أحلام بائعة الحليب الصغيرة... حكاية من كتاب الصف الثاني الابتدائي

أشعر أنني اليوم بحاجة إلى إعادة كتابتها لأعيد بعد كتابتها قراءتها، لعلي أستفيد من حكايتها لنفسي، فطالما قيل لنا : إن في الإعادة إفادة. وما زلت أرى أن في التعليم بضرب المثل فائدة كبرى، (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ)، وفي الكتاب المقدس، سفر خاص عنوانه: سفر الأمثال..

وحاجتنا للحكاية ضرورية لكبح جائحة الأحلام، أحلام اليقظة وتهويماتها التي ما تزال تعترينا، أو تعتري كثيرا منا، فتسبب لنا القشعريرة والحمى والبرداء..

وكانت سارة وهكذا صار بعد سبعين سنة اسمها، ففي كتابنا الأول كان اسمها "بائعة الحليب الصغيرة" فقط، وفي روايتنا المعادة صار اسمها، بائعة الحليب الصغيرة، والفلاحة الصغيرة، والتلميذة الصغيرة والراعية الصغيرة، والأخت الكبيرة، سارة ..

وكانت سارة بكرَ أمها ، وكبيرة َإخوتها وأخواتها، في قريتها الصغيرة، الغافية على كتف الجبل. صارت سارة تلميذة في الصف الثاني فهي اليوم غير تلك الفتاة الأمية المغرورة التي حكوا لنا عنها ونحن صغار. سارة التي أحدثكم عنها تقرأ وتكتب وتحسب على أصابعها الصغيرة، وتحفظ من جدول الضرب ما يعينها على معرفة أن الخمسة مضروبة في الخمسة تساوي خمسة وعشرين.. فهي متعلمة وقادرة على ترويض حلمها أكثر...

وسارة اليوم تساعد أمها وأباها في البيت والحقل معا، فهي تلميذة وطاهية ومدبرة أطفال وفلاحة صغيرة. في شؤون البيت هي أخت كبيرة. وفي رعي الخراف هي راعية صغيرة. وفي الذهاب إلى السوق وبيع البيض أو الحليب أو الجبن فهي تاجرة صغيرة. وهكذا تعددت اختصاصات سارة وتنوعت أكثر وأكثر، بل صارت سارة تستمع بمشاهدة التلفزيون، وتضحك من "توم أند جيري" ومن حكايات فلونة الرائعة، وقصص "جان جو" المخيفة، الذي حل محل سلفه "أبو دبي الذي يأكل البنت ويعفو عن الصبي" وأصبحت سارة الصغيرة أو الكبيرة ، فقد اختلط الأمر عليّ، تشارك أباها في مشاهدة نشرة الأخبار، ثم في تحليلها، والتعليق عليها، السؤال الذي ظل يحيرها: لماذا يقتل الناس الناس؟؟ تقول لأبيها الذي يظل يحذرها من الذئاب، تظل تحذرني من الذئب يا أبي، أنا ما شاهدت ذئبا يفتك بإنسان، وفي نشرة الأخبار كم أسمع عن قتل الناس للناس!!

ومما تعلمته سارة في المدرسة، وكانت كلما جلست في غرفة الصف، نظرت من خلال النافذة، وتسمرت عيناها في البعد المفتوح على الأفق، أكثر من السطر المرقوم على اللوح، بل إلى السطر البعيد حيث يظهر لسارة أن الأرض تلتصق بالسماء فترتفع على الخط ذاك حتى تلامس ما تحب.

سألتها يوما معلمتها : بأي شيء تظلين تحدقين يا سارة!! اضطربت سارة واحمرت وجناتها، وقالت متلعثمة: أحب أن أنظر هناك يا أنسة. قالت لها المعلمة وماذا هناك يا سارة ؟؟ واقتربت منها، رفعت سارة أصبعها، وقالت للمعلمة هناك: حيث تلتصق الأرض بالسماء، ضحكت المعلمة وقالت: هذا خط وهمي، حيث تلتقي السماء بالأرض، نسميه خط الأفق، تظل أبصارنا متعلقة به، وكلما اقتربنا منه ابتعد. يحكي لنا حقيقة خالدة هي أن الكمال في حياتنا لا حدود له...

تلعثمت سارة مرة أخرى وتجرأت فسألت المعلمة آنستي: هناك حيث تلتقي السماء بالأرض، أو تلتقي الأرض بالسماء، كما أراها؟! ردت المعلمة لامبالية بإشكالية الطفلة البريئة؛ لا يهم المهم أنه خط للقاء ولا فرق بين أن نقول حيث تلتقي السماء بالأرض أو حيث تلتقي الأرض بالسماء. وجميل يا سارة أن تظلي متعلقة به، ولكن الأجمل أن تكوني واعية أيضا أنك هنا على مقعدك الخشبي، وأن هذا الكلام المكتوب على اللوح هو درسك الذي يجب أن تتعلميه وتحفظيه يوما بعد يوم...

هزت سارة برأسها متظاهرة بالموافقة، فهي ما تزال تستشكل فرقا بين العبارتين.

 كانت موافقتها كانت شكلية إلى حد كبير، فهي ما تزال رغم أنها تلبس ثيابا نظيفة جميلة واسعة فضفاضة، ما تزال تشعر أن ثيابها ضيقة عليها، وانها في نفسها أكبر من قريتها، ومن مدرستها، ومن مقعدها الخشبي، ومن بيتها الذي نشأت فيه، ومن المعلمة التي لا تزال تصر على أن تعلمهم تهجئة الحروف قبل اللفظ بالكلمات..

