متى ستنتقل منظومتنا التربوية من مرحلة تجريب سلسلات الإصلاح المتتالية والفاشلة إلى مرحلة الاستقرار على إصلاح حقيقي وموفق؟؟

لقد ثبت خلال ما يقرب من سبعة عقود  قد مرت على استقلال البلاد أن قطاع التربية عندنا، شأنه كما يقول المثل الشعبي المغربي شأن رأس اليتيم الذي يتدرب على الحلاقة فيه المبتدئون في احترافها . إنه بالفعل قطاع يتيم ، لأنه عدم  الكفاءات التي تصلح سكة قطاره كي ينطلق الانطلاقة الموفقة التي لا تعثر بعدها.

وإن المرء حين يدخل بهو المديرية الإقليمية بمدينة وجدة على سبيل المثال ، تطالعه صور العديد من الوزراء الذين تنابوا على تدبير شأن هذه المنظومة ، وهم جميعا أحياؤهم وأمواتهم مسؤولون عن الفشل في إصلاح مسارها . وها هم رجال ونساء التربية اليوم ، و بعد ما يقرب من سبعة عقود لا يزالون يخرجون في مسيرات ومظاهرات مطالبين بما يصون كرامتهم معاملة ، وأجرا ، وظروف عمل .

ولا زالت الوزارة الوصية على قطاع التربية كما كانت دائما، تلوح بالتهديد والوعيد في وجه أطرها كلما أضربوا عن العمل ، وتفرض ما تسميه إصلاح المنظومة فرضا بعيدا عن أي شكل من أشكال التشاور ، وما هو بإصلاح إذ لو كان كذلك لما كانت كل هذه المظاهرات التي صارت في الآونة الأخيرة شبه يومية ، وصدق المثل الشعبي القائل : " لا يفر الهر من بيت العرس " تماما كما لا تتظاهر أطر التربية والتعليم والمنظومة صالحة  والحقوق بالغة أصحابها.

ومعلوم أن الذي أوقع الوزارة في المأزق الحالي الذي زادت معه وتيرة الاضرابات المتتالية، هو وقوعها في  التقليد ، والاقتباس الحرفي  من أسوإ نموذج تربوي في العالم ، ألا وهو النموذج الفرنسي . ولقد ضجت طويلا  أصوات غيورة محذرة من  هذه التبعية  البليدة لمحتل الأمس الذي عمل كل ما في وسعه لطمس معالم هويتنا العربية والأمازيغية الإسلامية  حين كان يحتل بلادنا ، وبعد رحيله عنها ، ولكنها ظلت صدى صرخات في واد كما يقال، لأن من صوت عليهم الشعب شرعوا لهذه التبعية ، كما شرعوا لغيرها مما لم يرضه من بوائق في ظل ظرف لا حاجة للخوض فيه . وكان من نتيجة هذا التشريع المشئوم  والمتهورأن اختير لتدبير الشأن التربوي وزير متشبع بالثقافة الفرنسية إلى حد التخمة ، وجاء ليدبر هذا الشأن تدبيره شأن وزارة الداخلية التي وليها من قبل ، ولهذا طغى عليه أسلوب العسكرية  وعيدا ، وتهديدا ، وإصرارا على فرض الأوامر في قطاع  هو أبعد ما يكون عن الأوامر العسكرية ، وهو قطاع  الحوار المتزن والمعقول ، والمراعي لمصلحة قطاع هو قاطرة التنمية في بلادنا.

ماذا كانت ستخسر الحكومة الحالية لو أنها قبلت بخيار التوظيف عوض خيار التعاقد ، وقد عبر من يهمهم الأمر عن توجسهم من هذا الأخير، لأنه يوحي بسوء نية وطوية  من اصطنعوا التعاقد ، بينما خيار التوظيف المجرب والمألوف لدينا  كان دائما  مدعاة لطمأنينة أطر وزارة التربية  والثقة فيها . ولا شك أن رئيس الحكومة الحالي وهو يدعو هذه الأطر إلى وضع الثقة فيما طبخ للمنظومة التربوية مؤخرا  ، أو على حد قوله : ديرو النية " ، ولعله اقتبس العبارة من مدرب الفريق الوطني لكرة القدم ، ولكنه استعملها ساخرا لا جادا ، قد عبر عن وعيه بهاجس التعاقد الذي تعبر عنه الشغيلة التعليمية بتظاهراتها وأضرابتها .

إن إقرار التوظيف عوض التعاقد كفيل  باستقرار المنظومة التربوية ، وهذا لا يعني تعطيل إجراءات المراقبة والمساءلة والمحاسبة  مع تبنيه ، والتي من حق الوزارة الوصية المشغلة ، ولها أن تمارسه كما كان عليه الحال لسنوات خلت .

وإن الوزارة قد تنكبت الطرق الصحيحة لإصلاح المنظومة حين عطلت مراكز تكوين أطرها على اختلاف مهامهم . وأول ما عطلته مركز تكوين المفتشين على اختلاف تخصصاتهم لسنوات، الشيء الذين صاروا في طور الانقراض، لأنهم كانوا شريحة مستعصية على اللوبي المركزي الذي لا يتغير أبدا بتناوب الوزراء على الوزارة ، وهم يستغلون جهل وعدم خبرة وكفاءة هؤلاء الوزراء لتكريس ما درجوا عليه من تدبير فاشل ، وهم يتملقونهم من أجل الاحتفاظ بمناصبهم ، وبامتيازاتهم ، في غياب من يسائلهم أو يحاسبهم .

