لتفويض المرعب في الشارع المصري

ما أن تحدث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، عن طلب نزول المواطنين إلى الشارع في ما يتعلق برفض توطين الأشقاء الفلسطينيين في شبه جزيرة سيناء، ودار حوار الإعلام الرسمي حول تفويض رئيس الجمهورية في التعامل مع الأزمة، إلا وانتفض الشارع في اليوم نفسه واليوم التالي، بشعارات ولافتات، لا للتفويض، وتحديداً: (احنا مش بنفوض حد)، وسط حالة من الهلع الشعبي بالغة الدلالة على مخاوف من الممارسات والقرارات الفردية، في استحضار سريع لممارسات سابقة، لم يكن الشعب أبداً طرفاً فيها من قريب أو بعيد، ولم يتم التراجع عنها، رغم الرفض العام، بل صدور أحكام قضائية بشأن بعضها.

ومن بين تلك الممارسات والقرارات، ترسيم حدود البحر الأحمر، وما رافقه من تنازل عن جزيرتين للمملكة العربية السعودية، وترسيم حدود البحر المتوسط، وما رافقه من تنازل عن حقلي غاز لصالح إسرائيل وقبرص، ثم التوقيع على ما يعرف باتفاق إعلان المبادئ مع إثيوبيا حول سد النهضة على مجرى النيل، وما رافقه من عدم النص على أي حق لمصر في المياه، ثم عمليات الاقتراض والديون الخارجية بالغة السوء، والتي بلغت ما يزيد على 37% من حجم إجمالي الناتج المحلي السنوي، ثم البيع المريب للأصول المصرية من شركات ومصانع وفنادق وأراضٍ وموانئ، والافتقاد إلى الشفافية في هذا الشأن، إلى غير ذلك من ممارسات جعلت من مصطلح (التفويض) مرادفاً لمصطلحات التفريط والبيع والتنازل.

المقاومة الفلسطينية أوضحت عمق الفجوة بين الأنظمة العربية والشعوب، حتى أن التعبير الأكثر تداولاً في معظم العواصم هو: أننا جميعاً محتلون بشكل أو بآخر

كان الرئيس السيسي قد طلب أول تفويض من الشعب المصري، عندما كان وزيرا للدفاع في 24 يوليو 2013، طالب من خلاله جموع المصريين «الشرفاء» على حد وصفه، بالنزول إلى الشارع يوم الجمعة 26 يوليو، لمنحه تفويضاً بالحرب على الإرهاب والعنف، بعد ثلاثة أسابيع من الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، في الوقت الذي كان يشهد فيه الشارع احتقاناً كبيراً بين مؤيدين ومعارضين للأحداث الجارية، إلا أن هذا التفويض تم استخدامه في فض اعتصام أنصار مرسي من جماعة الإخوان المسلمين بميداني رابعة العدوية والنهضة بالعاصمة المصرية، بمشاركة قوات من الجيش والشرطة، أسفر ذلك عن مقتل نحو 1000 شخص وإصابة نحو 4000 آخرين، خلال يوم واحد، وهو ما يعرف بمذبحتي رابعة والنهضة. بعد ذلك استخدم السيسي تعبير التفويض أكثر من مرة، كان آخرها خلال مؤتمره الصحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتس الذي زار القاهرة الشهر الماضي، في إطار جولة بالمنطقة لدعم إسرائيل، وقال: إنه يمكن للمصريين الخروج للتظاهر ضد محاولة توطين الفلسطينيين على الأراضي المصرية، طالباً التفويض (لمواجهة هذا الخطر)، إلا أن السحر انقلب على الساحر، ونزل المصريون إلى الشارع في معظم المحافظات بكثافة بالغة، خصوصاً في القاهرة والإسكندرية، إلا إنهم رددوا هتافات مناهضة للتفويض، ومزقوا الصور ولافتات التأييد، وهو ما أسفر في نهاية الأمر عن القبض على عشرات المتظاهرين. نحن إذن أمام قضية ذات شقين مهمين إلى حد كبير، الأول منهما يتعلق بطلب رئيس دولة التفويض من الشعب بين الحين والآخر، على الرغم من وجود دستور يتناول بوضوح اختصاصات رئيس الدولة والحكومة والبرلمان والقضاء، من خلال النص على نظام جمهوري، يمنح الرئيس صلاحيات واسعة، لا تحتاج إلى تفويض من أي نوع، ويمكن الرجوع إلى البرلمان للتفويض في أمور طارئة في حالات الحرب والأوبئة وما شابه ذلك، إلا إنه بدا واضحاً أن الرئيس المصري يحاول أن يؤكد طوال الوقت أن الشعب بجانبه وينفذ ما يطلبه منه في أي وقت ولأي سبب، وهو ما جاء بنتائج عكسية هذه المرة، مما قد يتسبب في عدم اللجوء إلى مثل هذا السلوك مرة أخرى.