شيء ما في سارة كان متمردا أو طموحا، وهي كلما طلبت منها أمها أن توصل الغداء لأبيها في الحقل، وأن تسلك الطريق الرئيسي الآمن بين المنزل والحقل، وأن تتجنب طريق الجبل القصير قليل العابرين، أظهرت المطاوعة لأمها، ثم في كل مرة خالفتها، وغامرت فقطعت الطريق القصير قفزا، فما أسرع ما تذهب وتعود، ومع أنها تعرضت لأكثر من مشكلة على هذا الطريق، إلا أنها ظلت مصرة على سلوكه.

 وكلما طلبت منها أمها أن ترعى الخراف في المروج القريبة من القرية تظهر الموافقة، ثم تغامر طلبا للمزيد من العشب الغض النضر، فلا تهتم كثيرا لتحذيرات أمها، أو حكايات جدتها، عن أولئك الذين أكلهم الذئب. وترى نفسها دائما أقوى من الذئب بل ترى أن الذئاب ربما أصبحت أكثر تحضرا من أن تأكل إنسان!! من قصة صغيرة جدا تعلمت سارة أن الذئاب أكثر وفاء للأسرة مما يظن الإنسان!! وحين سمعت من جدها حكاية سيدنا يوسف، تعلمت منها أن تخييل الإنسان للذئب أنه حيوان شرير هو تخييل بحد ذاته شرير. وما دام الذئب لم يأكل سيدنا يوسف، تتساءل سارة ببراءة: فمن كان سبب المأساة التي جعلت عيني سيدنا يعقوب تبيضان من الحزن!! ...

في الليل تتولى سارة دائما مساعدة أخيها الصغير في الخروج إلى الخلاء، ورغم تنبيهات الأم أن على سارة أن توقظها قبل فتح باب الحجرة الخشبي، إلا أن سارة تظل دائما أحرص على راحة أمها، قليلة الاكتراث بما يقال، فتفتح الباب في جوف الليل ولا تبالي.

تعلمت سارة بوقت مبكر كيف تحلب النعاج، وكيف تملأ الحليب بالجرة أو بالشكوةـ وكيف تجعل منه لبنا أو تمخضه فتجعله زبدا ...

وفي يوم أرادت الأم أن تكافئ ابنتها سارة على كل ما تقدم، فقالت لها يا سارة ضعي الحليب الذي تحلبينه اليوم في الجرة، واذهبي به إلى سوق القرية فبيعيه، ثم احتفظي بثمنه لنفسك مكافأة على جهدك ..

وكان هذا الكلام مثل النافذة العريضة انفتحت أمام عيني سارة بل في أعماق رأسها وقلبها..، فامتدت وامتدت إلى حيث ذاك الخط الوهمي، الذي سمته المعلمة الأفق، حيث تلتقي السماء بالأرض، أو حيث تلتقي الأرض بالسماء، وقد قالت المعلمة أنه لا فرق بين الكلمتين. ولكن سارة الصغيرة بأشواقها الوثابة، كانت تشعر بفرق ما ولا تجيد التعبير عنه. السماء واسعة رحبة جليلة مهيبة، وحين تتطامن نحو الأرض تفعل ذلك برحمة وحنان، والأرض المشتاقة دائما، والمقفرة أحيانا، تفعل ذلك بتطلع وأمل وشعفـ مثل نفس سارة...

حملت سارة جرة الحليب، وغدت إلى السوق، وفي الطريق انبسطت أمامها كل المروج خضراء، سأبيع الحليب، وأشتري دجاجة، وأبيع البيض ويكون لي دجاج، بسرعة كبيرة تكاثر سرب الدجاج، فكان شاة ولودا، ثم قطعان من شياه وخراف، والشياه كله تلد وتكثر، وحين فكرت سارة بالشياه والكبش، صعد دم خفيف إلى وجنتيها، ثم قفزت بسرعة عن هذه القضية الهامشية، واستمرت قي توليد الحلم، وليس فقط في توليد الشياه، فكان لسارة بعد قطيع الشياه، بقرة فقطيع من أبقار وثيران تساعد أباها على الحراثة، وكذا تساعد جارتهم العجوز أم حسن، ويمضي الحلم في طريقه نحو الامتداد والاتساع، حين تتعثر سارة بحجر مرمي قي طريق الناس، وتسقط على الأرض، وتنكسر جرتها، وينسكب حليبها مع أحلامها الدافئات، وتجد سارة نفسها مستلقية على ظهرها، ودموعها، تجري من عينيها، ووجها كفاحا في وجه السماء..

وتعود سارة إلى الحلم، فالحلم دائما مطواع مستجيب دافئ حنون، يفتح ذراعيه لسارة كلما تعبت، وكلما خافت، وكلما نابتها نائبة، وكلما جاعت، وكلما عطشت، وكلما قسا عليها أهل الأرض، هربت منهم، ووجدت نفسها تستدير عنهم وتجد في الحلم سلمها فترقى به إلى السماء...

صوت من أعماق سارة خاطبها: إلى متى ستظلين تحلمين ؟؟ أنت ملتصقة بهذه الأرض، وستظلين تتعثرين بهذه الأحجار!!

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1048