«قسد» على ضفاف الفرات: هيمنة وتحكّم

صرح صالح مسلم في أكثر من مناسبة، أيام كان حزبه عضواً فاعلاً في هيئة التنسيق وكان هو نائب حسن عبد العظيم في رئاسة الهيئة، وذلك في العام الأول من الثورة السورية 2011، بأنهم سيحافظون على الخصوصية الكردية، ولن يرسلوا أبناءهم للقتال خارج المناطق الكردية، وإنما سيحتفظون بهم ليدافعوا عن المنطقة وأهلها، في حال تعرضها لهجمات «النظام» أو الإرهابيين. هذا مع معرفة الجميع بأن حزبه «الاتحاد الديمقراطي- ب. ي. د» الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني "ب. ك. ك» دخل إلى المناطق ذات الغالبية الكردية بهدف قمع الناشطين فيها، وإبعادها عن الثورة السورية؛ وذلك بعد أن شهدت المناطق المعنية مظاهرات واعتصامات كبيرة كرنفالية لافتة، تأييداً للثورة السورية وتفاعلاً معها، خاصة في مدينة عامودا.

وكثيراً ما سمعت من قياديي الأحزاب الكردية السورية؛ ومن ثم من قياديي المجلس الوطني الكردي بعد تأسيسه بتاريخ 26 تشرين الأول/أكتوبر 2011، بأنهم لا يوافقون على وجود الجيش الحر في مناطقهم، وذلك خشية تعرضها للقصف من جانب السلطة. هذا في حين أن الجيش الحر لم يكن يمتلك امكانية تشكيل القوات، وإرسالها إلى مختلف المناطق السورية، وإنما كل ما هناك هو أن يشكل أبناء كل منطقة بأنفسهم وحدات مهمتها حمايتهم، مستخدمين اسم الجيش الحر للشرعنة، الأمر الذي كان سيؤدي إلى أفشال مشروع السلطة مع «ب. ك. ك» منذ البدايات، ولم يكن سيؤدي إلى الاقتتال بين الكرد، لأن الأخير في ذلك الحين لم يكن يمتلك أي شعبية بين الناس في أجواء الثورة.

وشيئاً فشيئاً تمكن «ب. ي. د» بتوجيهات وتعليمات من «ب. ك. ك» من إقناع الأحزاب الكردية السورية، وأوساطها الشعبية، بعدم الالتزام بشعارات وأسماء أيام الجمعة التي كانت تتوافق عليها تنسيقيات الثورة على مستوى سوريا بكاملها، وهنا علينا ألا نتجاهل علاقة بعض الأحزاب الكردية السورية مع الأجهزة الأمنية السلطوية.

واستمر الوضع هكذا إلى أن تمكن الحزب المعني من تثبيت قواته ومراكزه في مختلف المناطق، وأعاد ترميم جسور التواصل مع مؤيديه من الكرد، ومع السلطة، وذلك بناء على اتفاقيات ملزمة مع هذه الأخيرة على توزيع الحصص والمهام بغية تحقيق الهدف المتفق عليه مع سلطة آل الأسد.

ولفرض سلطته في الشارع، دخل هذا الحزب في صدام مع التنسيقيات الكردية والناشطين الكرد الذين كانوا قد تفاعلوا مع الثورة، وباتوا جزءاً منها. فكان التغييب والاعتقال والاغتيال، ومن ثم ارتكاب المجازر، ومجرزة عامودا، بتاريخ 27 حزيران/يونيو 2013، مثال دامغ في هذا المجال.

وبعد هذه الخطوات، التف حزب العمال بواجهاته المختلفة على الأحزاب الكردية السورية، وأخرجها من «المولد بلا حمص» كما يُقال، وذلك بعد أن اكتسب الشرعية السياسية بطريقة ما عبر اتفاقيتي هولير 1 بتاريخ 11 حزيران/يونيو 2012، وهولير2  بتاريخ 1 تموز/يوليو 2012، ومن ثم اتفاقية دهوك بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2014.