الشق الثاني، هو ذلك المتعلق بمخاوف الشعب من التفويض، في إطار حالة خطيرة من عدم الثقة، مستمرة حتى الآن، على الرغم من تأكيد الرئيس شخصياً أنه يرفض توطين أهالي قطاع غزة في سيناء، وأنه يرفض تصفية القضية الفلسطينية، وأنه يدعو إلى فتح معبر رفح لإدخال المساعدات الإنسانية، منتقداً أيضاً القوة المفرطة في التعامل مع المدنيين، ومؤكداً على أهمية إيجاد حل للقضية، ومشيراً إلى حل الدولتين، وإلى أهمية القضية الفلسطينية تاريخياً، إلى غير ذلك من تصريحات كانت كفيلة بإزالة أسباب عدم الثقة. إلا أن المبررات التي ساقها الرئيس السيسي لكل ما سبق، كانت كفيلة بزيادة حالة الاحتقان وعدم الثقة، بل التشكيك في كل ما يصدر من تصريحات في هذا الشأن لعدة أسباب، أهمها:

أولاً: جاء تبرير عدم الموافقة على التوطين مفجعاً، ذلك أنه لم يستند إلى الحفاظ على القضية الفلسطينية من الاندثار، أو حق استمرار الفلسطينيين في أرضهم التاريخية، أو حتى حماية الأمن القومي المصري، وإنما برر ذلك بالخوف من انطلاق عمليات مقاومة فلسطينية من داخل الحدود المصرية هذه المرة، بما يجبر إسرائيل على الرد، وهنا يمكن أن تتفجر مشاكل مع إسرائيل!

ثانياً: في مفاجأة من العيار الثقيل، اقترح السيسي على إسرائيل ترحيل شعب غزة إلى صحراء النقب، إلى حين القضاء على المقاومة (هكذا قال)، ثم بعد ذلك يمكنكم إعادتهم (إن شئتم) إلى القطاع مرة أخرى، بما يشير إلى موافقة ضمنية، بل صريحة جداً، على دحر المقاومة الفلسطينية، وكأنه هنا يتبنى الموقف الإسرائيلي من أوسع الأبواب، على الرغم من حالة الاحتقان السائدة في الشارع المصري، بشكل عام، تجاه إسرائيل والولايات المتحدة والموقف الغربي الداعم للاحتلال والقتل والقصف.

ثالثاً: كانت ممارسات الأعوام السابقة على أرض سيناء، خصوصاً في المناطق المحاذية لقطاع غزة، مثيرة للريبة والقلق، حيث تم تهجير السكان من رفح والعريش والشيخ زويد، بزعم مواجهة الإرهاب، كما تم هدم منازلهم ومساجدهم ومنشآتهم في مساحات كبيرة ومتفاوتة، ثم بعد ذلك قامت الدولة ببناء مجموعة من العمارات السكنية بزعم إعادة من تم تهجيرهم، إلا أن ذلك لم يحدث، وظلت العمارات شاغرة حتى الآن، بما يشير إلى أن هناك أهدافاً أخرى غير معلنة، كما يقول المهجرون.