ولقد كان جهاز المراقبة والتفتيش وهو صمام أمان المنظومة التربوية وحارسها يوافي ذلك اللوبي المتعنت  بتقارير عن كل الاختلالات التي تهددها ، والتي  هو مصدرها الأول ، إلا أن تلك التقارير كان مصيرها سلة المهملات على الدوام .

ولقد ظل هذا الجهاز يطالب بإحداث مراكز تكوين خاصة بكل أطر التربية من مديرين، ورؤساء أشغال ، ونظّار ، وحراس عامين ، ومعدين ، وموظفي الوزارة ،والأكاديميات ومديروها ، والمديريات  ومديروها ، بحيث لا يشغل هذه المهام إلا من تلقون تكوينا نظريا وعمليا صحيحا ، الشيء يجعل قطيعة مع الإعداد العشوائي لهذه الأطر كما هو الحال ، والتي تنقل من مهام إلى أخرى ، لا تكوين لها فيها ، وهو ما يجعل تدبير المنظومة التربوية  عبارة عن حقل تجارب ، ويجعل الناشئة المتعلمة فئران لتلك التجارب ، وهو مغامرة غير محمودة العواقب.  

إن أول الإصلاح هو فتح مراكز التكوين المختلفة، مع الجدية في انتقاء الساهرين على تدبيرها  تخصصا ، وكفاءة، وعلما، ومعرفة ، وجدية ، ومسؤولية ، وضميرا حيا، وأخلاقا .

ولا بد من فترات تكوين كافية لتكون مخرجاتها في المستوى المطلوب ، على أساس أن تستمر المتابعة من طرف هيآت المراقبة المختصة ، إلى جانب استمرار حلقات التكوين المستمر بعد فترات زمنية معينة لتحيين المعلومات ، ومسايرة المستجدات في الميادين الخاصة بالمنظومة التربوية .

ولا بد من رواتب  محترمة لكل أطر الوزارة تصون كرامتهم ، ولا بد للمهام التي تتطلب مجودات إضافية زائدة عن المهام الرسمية من تعويضات مشجعة على الجد والإتقان ، والمردودية الحسنة .

ودون هذه المقترحات العملية  التي ليست من قبيل الوهم أو المستحيل،  لن يراوح إصلاح المنظومة التربوية الحالي مكانه ، ولن تهدأ الساحة التربوية ، وسوف يزداد الاحتقان بإطراد، والخاسر في كل هذا هو الناشئة التربوية التي هي رأس مال الوطن الذي يتأثر لا محالة  بخسارتها .

وأريد أن أختم بضرورة تفعيل فكرة ربط التعليم بسوق الشغل الذي يرفع دائما نظريا كشعار  دون إجراء ، وأول ما يبدأ به هو إصلاح التعليم العالي بجامعاته ، ومدارسه العليا من طريق واحد لا بديل عنه، ألا وهو الإنفاق على البحث العلمي الجاد ، ومراقبة تبذير الأموال التي يجب أن تخصص له عوض دعم المهرجانات والحفلات والترهات. ولا بد من إلزام كبريات الشركات في دعم الانفاق على هذا البحث العلمي كما هو الحال في دول نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كما بلغني من مصدر موثوق  بلد تركيا التي استطاع طلبتها صنع المسيرات والسيارات،والأجهزة المتطورة ... وغيرها ، والتي تدعمهم دولتهم إلى جانب دعم الشركات التي يعود عليها هذا البحث بالنفع ، وبالأرباح الطائلة . فهلا سرنا على نهج هذا البلد الذي سار يخطو خطوات وازنة في النمو، والتطور دون أن نطالب بالسير على نهج من فاقوه تطورا علميا  وتكنولوجيا حتى لا نتهم بالحلم والخيال والوهم  .

ولا شك أن هذا النداء إن صح أن يسمى كذلك، لن يلقى حتما اهتماما، لأننا تعودنا على استكبار المسؤولين في بلادنا عن الانصات إلى مثل هذا النداءات ، وعدم الاكتراث بها ،علما بأنهم في دعايتهم يزعمون أنهم يشركون مختلف الفعاليات في ما يسمونه إصلاح المنظومة التربوية ، والحقيقة أنهم لا يشركون إلا من يشاءون ،ولو كانوا أبعد ما يكونون عن الخبرة بالمنظومة التربوية، بل أجهل بما يصلحها ،وكأن الأرحام في وطننا العزيز  قد عقمت أن تلد أمثالهم ، وفيهم من جُرّبوا في تدبير هذه المنظومة، ففشلوا ، ولكنهم لا زالوا أطرافا في الحوار الخاص بإصلاحها ، وصدق المثل الشعبي القائل : " اللي ما جا مع العروس ما يجي مع أمها " . وإلى حين مجيء أم العروس بما لم تأت به ابنتها ستظل منظومتنا التربوية تنتظر فرج الله عز وجل برجال صالحين يصلحونها . 

وسوم: العدد 1058