فهذا الحزب، مثله في ذلك مثل حزب الله في لبنان، لم، ولن، يقبل بأي شريك جاد، يُلزمه من موقع القادر بضرورة احترام القواعد المتوافق عليها، وإنما هو حزب يريد أن يكون هو صاحب قرار السلم والحرب، والمحتكر للعمل العسكري والأمني والإداري عبر كوادر قنديل، إلى جانب التحكم بالموارد الاقتصادية والمعابر وغير ذلك. وبالتناغم مع هذا التوجه، قام بتهديد قيادات الأحزاب المذكورة، ومارس ضدها التغييب والاعتقال والطرد.

هذا في حين أنه، وفي إطار، الاتفاق الذي تم بينه وبين السلطة، تمكّن من السيطرة على المؤسسات والمرافق وآبار النفط في المناطق ذات الغالبية الكردية من دون قتال، إذ انسحبت منها السلطة ظاهرياً، بينما على أرض الواقع ظلت السلطة المعنية في مواقع مفصلية، وليس في المربع أو المربعات الأمنية وحدها. ففي القامشلي على سبيل المثال ظلت السلطة محتفظة بالمطار، وبمعسكرات ومواقع أخرى، تُستخدم اليوم للتدريب وتخزين الأسلحة، والتنسيق مع الإيرانيين وقيادات حزب الله، وحتى مع الروس. أما الخطاب الثوروي الذي تستخدمه «قوات سوريا الديمقراطية – قسد» وواجهات «حزب العمال الكردستاني» الأخرى في مواجهة السلطة، فهو مجرد خطاب للاستهلاك المحلي.

ومع توافق الأمريكان والروس في عهد الرئيس الأسبق أوباما عام 2015 على حصر القضية السورية في مسألة محاربة الإرهاب، قرر الجانب الأمريكي الاعتماد على قوات الحزب المذكور على الأرض، ودعمها بالإسناد الجوي، إلى جانب تزويدها بالعتاد والأسلحة والذخيرة والأموال، وذلك لتحاشي إنزال القوات البرية الأمريكية على الأرض قدر الإمكان لأسباب عدة تمّ تناولها مسبقاً في أكثر من مناسبة؛ وكان ذلك بعد رفض فصائل المعارضة الطلب الأمريكي الخاص بأولوية محاربة مقاتلة داعش من دون السلطة.

ومع هذا الاعتماد الأمريكي على الحزب المعني حصل تحول لافت في مهمة «ب. ك. ك» الذي لم يقطع ولم يعلق علاقاته مع سلطة آل الأسد، وكذلك مع النظام الإيراني، وإنما اكتفى بتمويهها، واطلاق التصريحات المنتقدة لسلطة آل الأسد من دون النظام الإيراني، ودفع بقواته لمحاربة داعش الكوكتيل المخابراتي وفق التعليمات الأمريكية، وكان ذلك متكاملاً  مع التزاماته مع النظام الإيراني، وسلطة آل الأسد.

ومع الوقت لم يكتف الحزب المعني بالخزان الشبابي الكردي السوري، الذي استغل حاجاته الاقتصادية وعواطفة القومية، وجنده في مشاريعه؛ بل فتح المجال أمام العرب والسريان وغيرهم الذين انضموا بأعداد كبيرة إلى القوات العسكرية الخاضعة لحزب العمال، وأجهزته الأمنية والإدارية المدنية التي شكلها تحت مسمّى «الإدارة الذاتية».

ورغم كل الواجهات «الديمقراطية» التي تشدقت، وتتشدق بها، «قسد»، إلا أن القرار الفعلي يبقى بيد كوادر «ب. ك. ك» المهيمن على قرار سائر المؤسسات بما فيها الوزارات والمؤسسات الإنتاجية المحلية، ومصادر الموارد؛ ويُشار هنا على وجه التحديد إلى شركة النفط ومؤسسة الحبوب، والمعابر بين المناطق الخاضعة للإدارة وإقليم كردستان العراق، والمعابر التي تفصل بين مناطق «الإدارة الذاتية» ومناطق النفوذ الأخرى، بما في ذلك المعابر الخاضعة للسلطة والروس والإيرانيين، والمناطق الخاضعة للنفوذ التركي، وحتى تلك الخاضعة للفصائل المتشددة. كما تقوم الإدارة المعنية بجمع الضرائب من الناس، وتفرض الآتاوات على التجار وأصحاب المحلات الصغيرة وعلى الحرفيين. وهذا كله يؤكد أحد الأمرين، إما أن صالح مسلم والكرد السوريين بصورة عامة ضمن إدارة «ب. ك. ك» هم مجرد واجهات تزيينية تضليلية، وهذا هو الأرجح، أو أن «ب. ك. ك» يمارس تقية تضليلية تتناسب مع مهمته الوظيفية.