من هنا كان للمصريين الحق في رفض التفويض، وما وراء التفويض، وكل ما يمت بصلة إلى التفويض من قريب أو بعيد، بعد أن أصبح المصطلح يمثل حالة من الخداع بين الحاكم والمحكوم، وهي حالة غريبة جداً، تمثل نشازاً في علاقة الشعوب بقيادتها السياسية والتنفيذية، في غياب الشفافية، أو توافق الرؤى، أو حتى التشاور، وهو ما ترى القيادة السياسية المصرية تحديداً، أنها أمور تمثل ضياعاً للوقت واستهلاكاً للجهد، والأمثلة على ذلك كثيرة، بدءاً من رفض الاعتماد على دراسات الجدوى قبل إقامة أي مشروع، (لعدم أهميتها!)، وانتهاءً بالتعبير الغريب لرئيس الجمهورية شخصياً (ما تسمعوش كلام حد غيري!).

يجب أن نضع في الاعتبار أن كل الأنظمة العربية التي عقدت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، مثل مصر والأردن، أو أقامت علاقات على مستوى فتح سفارات معها، مثل المغرب والإمارات والبحرين، أو التي دخلت في مفاوضات تطبيع مثل المملكة السعودية والسودان، لم تطلب أي منها تفويضاً شعبيا للإقدام على مثل هذه الخطوة، على الرغم من كونها أمام تطور خطير على المستوى السياسي، ومستفز إلى أبعد مدى على المستوى الشعبي، وهو الأمر الذي كان يجب أن يوضع في الاعتبار ما دامت القضية الفلسطينية تراوح مكانها، وما دامت هناك أرض عربية محتلة في سوريا ولبنان، وما دامت الأطماع الصهيونية في المنطقة معلنة، وهو ما يوجب على الشعوب فرض إرادتها مستقبلا، في ما يتعلق خصوصاً بالمفاوضات السرية، والاتفاقيات المشبوهة، والتنازلات دون مقابل. في الوقت نفسه يجب التأكيد على أن طلب التفويض إذا كان يبدو منه مجرد الاستعراض الداخلي والخارجي، ثم يتم استغلاله في نهاية الأمر في ما يضر بالأوطان للحصول على مكاسب شخصية، أو للتخفيف من حدة انتقادات دولية، فإننا أمام أزمة حقيقية من شأنها توسيع الهوة بين الجانبين، في وقت أثبتت فيه مجريات الأحداث بالمنطقة خلال العقد الماضي تحديداً، أن كل ذلك بمثابة نار تحت الرماد، تعلن عن نفسها بين لحظة وأخرى بالاشتعال هنا وهناك، لتحرق الأخضر واليابس، كما هو الحال الآن في أكثر من بقعة. على أية حال، إذا كانت المقاومة الباسلة في فلسطين المحتلة، قد كشفت عن حقائق مزرية لم تكن واضحة بهذا الشكل، في ما يتعلق بالموقف العربي الرسمي من المقاومة، وكشفت عن خلل في العلاقات مع دول الغرب بشكل خاص، إلا أنها في الوقت نفسه أوضحت عمق الفجوة بين الأنظمة العربية والشعوب، حتى أن التعبير الأكثر تداولاً في معظم العواصم وعلى شبكات التواصل الاجتماعي هو: أننا جميعاً محتلون بشكل أو بآخر، وذلك بسبب التخاذل القيادي الحاصل من المحيط إلى الخليج، بما يجعل من التفويض مستقبلاً، لأي سبب، ضرباً من الخيال، وبما يؤكد أنه قد حان وقت تصحيح المسار، والمؤشرات عديدة.

وسوم: العدد 1057