكون مدرسة؟

-3-

ما هو الأمر المُعجِز الذي يستحيل صنعه في كل ما سبق؟ ألا يمكن تطبيق الفكرة نفسها في كل مكان؟ وما صنعناه لتوفير التعليم، ألا نستطيع أن نصنع مثله لتوفير الغذاء والكساء والدواء وغيرها من ضرورات الحياة؟ من هنا نبدأ، من تلك النقطة ننطلق في رحلة الاكتفاء الذاتي، وعندها سنحتاج إلى عشرات الآلاف من "الرواحل" الأكفاء وليس إلى أفراد معدودين من المخلّصين الملهَمين.

سمعت عن بعض قرى ريف إدلب التي قطع النظام عنها الماءَ عقوبةً لها لأنها خرجت عن طاعته ونالت حريتها واستقلالها، حتى صار الناس يخرجون إلى الينابيع والآبار ليَسْتقوا وينقلوا الماء إلى البيوت. فجاء بعض الرجال بمضخّات وركبوها على بعض الآبار، ثم أحضروا أنابيب وصلوا بها تلك الآبار بشبكة أنابيب المياه الأصلية، فجرى فيها الماء إلى البيوت كما كان يجري من قبل. وشاهدت قبل أيام تسجيلاً مصوَّراً يحكي قصة رجل من دُوما، هاله ما رآه في الغوطة الشرقية من إصابات تسببت في قطع أطراف كثير من الناس، فأنشأ بجهده المتواضع وبأقل الإمكانيات وأبسط الأدوات معملاً صغيراً لصناعة الأطراف الصناعية -من أذرع وسيقان وأكفّ وأقدام- وراح يركّبها بنفسه للضحايا والمصابين.

إننا بحاجة إلى عشرة آلاف نسخة من أمثال أولئك المبدعين بارك الله فيهم، الذين اعتمدوا على أنفسهم ولم يعلّقوا مصائر أقوامهم بالنجدة الآتية من وراء الحدود، فلا انتظر ذاك هيئات طبية لتوريد الأطراف ولا انتظر أولئك منظمات إغاثية لتوصيل المياه. إننا نحتاج -لكي نكمل ثورتنا ونصبر على مصاعبها ومصائبها ونحقق فيها الانتصار بأمر الله- إلى أشخاص عاديين يتميزون بالمبادرة والإبداع والعزيمة والهمّة العالية أكثرَ من حاجتنا إلى مهدي منتظَر واحد أو إلى بضع نُسَخ من أمثال صلاح الدين كما يظن كثيرون.

(2 من 2)

-4-

كم كنت أعجب عندما أشاهد صور المجاعات في بعض بلدان إفريقيا وصور كوارث الفيضانات والأعاصير في بعض بلدان جنوب آسيا، فأرى أناساً يجلسون ذاهلين خاملين ينتظرون الموت، وكنت أقول لنفسي: لقد تفوقَت الحيواناتُ العَجْماوات التي لم توهَب إلاّ الغريزة على أولئك العقلاء الذين وهبهم الله العقل والإرادة، فلو أن التي ضربها الجوعُ كانت طيوراً تطير في السماء أو دوابَّ تدبّ على الأرض لانطلقت ساعيةً باحثة عن الرزق في أي مكان. ألا ترون إلى الهرّة كيف تَطوف تتشمّم الأرض تبحث عمّا يسد الرمق؟ أيكون الواحد من أبناء آدم أعيى من القِطاط؟

لقد فكرت فوجدت أن الفرق بين الأمم الحية والأمم الميتة هو الهمة والعزيمة والمبادرة والثقة بالنفس، فإن الأموات ينتظرون النجدة من غير أنفسهم، والأحياء يعتمدون على أنفسهم لا على الآخرين. الأمم الحية هي التي تجعل من الصِّعاب فُرَصاً للتقدم والنجاح، والأمم الميتة هي التي يصوّر لها عجزُها ويأسها الفرصَ صِعاباً مستعصية على العلاج، وإني لأرجو أن يكون السوريون من أمم الحياة لا من أمم الموت. لقد كان أبناء هذه الأرض على الدوام مثالاً مضروباً في النشاط والإبداع وعلوّ الهمة والقدرة على النجاح، ولن يكون أولاد اليوم الجديد إلا خيرَ وُرّاث لأمجاد الأسلاف إن شاء الله.

يا أيها السوريون الكرام: لا تنتظروا المنقذين من خارج الحدود، فما أدراكم أنهم سيأتون؟ وكيف تتسع طاقتهم -إذا جاؤوا- لتكفي الملايين؟ لا، إن المرء لا ينقذه إلا عملُ نفسه، فقوموا فابحثوا عن كل ثغرة قائمة ثم أبدعوا خير الوسائل لسدّها. ما عال مَن صنع ولا جاع مَن زرع، فازرعوا واصنعوا وأبدعوا وتوكلوا على الله.