وما حصل مؤخراً من اقتتال بين «قسد» وما سُمي بقوات عشائر منطقة دير الزور لا يخرج هو الآخر عن نطاق اللعبة التضليلية التي تعرّض، ويتعرّض لأحابيلها السوريون. فـ «قسد» تلعب على جميع الحبال؛ والعشائر المعنية هي الأخرى ليست متجانسة، ولا توجد مرجعية واضحة، وليس هناك توافق بين أبناء العشيرة الواحدة على المتحدث باسمها أو الشيخ الذي يقودها. بل أن الكثير من هؤلاء الشيوخ قد أتقنوا لعبة توزيع المهام، إذ يكون قسم منهم مع السلطة، وقسم آخر مع «قسد» وثالث مع المعارضة. حتى أن بعضهم ركبوا موجة الامتعاض والرفض الشعبيين المشروعين لتصرفات وهيمنة كوادر قنديل على مفاصل القرار والاقتصاد؛ وتحدثوا باسم الثورة، رغم انهم لم يقطعوا الصلات مع النظام الأسدي، وكانوا في المجلس الصوري المسمى «مجلس الشعب» إلى وقت قريب؛ كما أن بعضهم الآخر، كان وما زال، يتنقل بين الضفتين، ويضع قدماً هنا وقدماً هناك، واستخدم، ويستخدم، لغة عنصرية مقيتة تجاه الكرد، متناسياً أو متجاهلاً بقصد أن «قسد» تمثل فصيلاً سياسياً، ولا تعد ممثلاً قومياً للكرد بأجمعهم. وكل ذلك يؤكد أن الإيرانيين (لهم تواجد كثيف في دير الزور والميادين والبوكمال) وسلطة آل الأسد لهم دور كبير في تأجيج الصراع هنا وهناك، أملاً في إضعاف الجانبين العربي والكردي في المنطقة، ليتمكن من السيطرة على الجميع ووضع اليد على المنطقة ومواردها.

ويبقى موقف الجانب الأمريكي هو المنتظر، لأنه يظل الطرف الأقوى والأكثر تأثيراً. فهل سيأخذ شكاوى أهالي المنطقة من مختلف المكونات، خاصة شكاوى الكرد والعرب التي تشمل التحكّم، والتجنيد الإجباري وإنهاك التعليم، وخطف الأطفال، والفساد وانتشار المخدرات…الخ، ويضع حداً لسطوة وفرعنة «ب. ك. ك» عبر «قسد» الأمر الذي قد يساهم في إقناع الأتراك بالابتعاد عن الروس والإيرانيين؛ لا سيما أن تركيا نفسها تدرك أن وجود الإيرانيين على حدودها، سواء في منطقة الجزيرة وبعمق يصل إلى دير الزور والبوكمال يمثل خطراً جيوسياسياً تعرف أبعاده ومآلاته جيداً، وذلك استناداً إلى الأرشيف الضخم الذي يوثق طبيعة العلاقات بينها وبين السلالات أو السلطات التي حكمت إيران.

لقد أعلنت «قسد» رسمياً عن انتهاء المعارك في منطقة دير الزور، ووعدت بالإصلاحات، واحترام تطلعات السكان؛ ولكن المشكلة لم ولن تعالج إذا ما استمرت الأوامر القنديلية هي المتحكمة بقرارات «قسد» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» كما أن السؤال المحوري ما زال قائماً: لماذا تواجدت قوات «ب. ك. ك» ضمن «قسد» في دير الزور أصلاً؟ وما هي الشرعية التي تستند إليها؟

هل سنشهد تحولاً في هذا المجال؟

ولكن بغض النظر عما سيكون، علينا جميعاً أن نعتبر دائماُ السلم الأهلي المجتمعي السوري، خاصة على صعيد العلاقات الوطنية الودية بين العرب والكرد، خطاً أحمر لا يجوز التساهل بشأنه قولاً وموقفاً مع أي عابث.

وسوم: العدد 1050