ليكن همّ كل جماعة أن تكفي نفسها، فإن كفايات الجماعات الصغيرة عمل تراكمي من شأنه أن يكفي الناس جميعاً، وخير وسيلة لتحقيق ذلك هي "التعاونيات". وما "التعاونية"؟ إنها مشروع صغير يتعاون في تحقيقه العددُ القليل من الناس فيُنتجون ما يكفيهم في بعض جوانب الحياة، وهو مشروع ذاتي يقوم به الناس بأنفسهم لخدمة أنفسهم، يتحركون بما آتاهم الله من قدرات وما تملكه أيديهم من موارد ولا ينتظرون النجدة من الآخرين.

-5-

إن بضع مئات من الأُسَر تقيم في قرية من القرى أو في بعض أحياء المدن الكبيرة يمكنها أن تنشئ مشروعات تعاونية ناجحة تكفيها وتُغنيها عن استجداء المساعدة من الآخرين، فيرعى بعض الرجال مشروعاً زراعياً وحيوانياً يُنتج الخضرةَ والفاكهة والبيض ولحوم الدواجن وألبان الماشية، وتنشئ بعض النسوة دار خياطة يكفي إنتاجها لكسوة كبار الجماعة وصغارها. ولا بدّ أن يوجد في الجماعة معلمون ومعلمات فيعلّمون التلاميذ والتلميذات، وطبيب ومسعفون وممرضات يقدمون الرعاية الطبية، وبعض الفنّيين المَهَرة الذين يقومون بصيانة وتشغيل ما تملكه الجماعة من أجهزة منزلية وطبية وأجهزة اتصالات وغيرها من آلات وأدوات، ومهندس مع بعض البنّائين والعمال لترميم البيوت المصابة وإنشاء مساكن متواضعة بدلاً من تلك التي يهدّمها قصف نظام الإجرام... إذا نجحت الجماعة في إنشاء وإدارة عدد قليل من المشروعات الأساسية فإنها ستكتفي ذاتياً وتستغني عن المساعدة والإحسان.

لو أننا نظرنا فسوف نجد أن كل جماعة من الناس في أنحاء سوريا جميعاً تملك من الموارد والأيدي العاملة ما تستطيع به إنشاء أمثال تلك "التعاونيات" وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي؛ إنما تنقصهم الكفاءات الإدارية التي تستطيع إبداع المشروعات ورسم الخطط وتحفيز الهمم وتجميع الموارد المادية والبشرية وتنظيم فِرَق العمل. هؤلاء الناس ليسوا كثيرين ولكنهم موجودون دائماً، إنهم هم "الرّواحل"، القادة الأفذاذ الذين أشرت إليهم في مقالتي السابقة، وهم محلّ الخطاب في هذه المقالة:

يا أيها المتميّزون المبادِرون الأكْفاء: إنكم تعرفون أنفسكم وتعرفون أنكم تستطيعون أن تساعدوا الناس وأن تصنعوا الكثير، فإن أضعتم الأمسَ فلا تضيّعوا الغد؛ ابدؤوا بالعمل من فوركم ولا تنتظروا توجيهاً ولا تنظيراً من أحد من الناس. ابحثوا عن كل حاجة من حاجات الجماعة التي تعيشون معها وأنشؤوا لكفايتها "تعاونية" من أهل الحي أنفسهم وباستثمار الموارد المتاحة بين أيديكم، ولا تحمّلوا أنفسكم ولا تحمّلوا الناس ما لا يطيقون. لا نريد من أي "تعاونية" إلا أن تكفي جماعتها فحسب، ولو أن هذا الهدف تحقق فقد كفينا أهل سوريا جميعاً.

-6-

بقيت تتمة لا بد منها لضمان تنفيذ هذا المشروع: إن من الاحتياجات ما لا تكفي لتلبيته الهممُ والكفاءات المحلية والموارد المتاحة في أيدي الجماعات الصغيرة، ولا بد له من دعم من خارجها، إما بالمال أو بالخبرة والتدريب أو بالآلات والمواد. فلو أن الجماعة أنشأت مخيطة فإنها قد ينقصها القماش الذي تخيطه ملابس تُلبَس، ولو أنها شغّلت مخبزاً فإنها ستحتاج إلى الدقيق الذي تخبزه خبزاً يُؤكل، وربما احتاج طبيبُ العيادة إلى أدوية وأدوات وخطيبُ الجامع إلى كتب ومراجع، واحتاج التلاميذ إلى دفاتر وأقلام والمزارعون إلى بذور وسماد، إلى غير ذلك مما لا يتوفر في أيدي الجماعة من الجماعات الصغيرة الكثيرة التي ستنتشر وتنتثر في طول سوريا وعرضها. فماذا تصنع؟

هنا يأتي دور الهيئات والمنظمات الإغاثية، فإنها ينبغي أن تقدم دعم "التعاونيات" المنتِجة على دعم سواها من الجماعات غير المنتجة، فتوفر لها الأدوات والآلات وتمدها بالنصائح والخبرات. إن كلاً من تلك الجماعات قائمة على نهر، ولئن مددناها بصِنَارة للصيد ومقلاة للقلي خير لنا من تزويدها ببعض الأسماك كل يوم، ويوم تكتفي الجماعات الصغيرة وتنجح في معركة البقاء فإن سوريا كلها ستكتفي وتمضي في ثورتها إلى آخر الطريق بإذن الله.